قصيدة الشاعر اليتيم:
د.محمد صابر عبيد
((قراءة في ستراتيجية العلامة الشعرية))إن التقاط جوهر العلامة الشعرية في
النص الشعري، واقتناص حساسيتها واختراق مجالها الحيوي، والتوصل ــ عبر مزيد
من الفحص والمعاينة والتقصّي والحفر ــ بستراتيجيتها السيميائية، يفضي
ضرورةً إلى مستوى جديد وحيوي ونشيط وفعّال من مستويات القراءة، يجب أن
ينتهي إلى إدراك وتحسس وتمثّل المقولة الجمالية والفنية والفكرية التي
يكتنز بها النص ويشيّد فضاءه على أساسها، لبلوغ مرحلة الكشف الشعري حيث
تتمكّن القراءة من ترويض النص وإخضاعه لقوانينها.
الشاعر محمد الماغوط
هو شاعر ((اليُتم)) الأول في الشعرية العربية الحديثة، وعلامة اليتم علامة
مركزية حاضرة وضاغطة ومهيمنة في شعر الماغوط كلّه، وفي مسرحياته ومقالاته،
وربما في حياته أيضاً، فإحساسه باليتم إحساس دفين وعميق وأصيل، ومتجذّر في
باطنية الروح والتجربة والرؤية . يتبدّى ذلك على نحو محتشد ومكتظّ في
الكثير من قصائده، ويتحلّى يتمه بروح شديدة العنف والقسوة والوحشية والرغبة
العالية بالتدمير، تدمير اللغة والفكرة والرمز، ومن ثمّ التعبير والتدليل
والتشكيل، وصولاً ــ وبحركة التفاف دائرية ــ إلى قهر الذات في وجودها
الماثل أمام شاشة الفعل .
وسرعان ما تتبدّى هذه العلامة سريعاً في
مستويات كلامه الشعري وطبقاته وبطاناته وظلاله وكموناته وفخاخه ورموزه، وهو
يتحرّك بحرية ورشاقة ودينامية في المكان والزمن والتاريخ والراهن
والمستقبل والمحيط والفكرة والوطن والمنفى والحب والجسد واللون والطبيعة
والحلم والذاكرة والنصر والوهم والهزيمة والإحباط والانكسار والبكاء والفقر
والحضور والغياب، وربما في كلّ شيء يمكن أن يتجلّى، أو يتحرّك، أو يضيء،
أو يبرق، في فضاء القصيدة .
حالة اليتم ــ بعلامة الانفتاح والانغلاق
التي تحتوي إشكاليتها الجدلية ــ تسهم في تحويل صاحبها المنغمس في عنائها
والمرتهن بقوّة سلطتها، من وضعية إنسانية إلى وضعية إنسانية أخرى مختلفة،
إذ إن وضعية ما قبل اليتم تحيل عادةً على سند وأرضية وغطاء توفّر قدراً
عالياً من الطمأنينة والاستقرار، حيث لا يتوجب عليه التصدي لذاته والآخر
والماحول عبر تثوير طاقة الذات في صراع مركّب لترتيب علاقة جديدة بالآخر
والأشياء، تقوم في جزء كبير منها على ضرورة حضور الجرأة والمغامرة وتبنّي
الموقف الذاتي السافر بعيداً عن السند المرجعي، كما هو الحال في فضاء اليتم
إذ يجد ظهره بلا رصيد، وأرضيته بلا جاذبية، وسماءه بلا سقف، وخطوط دفاعاته
بلا حماية، وعليه أن يتحرّك في هذا السبيل إلى الأمام والخلف، وإلى اليمين
واليسار، وإلى الأعلى والأسفل، في آنٍ معاً، في قناعة لا بدّ لها أن
تتكرّس بضرورة تغيير المصير عبر قوّة ذاتية مفردة وأحادية .
الأعمال
الشعرية لمحمد الماغوط التي ضمّها كتابه الموسوم بـ ((أعمال محمد الماغوط))
تكوّنت من المجموعات الشعرية الثلاث الأُول له، وهي ((حزن في ضوء القمر/
غرفة بملايين الجدران/ الفرح ليس مهنتي))، ولا شك ــ قطعاً ــ في أن شهرته
الشعرية وحقيقة فنية منجزه الشعري تدينان بالولاء الحاسم لهذه المجموعات،
وهي تمثّل الصورة المشرقة ذات المتن الأصيل لقصيدة النثر العربية أيضاً .
ولو
عاينّا ستراتيجية التسمية في العتبة العنوانية لهذه المجموعات لوجدنا أن
فضاء ((اليتم)) بعلامته الشعرية البالغة التجلّي والحضور، مشتغل على نحو
عميق وفاعل وحيوي في كلّ عنوان منها، وبأسلوبية تشكيلية تحيل على محنة
الأنا الشعرية وأزمتها في التعامل مع المحيط الطبيعي والمكاني والعاطفي .
((حزن
في ضوء القمر)) تعبير شعري عنواني يحيل إحالة قاسية على فضاء اليتم،
بالرغم من رومانسيته المتجلية في حدود تنضيده اللغوي وسلسلته الكلامية
اللسانية، وتتبدّى قسوة الإحالة هنا بما تفرزه الدوال من دلالات الوحدة
والعزلة وتبئير الذات وانطوائها على أنموذجها، على النحو الذي يتيح للحزن
بمعناه التأملي الكثيف والحاشد أن يشتغل بأعلى طاقته الإنتاجية، ويعمل على
عزل الخارج وإقصائه وإماتته تماماً بحيث تكون فيه الذات الشاعرة في مقام
اليتم المطلق والخالد .
((غرفة بملايين الجدران)) تشكيل فانتازي وصفي
باذخ للمكان يحرمه فوراً من محدوديته وألفته، وقدرة الطاقة البصرية الرائية
على الإحاطة به وتمثّله، ويضعه في متاهة تضيع فيها ذاته المتمركزة وتتشتت
قدرتها على الإحاطة والتحديد . فالغرفة التقليدية ذات الجدران الأربعة
المعروفة تمثل مكاناً أليفاً وقابلاً للتعايش بسهولة، بوسع الذات المتمركزة
فيه التعامل معه وفهمه وإدراك حدوده ومدياته، على النحو الذي تبدو فيه
الأشياء طبيعية وواضحة وممكنة وإيجابية، والقدرة على التواصل مع الخارج
منطقية ومتاحة في أية لحظة .
لكن تحوّل الجدران الأربعة إلى ((ملايين))
يهشّم وحدة العدد ومحدوديته ووضوحه، وينسف ميزان الألفة والطمأنينة، ويوقف
دينامية التعامل الميثاقي بين الأشياء والأدوات المؤلّفة للمكان، ويقلص
القدرة البصرية على الإحاطة بالمشهد المنظور/المرئي على النحو الذي يفتح
مجال النظر على تعددية هائلة مخيفة، تضع الذات في منطقة ضياع مروّعة تبعد
عنها إمكانية الاتصال والتواصل والاستعانة بالآخر الإنساني تماماً، بحيث
تجعلها أمام اندلاع مشاعر اليتم وسيادتها والانغماس فيها بلا حدود .
