عبدالكريم العامري
كانت البداية الأولي لخطوط نظرية التناص في نتاجات الفلاسفة القدامي الذين ميزوا بين الأصل، والتقليد، عبر مفهوم المحاكاة.
شيئا
فشيئا ذابت الصرامة في القواعد المنهجية المستخدمة في تصنيف النصوص الي
(صحيح)، و(مسروق)، فخفت حدة ما أطلقوا عليه سابقا سرقة أو انتحالا، وما كان
يدعي سرقة صار (فنا)، ومن كان (سارقا) صار(فنانا)، فليس كل شاعر بقادر علي
إخفاء دبيبه الي معني غيره.
أما في النقد الأدبي الحديث استبدل مصطلح السرقة الأدبية بمصطلح (التناص) الذي اشتق من أحد معاني الفعل (نص).
تعد
الناقدة (جوليا كريستيفا) أول من أشاع مصطلح (التناص) بعد دراستها لأعمال
الناقد (باختين) عن ديستوفسكي، إذ استخدم فيها مصطلحه (الحوارية) ويعني في
أصله (تعدد الأصوات).
طورت كريستيفا مصطلح التناص ومنحته قواما معرفيا
أعمق ولا سيما في المجال الإجرائي..فقد أطلقته من إطار الحوار ومنحته فضاء
تنافذيا، فتحرر لديها من قيود الشكل الثابت أو المحدد، واشترطت وجود علاقة
تنافذية تستوجب تغييرا بنائيا يقود الي معني مغاير ونص جديد، فهو العلاقة
النصية الجامعة لنصوص أخري والمفضية الي نص جديد (منتم) و (لا منتم)، كما
انه امتلك لديها مرونة كافية اشتغل عليها النقد لاحقا، وهو يفتح حدود
التناص من إطار الأجناس الأدبية الي الأجناس الإبداعية عامة، ومن الجنس
الواحد الي الأجناس المختلفة رواية، شعر، قصة، سينما، رسم، موسيقي..الخ.
كشفت
الدراسات النقدية الحديثة، لا سيما مع مناهج ما بعد البنائية، كالتفكيك،
السيمياء، التأويل، نظرية التلقي، عن درجة الإرتباط والتداخل بين النصوص،
بل النتاجات الإنسانية برمتها، رغم تعدد الحضارات المنتجة لها. صار من
الشائع القول بأن الكتابة الحديثة ما هي إلا إعادة الترتيب والإنتاج لما تم
إنتاجه سابقا، وإن أي تشابه بين الكتابات يدخل في دائرة التقاطع، وهو أمر
بديهي، طبيعي، لا يقتضي بحثا أو إثباتا.
فبعد ان كانت مفاهيم الأصالة،
النقاء، الجدة، التفرد هي مراكز النظر النقدي القديم للإبداع، صارت مفاهيم
التقاطع والحوارية، التداخل، إعادة الإنتاج، هي مدار الجهود النقدية النصية
الحديثة.
اجرائيا يتحقق التناص عبر منفذين، كما تشير الي ذلك الدكتورة
بشري موسي صالح استاذة النقد الحديث في الجامعة المستنصرية: أحدهما مباشر
وواع ويتم عن طريق وسائل الاقتباس، أو التضمين، أو التلميح، أو
الإشارة..الخ.
أما المنفذ الآخر فهو غير المباشر أو الضمني الذي يكشف
ويرتبط بالمرجعيات المتباينة التي تشكل القوام المعرفي للمبدع وتظهر في
نتاجه علي نحو غير واع ومن حيث لا يشعر.
فإن صرح النص بمصادره كان تناصا معلنا، وإن لم يفعل بدا اكتشافه مرتهنا بثقافة الناقد، وقدرته علي القراءة العميقة.
السؤال
النقدي الذي يجب طرحه، أنا (قارئ)، وللقارئ سلطة علي النص، لكن، كيف يتسني
لي الوصول الي استيعاب فكرة اشتباك النص الجديد مع غيره من النصوص
المعاصرة أو الماضية وتسويغها باختلاف ضروبها، بعد أن كان التداخل بين
النصوص يفضي الي إصدار أحكام بشأن النصوص الملتبسة بغيرها ضمن فكر نقدي
معياري أقله الناسخ والمنسوخ؟.
هذه النماذج الشعرية وغيرها الكثير خير مثال:
1ـ مجموعة (اختلاس الزمن) بغداد/ 2010 للشاعر العراقي عدنان علي/ مقطوعة عويل:
ربما تنحت في الصخر لحيظات المساء
ربما ننسج تاريخا رماديا
ربما ترحل عن ألوانها،
الممشوقة الاسرار وردة..
ربما نبكي علي البعد اخضرارا،..
ربما تختم ازمان ..
ربما قلبي لك
ربما أنت لمن؟.
2ـ (الأعمال الشعرية الكاملة) لندن /2003 للشاعر العراقي أحمد مطر/ ربما:
ربما الزاني يتوب
ربما الماء يروب!
ربما يحمل زيت في الثقوب!
ربما شمس الضحي
تشرق من صوب الغروب!
ربما يبرأ إبليس من الذنب
فيعفو عنه غفار الذنوب!
إنما لا يبرأ الحكام
في كل بلاد العرب
من ذنب الشعوب!
3ـ الشاعر الفلسطيتي سميح القاسم:
ربما تسلبني آخر شبر من ترابي
ربما تطعم للسجن شبابي
ربما تسطو علي ميراث جدي
من أثاث وأوان و خوابي
ربما تطعم لحمي للكلاب
ربما تبقي علي قريتنا كابوس رعب
يا عدو الشمس
لكن لن أساوم
والي آخر نبض في عروقي
ســـأقاوم