مُراهقًا كنتُ قبل عقود من الزّمان مرّت علينا في هذه الديار الحزينة.
وكذا كانَ أوّلُ عهدي به في ديار الشّباب السّعيدة البعيدة. كان يأتي
متسلّلاً خلسة إلى حقيبتي المدرسيّة، ملتفعًا بصفحات جريدة، أو متخفّيًا
بين دفّتي كتاب، أو مجلّة محظورة، أو هكذا خُيّل لي ولزملائي آنئذ، في
نهاية ستّينات القرن المنصرم.
ولأنّني كنتُ مراهقًا في سالف ذلك الأوان، فقد حسدتُه. وأغلبُ ظنّي أنّي،
على ما يبدو، لا أزال على هذه الفطنة الصحراويّة الّتي هبطت عليّ، مثلما
كانت هبطت عليه وعلى آلِهِ من محلٍّ أرفعَ. كنتُ إذّاك ولا زلتُ أقول في
نفسي: يا له من عفريت يتمثّل لنا في صور وأسماء مختلفة! لعلّه لاجئ من
أحفاد هام بن الهيم قد حَلّ بين ظهرانينا يُلقي على شفاه الصّبايا، ثمّ
النّساء من بعدُ، تميمةً سحريّة يتلفّظن بها دون علمٍ منهنّ بما تفعله هذه
بهنّ وبي. فهذه تهمس في أذني: إنّه إميل حبيبي، وتلك تقول على الملإ: إميل
حبيبي. أمّا أنا، مهمومًا ضائعًا بين حانا ومانا وبين هذه وتلك، كنتُ أحاول
أن أتلمّس لحيتي الغضّة باحثًا عن طريق إلى إصلاح ذات البين بينهنّ أجمع،
فأقولُ، وأنا مِنْهُنّ على مسمع: إميل حبيبي أنا أيضًا، فيضحكن، مِنّي
وعَلَيّ، على ما آلت إليه حالي إلى حالِ مَنْ جاءَ ليُكَحّلَها فَعَماها.
مرّت سنواتُ شباب النّفس وولّيتُ وجهي صوب القدس، فشَبَبْتُ هناك أنا على
الطّوْق، بينما شابَ هو في الطّوق، حتّى وجد من المُحال حَمْلَ بطّيختين
بيد واحدة، فآلى على نفسه أن ينبري إلى الكتابة الّتي تَدُومُ وتُديمُ.
غير أنّ الفكرة قد جاءته مُتأخّرةً بعد سكرةٍ استطالت في الطّوْق، فلم
تُمهله الفكرةُ طويلاً، فكانَت خسارتنا نحنُ أَنْ غلبَ شَيْبُهُ شَبابَهُ.
ولأنّه كان مهمومًا بقضايا الإنسان إلى حدّ الإدمان، لم يُفلح في الفطام من
هذه القضايا، فظلّ حاملاً بطّيختين بيد واحدة، حتّى بعد هجره المناصب
السّياسيّة، وذلك من خلال لقاءات وبيانات مشتركة إسرائيليّة فلسطينيّة.
في الحقيقة، قليلون هم أولئك الّذين عشقوا اللّغة العربيّة مثلما عشقها
هو وعرف كيف يداعبها مداعبة الولهان بمكنوناتها، المنقّب الأثريّ في
طبقاتها. هنالك خيط يربط بين هذا العشق للّغة، وبين عشق إميل حبيبي
للإنسان. فعاشق اللّغة هو بالقوّة عاشق لما يختبئ وراءها، والعاشق الحقيقي
للّغة لا يمكن إلاّ أن يكون عاشقًا للإنسان النّاطق. ربّما كان هذا العشق
العميق للّغة هو الأساس الّذي بُني عليه التّوجُّه الإنساني في كلّ مواقفه،
مُتّخذًا من السّخرية سلاحًا مُشْهَرًا في وجه الموت، كلّ موت، مُجرَّدًا
من الأطواق العرقيّة والدّينيّة والجنسيّة.