أما
عنوان مجموعته الشعرية الثالثة ((الفرح ليس مهنتي)) فإنه يندرج في السياق
التعبيري والرمزي والسيميائي ذاته، إذ إن نفي الفرح يعني ــ سياقياً ــ
إثبات الحزن أولاً، وربط الحالة المنفية ((الفرح)) بالوضع المهني يعني
ثانياً ضرورةً إثبات الحالة الضد ((الحزن)) بالوضع المهني، الذي سيصبح
شاغراً بعد تجسيد النفي على أرض الواقع، ومهيئاً لاستقبال البديل الضدّي
حيث بوسعه ملء الفراغ .إذ يكون فيه الوجه الآخر المقترح للعنوان هو ((الحزن
مهنتي)) في سياق معين من سياقات التأويل الممكنة، التي تحيل إحالة مباشرة
على معنى التيه والضياع والتشيؤ في ((غرفة بملايين الجدران))، وتتماهى
تماهياً دلالياً وتعبيرياً وإيقاعياً مع تكريس وتعميق صورة الحزن ومهنيته
في ((حزن في ضوء القمر))، على النحو الذي يتكثّف ويتعالى ويتجسّد ويتعمّق
فضاء اليتم في عموم التجربة .
ويسهم فضاء اليتم هذا في تحويل الحالة إلى
موضوع شعري أصيل، أتاحت له قصيدة النثر العربية الماغوطية حقلاً تعبيرياً
خصباً، يستجيب فيه استجابة شكلية وبنائية وإيقاعية عفوية غاية في الثراء
والانفتاح، حرثته أدوات الشاعر الأسلوبية بكفاءة عالية وبصلاحية تعبير لا
نهاية لها .
قصيدة محمد الماغوط الموسومة بـ ((اليتيم))(1) هي قصيدة
مركزية في هذا السياق بدلالة فضاء العنونة، وهو يحيل إحالة مباشرة وصريحة
ومعرّفة على مناخ هذه العلامة الشعرية المتفشيّة في شعره . ولا ريب في أن
عتبة العنوان هنا ((اليتيم)) وعلى هذا النحو الضارب في الوضوح والإبانة
والتصريح والتعريف والإعلان، تجسّد أيما تجسيد إشكالية المعنى الشعري
المرتهن بموضوع شعري معين وموصوف يرتقي إلى مستوى التجربة، ويشكّل علامة
سيميائية بارزة من العلامات الدالّة على مركزية هذه الحال الشعرية،
واشتغالها المتواصل والعميق في جوهر الفعل الشعري الماغوطي .
تنفتح
استهلالية القصيدة بالصوت التقليدي الموجع ((آه))، وهو ينفرش على بياض
السطر وحيداً ومعزولاً ويتيماً، يبشّر بكم هائل من الألم والمعاناة
والمكابدة في قابل حركة الدوال في القصيدة، وكأنه صرخة مدويّة قادمة من
أقاصي التاريخ تحكي قصة وجع قادم في فضاء المدوّنة الشعرية، تتضمّنها تجربة
القصيدة بعمق، وتوحي بها، وتشير إليها، بوصفها علامة مكثّفة تختزل الحكاية
وتلخصّها صوتياً ودلالياً :
آه
يهبط الصوت الموجع ((آه)) ــ خطياً
في سلسلة الكلام الشعري ــ عمودياً على مقام ((الحلم))، لكنه على الصعيد
السيميائي يصعد إلى هذا المقام ولا يهبط إليه، وفي ذلك مفارقة بنائية
ودلالية ولسانية تعبيرية في آن معاً:
الحلم ..
الحلم ..
وإمعاناً
في تكريس مقام الحلم فإن الدال الحلمي يتكرر في سطرين متلاحقين ومتناظرين
ومتوازيين على نحو متساوٍ تماماً، وكأن الـ ((آه)) الصاعدة / الهابطة إلى
الحلم تختزل أزمتها فيه، وتضع تجربتها في إطاره وضمن فضائه .
يقف فضاء
الاستهلال الشعري ــ معلّقاً بالعنوان ــ عند هذا الحد ليسمح للراوي الذاتي
الشعري بممارسة فعله السرد ــ شعري في سياق المتن النصّي، ورواية حكايته
استناداً إلى المعطى الفضائي السيميائي الذي كرّسته عتبة العنونة من جهة،
وعتبة الاستهلال من جهة أخرى :
عربتي الذهبية الصلبة
تحطمتْ، وتفرّق شمل عجلاتها
في كل مكان
إذ
تبدأ حكاية الراوي الذاتي وكأنه يقصّها من نهايتها، بعد أن يضع ذاته في
موقف العزلة والوحشة والوحدة، وقد أُقصي عن أداته التي كانت تمثّل معنى
حيويته ووجوده وقدرته على الحركة والفعل والقوّة، فعزل الذات الراوية عن
أداة الحركة ((عربتي))، وثرائها وسطوتها وبريقها ((الذهبية))، وقوّتها
وجبروتها ((الصلبة))، وتنازلها عن هذه الصفات الطاغية بفعل هول الفعل
((تحطمت))، وتمزيق وحدتها ((تفرّق شمل عجلاتها))، وانتشار شظاياها في
الأرجاء ((في كل مكان))، إنما يضع الذات في عمق حالة اليتم عبر المفارقة
الحاصلة بين السطر الشعري الأول في هذا المقطع ((عربتي الذهبية الصلبة))،
وهو يذهب إلى تصوير مشهد وصفي عالي التدليل على القوة والثراء والبريق،
والسطر الشعري الثاني ((تحطمت، وتفرّق ....))، وهو يذهب إلى تصوير مشهد
وصفي محتدم يقوّض صلابة المشهد الأول ويعزله عن أي معنى للقوة والثراء .
هنا
تنتهي رواية الحكاية وتنتقل الذات الشعرية الراوية إلى الداخل الشعري
الذاتي، بعد أن أُقصي الخارج بحصول حالة اليتم وضياع فرصة الانتماء إلى
حساسية الخارج، وكان لا بدّ من إيجاد ملاذ بوسعه احتواء الأزمة وتوفير بديل
من أجل الاستمرار والديمومة، ولم يكن سوى الحلم ملاذاً طبيعياً وخاصاً
يمكن للذات فيه أن تعيد إنتاج قوتها وتستعيد ما فقدته في حمّى الواقع،
ولاسيما أن الإشارة إليه ظهرت على نحو مكرّس وضاغط في المحطة الاستهلالية
الثانية بعد عتبة العنوان :
حلمتُ ذات ليلة بالربيع
وعندما استيقظت
كانت الزهور تغطي وسادتي
ينفتح
الحلم الأول على الآخر الطبيعي بحكم قربه ورومانسيته وقدرته على توفير
الأمان والطمأنينة والرحابة، وقد انتقى الحلم من الطبيعة مفصلاً نوعياً
حافلاً على نحو خاص بكلّ هذه الدلالات والمعاني والصور ((الربيع))، إنه
يمثل بلاغة الطبيعة وفضاءها الأندر والأمثل الذي بوسعه أن يكون ملاذاً
وبقدر كبير من الاستطاعة والحيوية والكفاءة، لتمتدّ هذه القوّة الرمزية على
بساط الواقع ((وعندما استيقظت))، وتواصل تفعيل طاقتها على إنقاذ الذات
الشاعرة من أزمتها وتوفير أجمل خلاص لها ((الزهور تغطّي وسادتي))، على
النحو الذي يحقق مصالحة متناهية بين الحلم واليقظة، بحيث لا توجد فواصل بين
فعل الحلم وفعل اليقظة ضمن إطار الفاعل الطبيعي .
