أمّا بعد
شتاء 1957، صدور العدد الأوّل من مجلة «شعر».
شتاء 2007، صدور العدد الأوّل من مجلة «نقد».
خمسون
عاماً مرّت إذاً، نصف قرن، وبلغة كرنفالية: اليوبيل الذهبي لمجلة الحداثة
العربية «شعر». كذا لن يكون الاحتفاء بهذا المشروع الرائد مستحقاً بغير
إتمامه، بغير إتمام الشعر بالنقد، والكتابة بالكتابة الثانية بحسب التعبير
البارتيّ: في المشهد الشعري العام، لا يختلف شاعران، أو ناقدان، أو ناقد
وشاعر، على أن ما ينقص كتابنا الشعري العربي، المعاصر تحديداً، هو النقد
وليس الشعر (لا ينقصنا بودلير الشاعر، بل بودلير الناقد). ولأن النقد،
لدينا، دخل في غيبوبة الاجتماعيات، فبات مجرّد قناة للعلاقات الشخصية،
وضرباً من ضروب المجاملات الصحافية، أو تصفية الحسابات، ولا داعي لاستخدام
المزدوجتين، كان لا بدّ من مشروع مستقلّ وحرّ، يعيد النقد إلى نفسه، أي إلى
ضميره، وإلى مكانته، أي إلى الكفّ عن اعتباره من لزوم ما لا يلزم.
وإذ
نتناول في هذا العدد، الأوّل، الشاعر والكاتب المسرحي اللبناني بول شاوول،
فلا ترتيب ألفبائياً أو كرونولوجياً أو قيمياً اعتمدناه. نقول: لا نريد
نوعاً من التزام تسلسل ما يثقل كاهل المجلّة بما لا نرغب، وبما لا نستطيع.
لا خلفيات، إذاً، لانتقاء تجربة شاعر أكثر من كونه إشكالياً ومؤثراً في
التجربة الشعرية العربية، وأكثر من أننا استطعنا تحصيل مادة نقدية وافية
عنه (العدد الثاني سيكون عن صلاح عبد الصبور). نقول ذلك ونعني أن «نقد»
ستتناول جميع شعراء العربية المستحقّين (ونقّادها بالتأكيد)، شاعراً
شاعراً، وجيلاً جيلاً: سنتناول جيل الروّاد على مثال ما سنتناول جيل الأخير
زمانه. أيضاً، سيكون للقديم من الشعر (والنقد) ما للمعاصر منه، فهو احتفاء
بالمتنبّي، وهو احتفاء بالجرجاني... هو احتفاء بالشعر ضدّ الحزب،
وبالقصيدة ضدّ الشلّة، وبجوهر الشعر ضدّ أشكاله.
ما سبق ليس بياناً
يحتاج أقلاماً توقّعه، بل ورقة عمل، ودعوة إلى كل نقّاد العربية للمساهمة
في صوغ وجه نقدي اتفقنا على غيابه عن ثقافتنا المعاصرة، وعن شعرنا على وجه
الخصوص. ولأننا لا نعتبر هذا العدد أفضل نموذج يمكننا القيام به، نريد من
القرّاء، شعراء وأدباء ومثقفين وطلاّب جامعات، تزويدنا بآراء ومقترحات
ومساهمات. فإن هي إلا محاولة، أولى، ولا بدّ من أن تأخذ نصيبها من الخطأ
والصواب. وهنا لا يسعنا سوى أن نشكر لـ«دار النهضة العربية» تبنّيها هذا
المشروع، وشفافيتها في التعاطي وتقاسم المسؤوليات وعدم التدخّل في مادّة
المجلة.
إقرأوا الآتي:
أثناء حديثه عن سلفه رامبو كتب رينه شار:
«الشعر هو القانون»، ومن قبله شرح نيتشه ذلك بالقول: «من ليس لديه مئة
قافية الآن، أراهن أنه لن يفلت بجلده».
تعالوا نفلت بجلدنا.