ومرّت الأيّام، ومرّت الأعوام. ثمّ جاءت أخبار أوسلو، وكان إميل حبيبي
متحمّسًا، كما كان كثيرون غيره متحمّسين، لها آنئذ. وهكذا، وبعد أنّ سلّى
كثيرون النّفس بأوسلو ومشتقّاتها، سرعان ما اختطف منّا الإعلام العربيّ،
وحتّى الفلسطيني، مصطلح "فلسطينيّي الدّاخل" وألقاه عباءة على رعايا
المناطق الموسومة بالحروف الإفرنجيّة : "إي"، "بي" و"سي".
إذن، والحال هذه التي ألفينا أنفسنا فيها، ماذا تبقّى لنا نحنُ هنا من
زمرة الـ"باقين في حيفا"؟ أعرف ماذا كان لسان حاله سيقول: إذا كانت الحال
على هذا المنوال، فهذا يعني أنّنا أصبحنا "داخل الدّاخل". وكنتُ أنا
سأُضيفُ مستعيرًا من المأثور: فأمّا الزّبد فيذهب جفاءً، وأمّا ما ينفع
النّاس فيمكثُ في حيفا.
فماذا أحدّثك الآن بعد مرور هذه الأعوام؟
لا أتذكّر الآن من ذا الّذي أطلق تلك المقولة الشهيرة لدى أبناء العمومة،
أهو هرتسل أم بن غوريون، أم إنّه واحد آخر من صنف "البناغرة"، كما كنت
أسلفتَ في ماضيك الأدبي الحاضر فينا دومًا. عندما سئل ذاك: متى تقوم دولة
اليهود؟ أجاب: عندما يتمّ القبض على أوّل لصّ يهوديّ، أو عندما تخرج إلى
الشارع أوّل عاهرة يهوديّة فمعنى ذلك أنّ الدّولة اليهوديّة قد قامت وهي
تسير على قدم وساق. أو لنقل نحن ربّما على أقدام وسيقان.
وها نحنُ الآن، طاب ثراك، نسيرُ حثيثًا وقد قطعنا أكثر من عقود ستّة،
واللّصوصُ من المولّدين هنا كُثرٌ. أمّا العاهراتُ، أراحكَ اللّه من
شرّهنّ، فمستورداتٌ ممّا تبقّى من بلاد "المنظومة الاشتراكيّة"، كما اصطلحَ
عليها رفاق دربك القدامى الّذين تقادمَ عهدُهم وتفرّقوا أيدي سبأ بعدما
انفرطتْ منظومتهم أدراج الرياح فهاموا على وجوههم بعد أن كانَ الّذي كانَ.
وبخلاف أبناء العمومة، فها هم أبناء الأمومة الآن، ولشدّة وكثرة ما
أخطؤوا ويخطئون في ترجماتهم عنهم، قد برّح بهم الجهل ونسوا من أين تؤكل
الكتف، فكانَ أنْ قلبوا الآيةَ رأسًا على عقب، فبدؤوا بالعُهْر والفساد
ونسوا الدّولة.
أمّا بخصوصنا نحن الّذين بقينا، بُعيد النّكبة، هنا في الوطن الّذي صار
اسمه إسرائيل بفضل بني قومنا الذين ما فتئوا يقيمون مطاياهم ويقعدونها طوال
هذه العقود المنصرمة، فلعلّ لسانَ حالك يقول: كيف حالُكم وما جرى
بأحوالِكم يا معشرَ المتشائلين؟
ولأنّك كنت شديد الوَلَه تنقيبًا في كتب التّراث، فما بالُك إنْ أنا
حدّثتُك هذه اللّيلة ببعضٍ ممّا انتشلتُ منه؟ ولأنّ عهدي بك شديدَ الفطنة
سريعَ البديهة، فلن يلتبسَ عليك ما أنا ساردٌ الآن من مسألةٍ مستعصية قد
حارَ في أمرها السّلفُ. لقد عُرضت هذه المسألة على شريح القاضي الذي اشتغل
بالقضاء لدى الخلفاء الأوّلين، بدءًا من عُمر وانتهاء بمعاوية. وبعد القال
والقيل والعنعنة المتسلسلة يروي لنا السّلف في باب حكم الخنثى المُشكل
الّذي لم يتبيّن أمره بالعلامات المذكورة :
"عن ميسرة بن شُريح قال، تقدّمتْ إلى شُريح امرأةٌ فقالت: إنّي جئتُك
مخاصمةً، فقال: وأينَ خصمُك؟ فقالت: أنتَ خصمي. فأخْلَى لها المجلسَ، فقال
لها: تكلّمي.