يواصل الحلم الثاني
اشتغاله على الفاعل الطبيعي بدلالة قدرته على الاحتواء وتمثيل الخلاص،
وينحصر الانتقاء على نحو أكثر تخصيصاً في أنموذج الطبيعة إذ تذهب الأنا
الشاعرة إلى استدعاء ((البحر)) في الفضاء الحلمي :
وحلمت مرة بالبحر
وفي الصباح
كان فراشي مليئا بالأصداف
وزعانف السمك
وفي
الإطار ذاته يستجيب الحلم لرغبة الواقع في التواصل والالتحام والتوحّد،
فيمتدّ فضاء الحلم إلى فضاء اليقظة ((في الصباح)) من أجل توفير فرصة خلاص
رمزي، والأمل بإمكانية وجود مفاتيح بوسعها التخفيف من أزمة اليتم في الداخل
الشخصاني، إذ إن ((كان فراشي مليئاً بالأصداف وزعانف السمك)) إنما يعني
فيما يعنيه نوعاً من آلية التحقق الرمزي لفضاء الحلم على سرير الواقع،
وسعياً لاستدراك محنة الذات والاجتهاد في إنقاذها، وإعادة إنتاج واقعها بما
يستجيب لقوّة الحلم .
لاشك في أن أمور الحكاية الشعرية التي وضعها
الراوي الذاتي بين يدي القراءة بانسيابية عالية تسير على ما يرام، وظلّ
الحلم المعلّق في ضمير الحكاية فعّالاً بكفاءة إجرائية عالية في الاستجابة
لرغبة الذات الشاعرة في دمج الحلم بالواقع، كوسيلة مقترحة للخلاص ودفن حالة
اليتم في باطنية هذه الوحدة الرمزية بينهما .
إلا أن الانعطافة
الاستدراكية الهائلة ((ولكن)) التي تحصل فيما بعد، وتُحدِث تحولاً
وانحرافاً خطيراً في مسار انسيابية الحكاية الشعرية، ما تلبث أن تحطم عقد
الطمأنينة وتنسف قاعدة التجاوب العالي والغزل الرقيق بين الحلم والواقع،
ولاسيما حين يتجرأ الحلم على دخول المناطق الخطرة، ويغامر بعبور الخطوط
الحمر :
ولكن عندما حلمت بالحرية
كانت الحراب
تطوّق عنقي كهالة الصباح .
إذ
يتخلّى الحلم هنا عن وداعته وإنسانيته وديمقراطيته، ليتحوّل إلى كابوس
مفعم بالعنف والقسوة والجبروت والطغيان والاستبداد، فالحلم ((بالحرية)) ليس
متاحاً كما هي الحال في الحلم بالربيع أو الحلم بالطبيعة، لأن الطبيعة
والبحر وما يندرج في سياقهما من مفردات تبقى متاحة للجميع في ظروف لا تهدّد
أي سلطة من السلطات التي يتوقف وجودها وحياتها واستمرارها على القمع
والاضطهاد .
إلا أن ((الحرية)) تعني فيما تعنيه تهديداً سافراً لهذه
الهيمنة والتسلّط والقمع، بحيث تتحوّل في هذا المضمار إلى خط أحمر لا ينبغي
تجاوزه أو الاحتكاك به ــ حتى على مستوى الحلم ـ، وهو ما يشي بالكارثة
التي تجعل عنق الحال بها مطوّقة بالحراب، وقد أخذت تشبيهها الكارثي العميق
((كهالة الصباح)) إمعاناً في إحاطتها الشاملة بالعنق حيث لا خلاص، وحيث
يبلغ الكتم والتصميت أعلى درجاته .
إن آلية الحجب التي تتسلّط على
الحالم بالحرية تسهم في فصله عن الواقع فصلاً تاماً، بحكم ما آلت إليه
العنق من مصير مطوّق يسلبها حق الحياة :
... فلن تجدوني بعد الآن
في المرافئ أو بين القطارات
تتمثّل
الحرية هنا في إطار التشكّل الشعري للحجب في السفر خصوصاً، بوصفه حقاً
إنسانياً طبيعياً، لكنه يتعرّض للحجب والمنع في إطار اقتراف جريمة الحلم
الممنوع، إذ إن سياسة الحجب والمنع في هذا السياق تشعر الإنسان باليتم، فهو
يفتقد ركناً أساساً من أركان بناء حياته، يجعل الذات الشاعرة تنفي وجودها
بعد الآن ((في المرافئ أو في القطارات))، وتنحّي من المفردات المكانية التي
تحيل على السفر الخارجي ((المطارات))، لأنها لا تناسب المقام اليتمي الذي
تشتغل عليه القصيدة في إطار حال الفقر المهيمن على المسار السرد شعري
للراوي.
وحين يكون لا بدّ من تعويض مناسب للفقدان الإجرائي الكبير الذي
تتعرّض له الذات الشاعرة وهي تروي حكايتها مع الحلم بوصفه سبباً من أسباب
حصول اليتم، فإن الواقع السرد شعري يقتضي ابتكار البديل حتى ولو تفتّقت
الذهنية الحكائية داخل نظام السرد الشعري عن رؤية رمزية للبديل، إذ من
دونها تتعرّض القصيدة لخلل بنائي، ويتعرّض نظام العلامات فيها إلى خلل
سيميائي .
فنفي المكان في ((المرافئ/القطارات)) وكلّ ما يتصل بذلك من
إنجاز معنى السفر في الكيان اللساني الشعري، يعني ضرورةً في سياق المنهج
الجدلي التناظري إثبات مكان مقابل يحقق نوعاً من التعادلية في الموازنة
الشعرية القائمة على هذا التشكيل في القصيدة، وهو ما تنجزه لحظة الإقفال
الشعرية التي يعلن فيها الراوي الذاتي الشعري عن مكان إقامته البديل بعد
حسم حالة الفقدان التام للمكان المنفي :
ستجدونني هناك ...
في المكتبات العامة
نائماً على خرائط أوربا
نوم اليتيم على الرصيف
حيث فمي يلامس أكثر من نهر
ودموعي تسيل من قارة إلى قارة
الراوي
إذن يلفت النظر إلى مكان الوجود الخاص به ((ستجدونني/ هناك))، وحين نتوصل
بالإشارة المكانية المعنية نجد أنه مكان ورقي ((في المكتبات العامة))، حيث
يتحوّل السفر من سفر حقيقي فعلي يقتضي ارتياد المرافئ والقطارات، إلى سفر
ذهني متخيّل ينجز على الورق ويختصر المسافات بوساطة سرعة المتخيّل .
ما
يلبث الحال ((نائماً)) أن يحدث مفارقة سياقية بين فكرة السفر التي تنهض على
الاستعداد الكبير للحركة والفعل، وحال النوم وهي تناقض تماماً إمكانية
القيام بفعل من هذا النوع لأنها تنطوي على علامة الانقطاع عن الخارج
الحركي، إلا أن المكان الورقي الذي تحوّل إلى سرير للنوم ((خرائط أوربا))،
سرعان ما يحيل المفارقة السابقة إلى مفارقة أخرى ذات علامة سيميائية أكثر
أسىً ورعباً، يتكرّس أنموذجها من خلال تأويل النوم بدلالة ((خرائط أوربا))
تأويلاً رمزياً، يقوم على فكرة أن إقفال الخارج اليتيم بوساطة النوم يعني
بالمقابل انفتاحاً لا نهائياً على الداخل بوساطة الحلم .