رئيسا التحرير
***
المنفى والجسد وبلاغة الرؤية السورياليّة
بقلم: عبد الرحمن بن زيدان
(باحث مغربي)
استنهاض الجسد ومفارقات الجنس الأدبي
بعد
قراءة النصوص السردية التي كتبها بول شاوول في الشعر وفي المسرح، وبعد
مقاربة شكل بنياتها، وشكل خطاباتها المغرقة في الإيحاء والرمز والغموض
والعنف، والتيه، نتأكد من أنها نصوص تتشابه في بلاغة رؤيتها السوريالية،
وأنها تتكامل كلّها، وتتحاور، وتتعدّد فيها الأصوات التي يختزلها السارد في
صوته وفي كلامه، وتصبح صوتاً واحداً يتوزّع بهمسه وبجهره على معاني
الإبداع النصّي في هذه الرؤية، وينطق بمجازاته الحالمة في الحكي عن صمته،
وعن كآبته التي هي كآبة الفئة التي يعبّر باسمها، ويكتب نيابة عنها في هذه
السرديات، ويكوّن بمفارقات الحالات والتجارب والمعاناة وإيحاءات المتخيل،
الرمز في اللغة الشعرية التي تتدفق بصورها على قسمات الجسد، والزمن،
والانغلاق والانفتاح في سيرورة الكتابة الشذرية، فتعطي لمعنى التشتت فيها
متعة الوجود، وهو يستنهض الجسد من عدمه ليكوّن كينونته في جنسه الأدبي الذي
لا تحدده محددات، ولا ضوابط ولا قواعد صارمة تسهّل تصنيفه في خانة إبداعية
موجودة سلفاً. لأن نثره يختفي بدراميته وراء بلاغة الصور الشعرية، ليجعل
المسرح عنده منفتحاً على طقوسية الكتابة الشعرية، وغير خاضع لقواعد
التفعيلة أو الإيقاع ذي الصوت الواحد، ولأن شعره يتدفق بكثافة الصور
والمعاني التي يقولها الإيقاع الداخلي في همس الكلمات الشاعرة.
في هذه
النصوص السردية تتعايش في زمن الإبداع جميع الأجناس الأدبية، فتتوخّى إلغاء
قوانين هذه الأجناس فيها، وتتمرّد على جميع المستويات التركيبية
والتخييلية فيها، كما هو شائع كقوانين صارمة في الرواية، أو كما هو دارج في
حساسياتها، وتقلب أشكال وجود الحوار في المسرح، كما في مسرحية «المتمرّدة»
و«فناص يا قناص» و«الساعة خمسي» و«ميتة تذكارية» و«الزائر»، لتبني شعرية
الشعر في نصوص «أيها الطاعن في الموت» و«بوصلة الدم» و«وجه يسقط ولا يصل»
و«الهواء الشاغر» و«موت نرسيس» و«أوراق الغائب»، من دون إلغاء الحكي
والحوار والشعر والوصف في هذه النصوص لكتابة زمن الخلاص من الموروث في رؤية
سوريالية أبان عنها بول شاوول في كتابَيْ «نفاد الأحوال» و«كشهر طويل من
العشق».
في هذه الكتابات السردية يحقق بول شاوول انزياحاته المجنونة
بالابتعاد عن المعنى العادي الملقى على قارعة الطريق، ويبحث عن الغامض وعن
الانكسار في الذات وفي العالم، وفي الرؤى الكوابيسية، وفي الأحلام التي
تقضم عنده الوقت من أطرافه، ويشاكس حواسه المعلومة والمبهمة، ويحاور بهذه
الانزياحات الأعمار العديدة في الانكسارات التي يحياها ليكتب معنى إبداعه
في الشعر وفي المسرح فيرى «الجسد العاري وحيداً في عريه» ويعيش العدم
العاري فيه.
الكتابة لديه تستنهض الجسد في «نفاد الأحوال»، تتذكّر،
تحنّ، تخاف بخوف الكاتب - الشاعر من الجفاف، ومن العقم، والعدم. تستسلم
لأنّات أنفاسه المتعبة. وأمام تداعي الصمت أثناء مخاض ولادة الكلام، وأثناء
ولادة الصور في هذا الكلام، يتجرّع «مرارة الخراب المعسول»، ويتحرّر من
ضيق الكلام الصامت، وينفلت من «الحجرة الضاربة في بلادتها»، فيطلع عنده
النشيد الشاسع في الحكي، ويبتعد من الجدران، ومن خبايا الجسد ومن عتماته،
مكلّماً الجمادات المحيطة به، مؤنسناً الأخرس منها، مستمعاً إلى خطابها
الحافل بتواريخ اللحظة الساردة الشاردة التي تحكي عن الأشياء المهملة،
وتمجّ الصفاء المعتكر لتنضمّ إلى ما تناثر في هذا العالم، وما تناثر حوله
من علامات الحياة أو الموت، فيبدأ في استنطاق العدم في الفوضى السرّية،
فتستعيد ذاته عناصر رغبتها الأولى في الحيوية والضجيج وتلمس حشرجات العتمة
فوق «الأنفاس المورقة» في الديجور، لتبدأ ولادة الكلام الذي يتحقق في
النصوص السردية لبول شاوول.