فقالت: إنّي امرأةٌ لِي إحْليلٌ ولي فَرْجٌ.
فقال: قد كان لأمير المؤمنين عليه السّلام في هذا قضيّة. وَرّثَ من حيثُ جاء البَوْلُ.
قالت: إنّه يجيء منهما جميعًا.
فقال لها: من أين يسبقُ البَوْل؟
قالت: ليس منهما شيءٌ يسبق، يجيئان في وقت واحد وينقطعان في وقت واحد.
فقال لها: إنّكِ لتُخبرين بعجب.
فقالت : أُخبرُك بما هو أعجبُ من هذا : تَزَوَّجَني ابنُ عمٍّ لي،
وأخدمني خادمًا، فوطئتُها فأولدتُها، وإنّما جئتُكَ لما وُلِدَ لي لتُفرّقَ
بيني وبين زوجي.
فقامَ من مجلس القضاء، فدخلَ على عليّ عليه السّلام، فأخبره بما قالت
المرأة، فأمرَ بها فأُدْخلتْ، وسألها عمّا قال القاضي، فقالت: هو الّذي
أخْبركَ.
قال، فأحضرَ زوجَها ابنَ عمِّها، فقال له عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام: هذه امرأتُك وابنةُ عمّكَ؟
قال: نعم.
قال: قدْ علمتَ ما كان؟
قال: نعم، قد أخدمتُها خادمًا فَوَطئَتْها، فَأوْلَدَتْها.
قال: ثمّ وَطأتها، بعد ذلك؟
قال: نعم.
قال له عليّ عليه السّلام: لأنْتَ أجرأُ من خاصي الأسد.
ثمّ أشار عليّ إلى قنبر مولاه قائلاً: يا قنبر، أدْخِلْها بيتًا مع امرأة تعدّ أضلاعها.
فقال زوجُها: يا أمير المؤمنين، لا آمَنُ عليها رجلاً، ولا أئتمن عليها امرأة.
فقال عليّ: عليَّ بدينار الخصيّ. وكان من صالحي أهل الكوفة، وكان يثقُ
به، فقال له: يا دينار أدخلها بيتًا، وعَرّها من ثيابها، ومُرْها أن تشدَّ
مئزرًا وعُدّ أضلاعها. ففعل دينار ذلك، فكانَ أضلاعُها سبعةَ عشر: تسعة في
اليمين وثمانية في اليسار.
فألبسها عليّ عليه السّلام ثياب الرّجال والقلنسوة والنّعلين، وألقى عليه الرّداء، وألحقه بالرّجال.
فقال زوجُها: يا أمير المؤمنين، ابنة عمّي وقد وَلَدتْ منّي، تُلْحقها بالرّجال؟
فقال: إنّي حكمتُ عليها بحكم اللّه. إنّ اللّه تبارك وتعالى خلقَ حوّاء
من ضلع آدم الأيسر الأقصر، وأضلاعُ الرّجال تنقص وأضلاع النّساء تمامٌ."
***
فها نحنُ، كما ترى، طاب مثواك، قد أضحينا هُنا كحالِ ابنة العمّ تلك، لا
يؤتمن علينا، لا من رجل ولا من امرأة. فلا أبناء العمومة يأمنوننا إن نحنُ
التقينا بالأشقّاء، ولا أبناء الأمومة يأمنُون إن نحنُ انفردنا بهؤلاء
النّاس. إذ أنّ الوسواس الخنّاس، أو قل الخنّاث، لا يني يوسوس، ليس في
نفوسنا نحنُ، بل في نفوس هؤلاء أجمعين.
إذن، والحالُ هذه، فلم يبقَ لنا سوى أن ننفجر ضحكًا حتّى تنهمر من عيوننا
الدّموع، أو حتّى نستلقي على أقفيتنا، أو قُلْ قوافينا، مفترشين الفلاة
ملتحفين السّماء، وما من مُنادٍ وما من حياة أو حياء.
***
ملاحظة: هذا النصّ قُدّم في أمسية لذكرى الأديب الراحل إميل حبيبي.