على الرغم من
أن السياق التشبيهي ((نوم اليتيم على الرصيف)) يمثل استحضاراً إجبارياً
للتذكير بأنموذج الواقع المأساوي الجالب لوضعية اليتم، حيث تتحجر فكرة
السفر الداخلي التخييلي الحالم أمام قسوة التشبيه الحاصل بين ((خرائط
أوربا)) و ((الرصيف))، ويقصى بسبب ذلك الحلم من إمكانية تحقيق بديل موضوعي
لليتم والفقدان، على النحو الذي يتحوّل فيه الراوي إلى جسد حيّ يعتصر فكرة
التخييل والحلم ويختزلها إلى ((فمي يلامس أكثر من نهر))، من أجل أن يتحرّر
الحلم على الورق إلى وهم، ويتمخّض الجسد عن ((ودموعي تسيل من قارة إلى
قارة)) .
كل ذلك يشتغل علامياً نحو الوصول إلى حالة العجز التام عن
إنجاز الفعل حتى على مستوى التخييل، لأن حالة اليتم أكبر من أن تعالج
بالوهم، والجسد اليتيم يعيش في واقع أقوى من إمكانية قهره بالحلم .
إن
دموع اليتم الساخنة التي تسيل حرماناً ويأساً وأحلاماً مقتولة على فضاء
ورقي ((علامي/ الخارطة)) من قارة إلى قارة، إنما تعود قسراً على عتبة
العنوان في حركة دائرية لولبية لا مناص منها، مزوّدة بقيمة أعلى وأشدّ
وأكثف على تكريس صورة العنونة المعرّفة ((اليتيم))، وهي تنفتح انفتاحاً
مطلقاً على فضاء الحكاية التي تتكرّر في شعر الماغوط كثيراً وعميقاً
وأصيلاً، وكأنه ينوّع عليها من أجل مزيد من تصوير الحال الشعرية وتوسيعها
وتمثيلها ودفعها إلى حقل الكلام .
إن الحال الشعرية الموصوفة بـ
((اليتم)) في سياق شعرية المتن الماغوطي ممثلة هنا بقصيدة ((اليتيم))،
تتمظهر علامياً بوصفها أنموذجاً سيميائياً يحقق ستراتيجية تشكيلية لنص
الماغوط، وهو يسعى إلى التعبير عن التجربة من دون الانشغال بالمهارات التي
تنهض في جزء كبير منها على فكرة اللعب .
وقد يستثنى الماغوط استثناء
خاصاً من معظم فرسان قصيدة النثر العربية الذين ينهمكون في اللعب المهاري
على حساب الإخلاص للتجربة أحياناً، وعلى حساب التوغل العميق في خصب دوالّها
وثراء علاماتها، أو أن تجربتهم تنهض أساساً على فكرة اللعب التي تمثل جوهر
المتن الشعري وفلسفته لديهم .
الماغوط شاعر التجربة الحرّ والمخلص الذي
لا يضع حدوداً فاصلة بين الكلمات بوصفها دوالاً، والإحساس بوصفه مموّلاً
لكيان هذه الدوال ومغذّياً لأنساغها ونسيجها وشعيراتها الدقيقة وقلبها
النابض في جوهر النص .
وهو في هذه الناحية يشبه فضاء المتن السيابي
الذي يشتغل على قصيدة التجربة بأجلى صورها وأعمق معانيها، فإذا كان السياب
ــ سيرةً وحياةً ــ هو شعره بالتمام والكمال، فإن الماغوط ــ سيرةً وحياةً
ــ هو شعره بالتمام والكمال أيضاً .
القصيدة السيرغيرية:
تشكيل الصورة : تشكيل الرؤية
تدخل
القصيدة السيرذاتية في فضاء اصطلاحي مهجّن يزاوج بين جنس الشعر وجنس
السيرة الذاتية السردي، على النحو الذي يتيح للشاعر المتمرّس أن يكتب سيرة
غيرية كتابة شعرية، تحفظ للشعر كينونته الشعرية المعروفة ويستلهم في الوقت
ذاته كل ما يتاح من إمكانات السرد، للوصول بأنموذج القصيدة السير غيرية إلى
مبتغاها . وغالباً ما تفرض طبيعة الشخصية المُراد تسجيل سيرتها الغيرية
شعراً الموجهات الإجرائية المركزية التي تنبني عليها القصيدة السيرذاتية،
فضلاً على حساسية الرؤية التي يحملها الشاعر عن الشخصية وبلاغة التفاصيل
التي يزمع تسجيلها لتكوّن العمود الفقري للأنموذج السيرذاتي .
توصف
القصيدة السير غيرية بأنها ((قول شعري ذو نزعة سرد ــ درامية يسجّل فيها
الشاعر سيرة غيرية لشخصية منتخبة ذات حضور استثنائي في الذاكرة الوطنية، أو
القومية، أو الإنسانية، في مجال إنساني ومعرفي وإبداعي معيّن، ويروي
الشاعر بوصفه سارداً موضوعياً سيرة الحياة مركّزاً على الجانب الاستثنائي
فيها، باعتماد الوقائع والوثائق والحكايات المدوّنة والشفاهية، ولاسيما تلك
التي لها تأثير بارز في الوجدان الجمعي، ويتخّذ منها أنموذجاً يسعى إلى
تكريسه ونمذجته بدوافع فنية أو فكرة أو غيرها . وللشاعر الحرية في اعتماد
الصياغة التي يجدها أمثل للشخصية، على النحو الذي يناسب طبيعة الشخصية،
ووجهة نظر الشاعر، وطبيعة الأسلوبية الشعرية بآلياتها اللغوية
والفضائية))(2) .
لاشك في أن تداخل الفنون ــ ولاسيما القولية ــ قاد
إلى نشوء الكثير من الأنواع الأدبية المهجنّة، وكان هذا عامل تخصيب للبنية
الأجناسية لكلّ جنس أدبي يتغذّى على إمكانات جنس أدبي آخر، ويضاعف من طاقته
التشكيلية وخصائصه الفنية والتعبيرية، وعلى هذا الأساس ((لم يعد الشعر ــ
مثلاً ــ جنساً نقياً خالصاً، يمتنع على الأجناس الأخرى اختراقه أو التغلغل
ضمن حدوده الخاصة به ))(3)، غير أن هذا الاختراق والتغلغل يجب أن يجري على
وفق شروط فنية يفرضها الجنس الأدبي المتلقي، ويفيد من طاقات الجنس الأدبي
الوافد بالقدر الذي يثري تماماً تجربة النص المستفيد، فحين يستدعي الشعر
طاقات أي نوع سردي فيجب أن تعمل هذه الطاقات في المجال النصي الشعري بحيث
(( تتسامى وتعلو به لغاية شعرية خالصة))(4) حسب أدونيس، على النحو الذي يرى
فيه ياكوبسن أن استقرار الأجناس الأدبية وصفاءها النوعي اليوم ((أقل
استقراراً من الحدود الإدارية للصين))(5)، لفرط التداخل والامتزاج والتهجين
الذي حصل بينها، ولكن دائماً ليس على حساب إهدار الشخصية التقانية
والبنائية والأجناسية لهذه الأجناس .
قصيدة ((تنهض بين الحقائق))(6)
للشاعر عبد الرزاق عبد الواحد تنتمي في هذا السياق إلى أنموذج القصيدة
السيرغيرية، ولعلّ عتبة العنوان تشير علامياً إلى وجود آخر (مُحَاوَر)
بدلالة الفعل المضارع ((تنهض)) الموجّه ــ بحسب القاعدة النحوية المعروفة
ــ إلى فاعل مستتر تقديره ((أنت))، وتفسّر الفضلة الجملية ((بين الحقائق))
طبيعة التوجّه القادم من أنا الشاعر إلى الأنا المستترة في الفاعل ((أنت))،
ويشير دال ((الحقائق)) أيضاً إلى سرّ المقولة التي ستشتغل عليها القصيدة
السيرغيرية في قابل النص .