الكلام في هذه النصوص كلّها هو كلام
«الغرائز المنتصبة»، وكلام «الشهوة المحتبسة» وإعلان عن موت هو حياة الكاتب
في التعبير عن الرغبة الجامحة في اللقاء بالعالم، بالأجساد في الجسد
الواحد، وتشكيل إيروسية اللحظات القوية في هذا اللقاء تعبيراً عن «اليقظات
الفاترة» في التذكّر الفاجع وهو يحصي الغرائز البائدة في كلّ حالة من حالات
الحكي، حيث المعنى المتعدّد في ضيق العالم، وفي المكان وفضاء الكتابة،
يوسّع من معنى العبارة للدخول في أسطورية الحكي، والدخول في الأسطورة
الشخصية للكاتب، والأسطورة الشخصية للأماكن التي تحملها الذاكرة المتعبة
لبول شاوول، فيندهش للوعة الجافلة في جسم يتوهج عنده «بلا أسرار ولا وشم
ولا علامات، لأنه جسم خالص في بريقه الصافي، نزق أرعن في حدوده المتسعة»
(1).
وحين
يستنهض الجسد في «نفاد الأحوال» ليحتمي به، فإن الجسد عند السارد يصير في
«قصائد» في «كشهر طويل من العشق»، ملتبساً بغواياته، مدنساً بشهوته،
مهملاً، ملتماً على خباياه ومأثوراته.
الجسد مع السارد هو حياة في
تفاصيل الرغبة، وعشق له، أما البدن في «كشهر طويل من العشق» فهو عنده موت
في شهوة اللحظة العابرة ونفي للحظة الهشّة، أما مع الجسد العاري فهو فضاء
يعري من يقابله للوصول إلى مرحلة الحلول والذوبان المشترك في اللحظة
الأبدية.
وفي زمن الحكي الذي يستنهض فيه بول شاوول الجسد المتعب في
عزلته، يبدأ حكيه عن المغلق في الغرفة التي تحتوي العالم كله، ويفتح عينيه
ليرى إلى «الضوء القاسي» وإلى «العالم الجائر» ويحدّق في النقطة التي أفاضت
المعنى فيه بجمالية التعبير عن الزمن الوجودي لهذا الجسد في العالم بعد
سقوط «الشعرة» التي كانت العامل الذاتي المحفز على الدخول في حيوية التذكّر
للكتابة عن هذا التذكّر في فعل الكتابة في «نفاد الأحوال»، أو الكتابة عن
المرأة - الجسد والأنثى والبدن في شعرية «قصائد» (كشهر طويل من العشق) حيث
نون النسوة تقوم بوظيفة إخراج العشق والشهوة من الجسد لتكتب عنها الكلمات
بشعرية الجسد في الشعر.
حول سؤال الوجود والعدم
في
النص السردي «نفاد الأحوال» يجعل بول شاوول «سقوط الشعرة» للسارد مفتاح
مغالق المغلق في فضاء الرؤية، وتكون بداية قراءة الحالة بهذا السقوط في
انقداح الرغبة في الرغبة معلنة عن بداية جديدة للعالم في متخيّل هذا النص،
وبتغيير وظائف هذه الشعرة في مساحة النظم تتبدّل التيمات والحالات، ويتبدّل
عمر الكاتب في عمر هذا المتخيّل، وتنتقل التجارب الخاصة من واقعيتها إلى
سورياليتها، وتجعل خطاب النص منشحناً بالعنف، وبالشعور بالوحدة، وممتلئاً
بالإحساس بالزمن السديمي، مؤنّثاً بصور خراب المدينة (بيروت)، وممتلئاً
بمعاناة الطفولة المعذبة، وبأهوال الحرب، وبمرارة المنفى، وبأعطاب الحروب
والعشق الحطيم وبسؤال الوجود والعدم حول الموت والحياة، وحول نزف الرغبة
النافرة من روتينية الأشياء والعالم. يقول السارد الذي ينوب عن الكاتب في
الحكي: «شعرة تسقط أحياناً من رأسك معها من الأمور ما لا يعدّ وما لم تلحظه
على مرّ الوقت والأحداث بخفة الهواء، وبحدّة ما تعفيك سماء صافية في الصيف
من نسيانها»
(2).