جملة العتبة العنوانية ((تنهض بين الحقائق))
تومىء إيماءه خفية إلى وجود الفاعل السيرغيري ((أنت)) بين ركام من الحقائق،
تسعى أنا الشاعر الراوية إلى استنهاضها بمعية هذه الحقائق، بعد أن غمرته
بلا وضوح، إذ إن الفضاء الذي يرسمه السارد الشعري السيرغيري يحيل هنا على
مرجعية أسطورية في كل أسطورة اشتغلت على النهوض من بين الركام، سواءً أكان
هذا الركام حقائق أم أوهاماً .
وبما أن الأنموذج المشتغل هنا هو أنموذج سيرغيري فإن ارتباط الحال الشعرية
بـ ((الحقائق)) أكثر صحة من ارتباطها
بـ
((الأوهام))، على النحو الذي يستعمل الراوي الشعري السيرغيري الحقائق التي
يمتلكها بوصفها وثائق ميثاقية، يتمكّن من خلالها رسم صورة الـ ((أنت))
المرادة في فضاء القصيدة .
ينفتح الاستهلال الشعري على التعريف الواضح والصريح بأنموذج السيرة الغيرية، بحيث يظهر المستتر صريحاً باسمه وحاله :
متعباتٌ خطاك إلى الموتِ
مهمومةٌ
يا حسين بن مردان
لكن تكابر
إن
المنادى ((حسين بن مردان)) هو الـ ((أنت)) المضمر في عتبة العنوان، وهو
شاعر عراقي معروف نسيج وحده(7)، وهو أبرز نماذج الشاعر الصعلوك في الشعر
العراقي الحديث، ولعلّ ثقل الدال الاستهلالي في تركيب صورة مأساوية له تتضح
من شبكة الدوال السالبة الكثيفة والضاغطة ((متعبات/الموت/مهمومة/ تكابر))،
ترسم منذ البداية ملامح الفضاء الشخصاني للشخصية .
يبدأ الراوي
السيرغيري الشعري برواية سيرة حسين مردان من الخاتمة التي أشارت إليها عتبة
العنوان إشارة أسطورية ((تنهض من بين الحقائق))، فالنهوض هنا هو نهوض ما
بعد الموت، حيث تُستكمل صورة الشخصية وحالها، على النحو الذي يتهيأ للراوي
استنطاق المشاهد كلّها ورواية السيرة على النحو الذي يراه مناسباً، فهو
يصوّر لحظة النهوض الأسطوري المتخيّل :
أيقظت كلّ الملاجئ
فانهزمتْ
من يشارك ميْتاً منيّته يا بن مردان ؟
منجرداً وحدك الآن
يُحشرُ هيكلكَ الضخم في ضنكة الموتِ حشراً
وأنت تكابرُ
تعكس
هذه الصورة قوّة اليقظة المردانية وهي تلاحظ صفة مركزية من صفاته، فضلاً
عن حساسية الاختزال الجسدي والروحي ((منجرداً وحدك))، وما يترتّب عليه من
خصوصية في فكّ لغز المكان ((يحشر/هيكلك الضخم/ في ضنكة الموت/ حشراً))،
الذي يشكّل معاناة كبيرة في حياته في اضطهاد المكان له حيث لا يستوعب جسده
الضخم، في الوقت الذي يستهين جسده بالمكان وهو يحرّر ما تيسّر من ضيقه
ليستوعبه . وربما جاء تكرار الفعل ((تكابر)) بوصفه ينطوي على صفة مركزية
أخرى من صفاته إيذاناً بانطواء شخصيته على فروسية صعلوكية لا تعترف
بالحقائق، بل تنكرها وتعمل بمعزل عنها ومن فوقها .
يتنكّب الخطاب الشعري
السيرغيري ــ عبر محاورة دامية مع الشخصية ــ رؤية سوداوية نابعة من حقيقة
المشهد (المرداني) الذي عاشته، على الرغم من شحنها بطاقة أسطرة متأتية من
بنية التشكيل الشعري الصوري الذي ترسمه القصيدة :
كلّ المياه تعثّرتَ فيها لتطفئ خوفكَ
فاشتعلتَ موحَشاً كنتَ
مستوحداً
تتنازلُ عن كلّ أرقامك المستباحة
تُسقطها
واحداً
واحداً
إن
حساسية الصورة الشعرية ذات الأداء العالي المجازية والمشبع بحسّ أسطوري
كثيف ((كل المياه/ تعثّرت فيها/ لتطفئ خوفك))، ترسم فضاء العناء الدامي
الذي عاشته الشخصية في ظلّ المعجم اللساني السلبي الضاغط ((تعثرتَ/خوفك/
اشتعلت/موحشاً/مستوحداً/المستباحة/تسقطها))، وهي تؤسس لأنموذج غارق في
التراجع والفقدان والخسران، من خلال فاعلية الدراما الفعلية التي تشكّلها
الأفعال المسندة إلى الشخصية ((تعثرت/تطفئ/اشتعلت/ تتنازل))، وهي تقود
الشخصية نحو التخلّي حسابياً عن الأحلام والرؤى ((واحداً ... واحداً)) في
السبيل إلى مزيد من الوحدة والوحشة .
يلتقي المكان بالزمن في السيرة
الغيرية التي يرسمها الراوي الشعري السيرغيري للشاعر حسين مردان، إذ تتحوّل
المسيرة الشخصانية إلى مسيرة غامضة يلتقي فيها طريق البداية بطريق النهاية
:
الطريق إلى الصفر معجزةٌ يا بن مردان
أن تملك الدرب وحدك
تمتلك الندم المتفرّد وحدك
أن تلتقي والذي خِفتَه العمر
تدخلُ دهليزه
إن
بلاغة المحتوى الزمكاني لـ ((الطريق إلى الصفر)) تتمثل في كونه نقطة
الانطلاق ونقطة العودة في الآن ذاته، لذا فإن وصفها بـ ((معجزة)) يأتي
استناداً إلى هذا المعطى الدائري لنقطة الصفر بوصفها نقطة مركزية تودّع
وتستقبل في درجة واحدة، وهو ما ينعكس على معنى التفرّد والوحدة بكل ما
ينطوي عليه من دلالات تعكس أنموذج الشخصية وزهوها بالتفرد حتى ولو كان من
صنف ((الندم المتفرد))، ذلك أن الإيغال في رسم صورة الشخصية على هذا النحو
يكشف عن قوّة تأثيرها في المشهد، وقابليتها على صنع الأنموذج بقياسات ذاتية
تحكي التجربة وتعبّر عن فلسفة الحياة .
من هنا ترتفع أدوات الراوي ــ
وهي ترسم حياة الشخصية ــ إلى مستوى جديد من التعبير والتشكيل والتصوير،
لتصنع طبقة مضافة من طبقات التشكّل الشخصاني للشخصية السيرغيرية، وهي
تتمرأى في مرآة الراوي :
إنها لحظة الكشف
وحدك تملك أن تسمع الآن
وحدك تملك أن تتقرّى
ووحدك تبصر
لعلّ
((لحظة الكشف)) المؤكّدة هذه ترفع مقام الشخصية المصوّرة إلى مستوى آخر
يتمثّل المعاني والدلالات والرؤى، إذ إن تكرار الوصف الزمكاني للشخصية
((وحدك/ وحدك/ووحدك)) تموضعها في سياق تكويني اعتقالي، لكنه يفتح لها سبلاً
ثرية وخصبة بدلالة الأفعال المسندة إليها ((تملك/ تملك/تبصر))، التي تحرّك
الفضاءات السمعية والذهنية والبصرية نحو قدرات إجرائية متكاملة ترتبط
بالزمان والمكان معاً ((أن تسمع الآن/أن تتقرّى/تبصر))، على النحو الذي
يخلق معرفة مضافة للشخصية تجعلها قادرة على هزيمة وحدتها والعمل على خلق
فلسفة ما لها.
يمضي الراوي الشعري السير غيري قُدُماً في تشييده للسيرة
الغيرية لشخصية حسين مردان الشعرية، ليضفي عليها مسحة أسطورية وملحمية
ترتفع في سلّم المعرفة إلى درجة التملّك الأحادي :
تعلم وحدك إن كان للخطو مرتكزٌ
حين يفتقد المرءُ أقدامه
حين يفتقد الأرض
تلك خصوصية الموت
تملكها الآن وحدك
إن
إضفاء هذه الخصوصية على شخصية مردان تتأتى من طبيعة التشكّل الشخصاني لهذه
الشخصية في المجال الثقافي الذي كان يشترك فيه الراوي والشخصية، إذ إن
عبارة ((تعلم وحدك)) ذات قيمة اعتبارية عالية في حصر المعرفة لديه، ومن ثم
يأتي الراوي إلى تحديد هذه المعرفة المميزة والاستثنائية ((إن كان للخطو
مرتكز))، في سبيل البحث عن ((نقطة الصفر)) التي هي مثابة الانطلاق ومآل
العودة، لكنه يشفعها بالحال الزمنية الإقصائية ((حين/حين))، التي تقصي
الحركة وتجمّد الفعل حين يتجرّد الفاعل من الأدوات الممكنة لتسيير الفعل
وإنجازه ((يفتقد المرء أقدامه/يفتقد الأرض))، على النحو الذي ينتج هذا
الجدل الشعري بين اقتراح الفعل وقمعه معنى تلك الخصوصية الجبارة التي
توافرت عليها الشخصية السيرغيرية ((تلك خصوصية الموت)) . وهنا يصبح التملّك
الأوحد قاسياً وعميقاً وأسطورياً ومشبعاً بالدلالة الشخصية الضارية على
صورة حسين مردان ((تملكها الآن وحدك))، وكأن هذه المملكة التي يتسيّدها هي
من صنع يده وهو الباحث عنها والساعي إليها .
تحصل المفارقة هنا بين ولوج
عالم الحقيقة حيث مملكة الموت التي يتسيّدها، والعالم المزيّف والمزعوم
الذي كان يتحرّك خارجها، ففي هذه المملكة تتحقق كلّ الأحلام التي عجز
الواقع عن تحقيقها بوصفه ملكها المتوّج :
تحبو إليك المجاهيلُ
تنهضُ بين الحقائقِ
عريان
منخلعاً عنك كلّ ادّعائكَ
فمن
أبرز أسرار هذا العالم الذي يشيع في المملكة أن ((تحبو إليك المجاهيل))،
عبر طاقة سحرية سريّة تتجسّم فيها كلّ أحلام حسين مردان المقتولة وتتجسّد
على نحو مكبّر، في الوقت الذي يتخّلى فيه عن أرديته الحلمية ((عريان)) في
عالم تقدّمه مملكة ساحرة لا تعرف الادّعاء والمبالغة ((بين الحقائق))،
ليكون كما يشتهي مغادراً فضاءات الماضي الواقعي المهزوم ((منخلعاً/عنك كلّ
ادعائكً))، في السبيل إلى التهيؤ لدخول عالمه الجديد حيث ((نقطة الصفر))
التي تحفظ الانطلاق والعودة في بؤرة واحدة .
تمثّل ((نقطة الصفر)) ذلك
اللغز الذي يحوم حوله حسين مردان أو يحوم هو حول حسين مردان، كيما يمنح
أحدهما الآخر سرّ هذه السيرة العجيبة التي اختطها أو فُرضت عليه، على النحو
الذي يصبح الطريق إليها أو منها معجزة حسين مردان :
إن الطريق إلى الصفر معجزةٌ
إنه الخوف
عمرك وطّنت نفسك أن تألف الخوف
لكن حجم الذي أنت فيه
يحطّمُ كلّ القياسات
يُسقط كلّ المعابر حيث التفتَّ
سوى معبرٍ تشرئبُ إلى يوم كنت صغيراً
إلا
إن هذه الطريق/المعجزة تساوي الخوف ((إنه الخوف))، لكنه الخوف الذي يتحوّل
إلى جزء فاعل وحيوي من السيرة ((عمرك وطنت نفسك أن تألف الخوف))، ذلك
الخوف الكبير الذي يصبح بديلاً للسيرة الشخصية لفرط عمقه واتساعه وجبروته
((حجم الذي أنت فيه/ يحطم كلّ القياسات.....))، ويختزل أنموذج الذاكرة إلى
أضيق مساحة مكانية تصل أرضاً بأخرى ((سوى معبر))، ليعيد المناخ إلى زمن
الطفولة ((يوم كنت صغيراً)) حيث كانت الحياة حتماً بلا خوف ولا نقطة صفر
قاسية لها اشتراطاتها وفروضها وقوانينها .
تنفتح السيرة الغيرية على يد
الراوي الشعري السيرغيري على فضاء الذاكرة عبر ((ممر/تشرئب/ إلى يوم كنت
صغيراً))، لتروي سيرة الطفولة والشباب في اختزال شعري كثيف وعميق ودال :
تلوحُ به حافي القدمين
مهدلة ياقة الثوب منك
تمرّ عليه الوجوه التي
والسنين التي
والنساء اللواتي
فالصور
السيرية المنتقاة ذات الحساسية الطفولية العالية المزدانة بمعنى الفقر
ودلالاته ((حافي القدمين/مهدلة ياقة الثوب منك))، تتجسّد على ((معبر)) وحيد
وغريب ينقل البشر والعواطف والأحاسيس والأحلام من أرض إلى أخرى
((الوجوه/السنين/النساء))، ليصبح هو السيرة الأنموذجية التي تحكي حياة حسين
مردان وتؤسس لصورته، التي ظلّ يحملها في غزواته وحروبه التي يقتحم فيها
طواحين الهواء .
ثم ما تلبث الشخصية أن تنتقل إلى مرحلة جديدة من الزهو
والغزوات حين تغادر ذلك الـ ((معبر)) الوحيد، لتدخل في سياق سيري يناسب
تطوّر الشخصية في مرحلة الشباب ومرحلة الشعر ومرحلة التحدّي :
وتأتي حسينَ بن مردان منسدل الشعر للكتفينِ
عصاك الغليظة تضرب بين ديالى وبغداد
تصعد معراج قوسكَ
كانت عمودية المرتقى كلّ أقواسنا يا بن مردان
تذكرُ كيف تقبّلنا الموت ؟
لاشك
في أن سيميائية الفعل ((تأتي)) المسبوق بالواو العاطفة على زمن سيري مضى
تنذر بزمن جديد للشخصية المعلنة المكرّسة ((حسين بن مردان))، تخصّبها
وتضاعف من طاقتها السيميائية الصفات الغزيرة التي تترى على وصف حركة
الشخصية في المجال السيري الجديد ((منسدل الشعر على الكتفين/عصاك الغليظة
تضرب .../تصعد معراج قوسك))، على الرغم من أنها لا تندرج دلالياً في سياق
تعبيري يعزز مكان الشخصية وقوّة حضورها وهيمنتها في المكان السيري الجديد.