وسقوط
الشعرة في بداية الكتابة، بعدما بلغ السارد في الكاتب من العمر عتياً،
وبعدما واجه الأعاصير والأهوال وعبث الوجود الغامض، وتحمّل قسوة الخوف من
المجهول، يعني سقوط زمن من العمر، أو سقوط العمر كله من الزمن، فينطرح
السؤال الوجودي الذي هو تيمة السارد وحياته في الأنفاس المتقطعة في الوصف
والحكي في «نفاد الأحوال»، فتصدر منه القهقهة المرّة في أنفاس مكتومة
تتحوّل إلى نفس طويل في زمن الكتابة وعمرها، لأنه مع سقوط هذه الشعرة، تبدأ
ملايين السنين الحزينة بالاستسلام إلى نبض الحكي، وتبدأ الذاكرة تتنفّس
بقدمها الفاتن، فاصلةً الحاسة عن الحاسة، والتذكر عن التذكر، والحنين عن
أبّهته العاطفية، والصلوات عن ينابيعها الحارة، فيصرخ الكاتب، وكأنه بفعل
الكتابة عن أحواله، يولد من جديد، أو كأنه يولد أول مرة مع الكتابة
السوريالية لهذه الأحوال.
مع هذه الشعرة الساقطة، تسقط الأعمار والعصور
والدهور، وتأفل كلّ الأزمنة التي كانت موجودة بوجود الإنسان، وتغيب، ولا
يبقى منها إلا عمر الإبداع في إبداع يتذكّر هذه الأعمار في سيرة السارد
التي هي سيرة الكاتب نفسه. وبول شاوول في «نفاد الأحوال» يعيش غيبوبته في
الهدوء المريض الشاحب، فيصرّ على الانبعاث من العدم الخالص الذي يحتويه،
فيبدأ في محاورة غيابات الموتى، ويبدأ في الحلم بسلام كوني، ويشتد شعوره
بعبثية الوجود فيخاطب وجهه، أو يناجي نفسه قائلاً: «ويشتدّ بكاؤك عندما
تقيس المسافة الصامتة التي تتأرجح عليها تلك الشعرة الدقيقة، في ديكور
مخيف، يداك، ثيابك، الكتب، المنفضة، اللمبة، الحجرة المقابلة للباب...»
(3).
بهذا
السقوط، تتذكر الكلمات سقوط ساردها، ويتذكر بول شاوول الموت التراجيدي
بالسقوط، أو يتذكر الموت بعد السقوط العبثي، ويتذكر أفول العالم بالموت،
ويتذكره بالقسوة التي تزحزح عبث الحواس فيه فيطرح السؤال الوجودي: «كيف
أعبث بحواسي. كيف أنفي خطاي. كيف أدمع كي أنكر دمعي، والدمع سرّ القبور
وكاشف بوابات السجن»
(4).
وبتيمتَي
الوجود والعدم، والحياة والموت، والسجن والحرية، تكون الحكايات الصغرى في
«نفاد الأحوال» و«كشهر طويل من العشق» تيمات متناثرة في ثنايا الكتابة
النصّية، ويكون حضورها نثراً ينثر أقواله في الشعر، ويكون شعراً يوظّف
إيحاءاته في الشعر وصوراً أعطت لهذه الحياة معناها في إنشائية النصوص التي
أراد لها بول شاوول أن تنبني في رمزية المسافات بين العدم ووجوده، وتبدأ من
أزمنة القهر والسهاد والعذابات لتوجد حياتها في هذه النصوص التي يصعب
تجنيسها، أو وضعها في خانة محددة من خانات الأجناس الأدبية، بالمعنى
المتعارف عليه، أو المتداول، لأن الكتابة في هذه النصوص تزيل الحدود بينها
وبين الأنواع الأدبية، وتضع رهاناتها في أزمنة الماضي لتنتقل بعدها إلى زمن
الإبداع بوعي أو لا وعي الكاتب في الحاضر.