إذ
إن الحاشية الشعرية التي تفسّر متن الكلام الشعري في هذا المقطع ((كانت
عمودية المرتقى كلّ أقواسنا يا بن مردان))، إنما تحشد الأقواس كلّها في
سياق يقود المنادى ((يا بن مردان)) إلى استعادة الصورة المركزية في ظلّ
السؤال المشحون بفجائعية الإجابة ((تذكرْ كيف تقبّلنا الموت؟))، في السبيل
إلى تعزيز موقف الذاكرة بمشهد مؤسطر يعيد ترتيب أوراق السيرة في ظلّ حساسية
جمعية حول الأنموذج الشخصاني ((حسين بن مردان)) المرشّح للاستظهار
والتأرخة .
بعد هذه المرحلة في رسم شخصية حسين مردان السيرية، يتحوّل
الفضاء الشخصاني الفردي إلى أنموذج جمعي تكون الشخصية جزءاً منه، مثلما
يتحوّل الراوي الشعري السيرغيري إلى راوٍ مشارك ينتمي إلى فضاء المجموع :
أسماؤنا كلّها ذات يوم عقدنا على شجر الموت أجراسها
وانتظرنا الرياح
وكانت تهبّ الرياح
تهبّ
يعتلي
المرحلة الدال السيميائي الإشاري ((أسماؤنا))، وهو يمركز التجربة الجمعية
في بؤرة ((نا)) عبر ((أسماؤنا/عقدنا/انتظرنا))، التي تضع الشخصية
السيرغيرية التي كانت محط أنظار القصيدة وأنظار الراوي الشعري السيرغيري
ضمن سياق جمعي، يسعى فيه الراوي إلى تحويل السيرة الغيرية إلى سيرة ذاتية
جمعية، تكون فيها سيرة حسين مردان الشعرية الغيرية جزءاً لا يتجزأ منها،
على النحو الذي يدعم صورة السيرة الغيرية من خلال دمجها بسيرة ذاتية جمعية
يرويها الراوي الشعري ذاته، بحيث يتحول الراوي الشعري السيرغيري إلى راوية
لذاته الجمعية من خلال فضاء السرد الشعري :
أكنّا نبالغُ ؟
أم أنها سنوات البطولةِ
ينكسر المرءُ من بعدها سلّماً
ثم يزحفُ للخوف ؟
إذ
تهيمن الروح الجمعية المتركزة في ذات الراوي على حساسية المشهد ودينامية
الكلام الشعري، باستخدام محاورة ذاتية جمعية تشبه المونولوج ((أكنّا
نبالغ؟/ أم أنها سنوات البطولة))، وتوزّع التجربة بين احتمالين لا يرقى
أحدهما على الآخر بين وهم المبالغة وحقيقة سنوات البطولة، التي تتراجع في
مشهد الواقع الذي يراه الراوي ويرويه ((ينكسر المرء .... يزحف للخوف))، حيث
يضيع اقتراح معنى البطولة السابق لتتصدّر العبارة الاستفهامية ((أكنّا
نبالغ؟)) مشهد الاحتمال، ويعلن زحف الخوف الإشراف على مرحلة جديدة تتشابه
فيها السير وتتداخل مع بعضها على النحو الذي تصبح فيه سيرة مشتركة، تخلو
كثيراً من التفاصيل والخصوصيات والاستثناءات إلا ما ندر .
تظلّ الروح
الجمعية السيرية طاغية على المشهد الشعري وكأن اندماجاً قوياً حصل بين
السيرة الغيرية التي يرويها الراوي الشعري شعرياً، والسيرة الذاتية للراوي
في أنموذجها الجمعي الجيلي، ومن خلال محاورة مع الشخصية التي تجلّت وكأنها
محاورة استبطانية عميقة مع الذات :
تذكّر كيف تقبّلنا الموت ؟
ما تصفرُ الريحُ
إلا ويسمعُ واحدنا رنّة باسمه
ثم يمضي
ولكنها سنوات الرضا يا بن مردان
البشر الماء يعقد أجراسه في مهبّات كلّ الرياح
ويختبئُ الجرس الموت
وعلى
الرغم من مأساوية رواية سيرة غيرية مندمجة بسيرة جمعية ذاتية يتنكّبها
الراوي الشعري، وتتجلّى في كلّ سياق ومعنى ودلالة وقيمة ترشح من باطنية
وحساسية المقطع الشعري، إلا أن اعترافاً عميقاً يندفع إلى حضن الصورة ليحكي
عن زمن جميل مضى لا يقاس بمتاعبه بل بحضوره وقيمته الإنسانية ((ولكنها
سنوات الرضا يا بن مردان))، إذ تتحول رواية السيرة هنا إلى الانفتاح على
سيرة الزمن والمكان، حيث ((البشر الماء)) الذي يتنفّس الحب والأخوة والعطاء
والتضحية والتسامح وتقبّل الآخر ((يعقد أجراسه في مهبّات كلّ الرياح))،
بما يقلل كثيراً من فرص زيارة الموت ((يختبئ الجرس الموت)) لصالح الحياة
الحرّة الكريمة المتآلفة والمتصالحة .
وهنا تتمّ العودة مرّة أخرى إلى
فضاء السيرة الغيرية إذ يعيد الراوي السيرغيري الشعري عدسة كاميرته باتجاه
الشخصية، ليسجّل علاقتها بالموت وهو الملتصق به الضارب أوتاده في أرضه، عبر
علاقة جدّ متينة وجدّ جدلية :
أفنيت عمرك تُحكِم تعليقه
وتوسّعه
ثم توسّع حِملاق عينيك فيه
فتفزع
إن
هذا المقطع يخضع لثقل فعلي كبير في رسم صورة الشخصية (حسين مردان) وهي
تتعامل مع الموت وتتفاعل معه وتصارعه، ويمكن رسم حركة الأفعال ذات النَفَس
الدرامي السردي على هذه الصورة :
ــــــــــــــ أفنيت ــــــــــــــ عمرك
ــــــــــــــ تُحكِم ــــــــــــــ تعليقه
ــــــــــــــ توسّعه ــــــــــــــ
ــــــــــــــ توسّع ــــــــــــــ حملاق عينيك فيه
فــــ تفزع ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التي
توضّح السبيل الذي سعت فيه الشخصية إلى تدبّر أمر ((الجرس/ الموت))
تعليقاً وتوسّعاً وفزعاً، في توازٍ رهيب يختصر العمر ((أفنيت عمرك))، يمتدّ
من وهم التحكّم بالتعليق إلى فظاعة الفزع، حيث لامناص من تقبّله
والاستسلام له .
على النحو الذي يجعل الراوي يتوجه إلى الشخصية توجّهاً استفهامياً ضارياً، يسأل عن الجدوى وعن المصير بلغة قاسية وشائكة :
ماذا جنيتَ ابن مردان ؟
تذهب
فيما بعد إلى استعادة السيرة استعادة مكثّفة غاية في التلخيص والاختزال،
عبر محاورة كأنها محاورة لذات الراوي مرّة أخرى تضرب على وتر التجربة
المرّة التي اكتنفت حياة الشخصية ومسيرتها :
طفلاً لهوتَ بدمية عمركَ
طفلاً سئمتَ فحطّمتها
حلماً عشتَ أن صرت مستوظفاً
حلماً كان أن تشتري بدلةً
حلماً أن غدوتَ
ولو مرّة
دائناً لا مديناً
ولكنه يا بن مردان دقَّ
ولم تتسخ بعُد أكمام بدلتك الحلم
دقَّ ،
وما زال دينكَ ما حان موعدُ إيفائهِ
فالأنموذج
السيرغيري الأول يتعلّق بالسطريين الشعريين الأولين من المقطع المرتبطين
بمرحلة الطفولة ((طفلاً/ طفلاً ... لهوت/ سئمت ... دمية عمرك/ فحطمتها))،
أما الأنموذج الثاني فهو الأنموذج الذي يتعلّق بمرحلة الحلم/ الشباب في
الأسطر الشعرية الثلاثة اللاحقة ((حلماً/حلماً/حلماً ... صرت/تشتري/غدوت
... مستوظفاً/ بدلةً/دائناً لا مديناً))، فإنه يقفل السيرة على فضاء مفعم
بالأسى والفقدان والفقر .
مما يجعل الراوي يستدرك على السيرة في هذه
المرحلة ليتوجّه إلى الشخصية مباشرة ليعلمه أن الحياة مازالت مستمرّة، وأن
بوسعه أن يمضي فيها لاستكمال مشروعه الطوباوي في الحياة وهو يصارع طواحين
الهواء بلا طائل ((دقّ/دقّ .... مازال دينك ما حان موعده))، انطلاقاً من
حسّ الحياة الرافض في قلب الشخصية كما يتراءى للراوي وهو يقلّب أوراق
السيرة بطمأنينة فجائعية . لتأتي لحظة الإقفال الشعرية على السيرة وقد
غادرت مضمونها وخضرتها وكثافة حضورها وأصبحت خواءً مضنياً :
دقَّ ناقوسُ موتكَ
يا أيها الإمبراطور (*)
يا أيهذا الموظفُ من قبل شهرين
إذ
يتردّد الفعل الأمري ((دقّ)) موجّهاً نحو ((ناقوس موتك)) المنتظر حتماً،
وهو آخر مسافة يمكن للشخصية أن تتحرّك فيها، وآخر فعلٍ بوسعه القيام به،
ليلتفت الراوي إلى الوراء الخالي إلا من لفظة الإمبراطور المجرّدة من كلّ
شيء ((يا أيها الإمبراطور))، تلك التي لا تصمد طويلاً على لسان الراوي إذ
سرعان ما تتقدّم الهيئة الحقيقة اللاذعة التي تجبّ ما قبلها ((يا أيهذا
الموظف قبل شهرين))، لتضع آخر لقطة أمام بصر متلقي السيرة تشير إلى المتبقي
الحقيقي من لحظة غياب الشخصية وإسدال الستار على حياتها وسيرتها .
القصيدة التشكيلية:
ـ الديكورية وجدل الرؤيا ـ
هل
يمكننا الحديث حقاً عن ((القصيدة التشكيلية))(8) بوصفها مصطلحاً جمالياً
بوسعه معاينة تجربة القصيدة الحديثة في تقاناتها الجديدة؟ ولاسيما أن هذه
القصيدة اجتهدت عبر العقود الأخيرة من الزمن في إثبات حداثتها بوسائل
وطرائق وسبل لا حصر لها، وعملت على الإفادة من كل ما هو متاح وممكن أمامها
للاتجاه نحو آفاق جديدة لإثراء وتعميق وتخصيب تجربتها، عبر التداخل والأخذ
من الفنون المجاورة وتطوير إمكاناتها الإبداعية والتعبيرية باستثمار هذه
التقانات الوافدة، وقد تدخّلت في جوهر الحساسية الشعرية وأسهمت في إنتاج
جمالياتها وتشكيل رؤاها، ورفد أنموذجها بكل ما هو ممكن لبلوغ أعلى قدر ممكن
من قوتها الشعرية على صعيد الصياغة البنائية والتواصل في التلقي .
قصيدة
((الموت))(9) للشاعر شكري شهباز تشتغل على حساسية الفضاء التشكيلي لهذا
الأنموذج الشعري، على الرغم من أن عتبة العنوان ((الموت)) بهذا التعريف
الإفرادي التقليدي لا يوحي أبداً بإمكانية اتجاه القصيدة نحو هذا الفضاء
الذي تقترحه القراءة، إذ إن فكرة ((الموت)) تكاد تكون مستهلكة على صعيد
تناولها الشعري، وتتجه إلى الموضوع عادةً أكثر من الاتجاه إلى الاشتغال على
الحساسية التشكيلية برؤيتها التقانية الصرف .
إلا أن عتبة العنوان ما تلبث أن تلتحم بعتبة لاحقة لها هي عتبة الإهداء، وهي تجمع بين التشكيل والموت بهذه الصورة :
(مهداة إلى الفنان التشكيلي الراحل سعد الدين باته يي)
فعبارة
((الفنان/التشكيلي/الراحل)) تصعد إلى عتبة العنوان التقليدية لتمنحها
بعداً مضافاً قادماً من ((الفنان/التشكيلي))، على النحو الذي يخلخل
استهلاكية الطبيعة الموضوعية لفكرة الموت المعلّقة في ذاكرة العنونة .
البنية
الاستهلالية التي تمثّل عتبة أصيلة من عتبات القصيدة تشتغل اشتغالاً
ديكورياً يصوّر/يرسم فيه الراوي الشعري المناخ التشكيلي للحدث الشعري، بلغة
تصويرية تعريفية واستدلالية تشير وتوضح وتوجّه الانتباه نحو المفردات
الديكورية المؤلفة لسطح اللوحة :
في هذه الغرفة لا تتضّح الظلال على الجدران
العناكب قد أعدمَت في سقفها من دخان السكائر
ستائر الشبابيك والجدران العارية
تلتفّ حول بعض من البرد
يتشكّل
المنظر الصوري الديكوري من الوحدة المكانية المركزية المشار إليها صراحة
منذ بداية التشكيل الاستهلالي للقصيدة ((في هذه ـــ الغرفة))، وتتأثث
تأثيثاً فقيراً ((لا تتضّح الظلال على الجدران)) يعكس ضآلة القيمة الجمالية
للمكان ((الغرفة))، ويثير شهوة التأويل لاستكناه طبيعة الحدث الشعري الذي
يمكن أن يكون مثل هذا المكان مسرحاً له .
تتقدّم رؤية بصرية ديكورية
أخرى لتضاعف الإحساس بفقر المكان وزهده وإهماله وبدائيته ((العناكب/قد
أعدمتْ في سقفها/من دخان السكائر))، على النحو الذي يدمغ المكان بالقِدَم
والزهد الجمالي المتلاشي إلى حدّ الانعدام والمحو، ويوحي ضمن فضائه
التشكيلي بأنه مهجور منذ زمن بعيد ولا يؤوي إلا المشرّدين والصعاليك
والمطاردين .
وتؤدي الصورة الاستعارية التشخيصية اللاحقة الدور ذاته في
تبنّي صورة الافتقار إلى الحياة المتحركة في المكان ((ستائر الشبابيك
والجدران العارية/تلتفّ حول بعض من البرد))، فالدوال المتجانسة في عملياتها
الشعرية ((العارية/تلتفّ حول بعض/البرد)) تعمل على تشغيل حسّ التدليل نحو
مضاعفة أنموذج الفقر بمستوياته كلّها .
تنتقل القصيدة في إطار رسم
الصورة الزمكانية العامة التي تجري داخل مساحتها الأحداث الشعرية، إلى رسم
لوحة رمزية ذات منحى سيميائي في مستوى تعبيرها، تفاعل بين الم