وإزالة الحدود بين الأجناس
الأدبية، تعني إزالة الحدود بين الجسد والجسد، بين السارد وأسرار الذات
وبين المدينة. إن معاناة بول شاوول تخاطب ما تبقى من معاناتها في الحواس،
وتحاور ما تبقى من المكابدة في الوحدة والعزلة كخاصيات لكتابة عبثية تهب
هذه التيمات أمكنتها المتخيلة كي تعيش في الكتابة بواقعيتها المهربة من
الواقع، لكنها تصير سوريالية في الزمن الافتراضي الذي وضع كلامها في سياقات
النصوص الغارقة في سورياليتها أثناء الحديث عن الموت، ولحظة الانبعاث
والوقوف الأبدي عند التذكر كفعل سام هو سيد التخييل الذي يقلب جميع الصور
والتراكيب والعلاقات مع الذات ومع العالم أثناء تكثيف الصور بلحظات
الانكسار.
رمز الزمن في «نفاد الأحوال» يعني الشعور المرّ بسير اللحظات
المنكسرة فيه، ويعني أيضاً الحلم بتقديمه في فانتازيا الصور كما هي منكسرة
في متخيل وفي أحلام وكوابيس الكاتب. وفي الزمن السردي لهذا النص يكون مدخل
الكتابة عن عري الزمن المنكسر، هو الشعور بمأسوية الكون حيث من العري
يتنسّم بول شاوول من «الشعرة الساقطة» خراب كلامه وعالمه وذاته، فيحوّل
نفسه إلى متكلم يخاطب انفصام عرى العلاقة مع كل شيء حتى مع نفسه، ولم يجد
من ملاذ يحمي فيه وجوده من الضياع، ويقي كينونته من التشتت سوى الارتماء في
الأمل المفقود الذي وجده في حوار الجسد مع الجسد، وتلمّس ميتافيزيقا
الأنثى في شبقية اللحظات التي تحيي زمانها ولحظاتها في كثافة الصور في
«قصائد» وفي «نساء» و«أحوال الجسد» و«توابع الجسد» و«بلادات الجسد»
و«الضوء». يقول الشاعر: «كشهر طويل من العشاق والمأسورين والخطأة أرفعك من
شهواتك كشتلة من ترابها ومائها وورقها، وأهتزك، بأجسامك السابقة، والمقبلة،
والحية، والخفرة، والمقتولة والقاتلة، وأراك عبرها، كمن يحضن زغباً حاراً
في يديه، أو كمن يفتح النافذة على سنوات طويلة من الأرق المشمس، واليقظة
المحرورة، وترينني بحواس من دغل كثيف، ومن أقمار حمر عمياء ومن ارتطام أنات
أنات من قعر الحفر، ومن حرائق، ومن اجتمار الأصابع، والعنق، ونثار ما يملس
على التمدد، والخروج بلا مقابل»
(5).
وفي
نظم تراكيب التقارب والتداني بين المتباعد في الأزمنة المتباعدة للحكي،
وبين الجسد والجسد، وبين السارد والبدن، وفي المسافات الفاصلة بين الانكسار
والانكسار، واللمس والوصال والصدّ، وبين الوله والشبق يبحث بول شاوول عن
الخلاص الأبدي من هذا التباعد ليجمع الشتات والمنكسر أثناء الاشتعال الغامض
على تيمة الجسد الأسطوري الغامض حتى يسود الوقت الدافئ «جلد الساعات».
ولا
يجد من إمكانات لرسم صور الانكسار سوى الجمل الاسمية التي يغيب عنها الفعل
والأفعال. ولا ينقذ هذه الصور من تبعثرها في الذاكرة سوى نفي بعضها لإثبات
وجود بعضها الآخر في جملها الإخبارية، أثناء رصّ كلام الصور لتصير أنفاس
الكلمات في «نفاد الأحوال» وفي «كشهر طويل من العشق» فعلاً إبداعياً يتابع
بحواس السارد الاندثار المبكر للذات مع سقوط الشعرة وقربها من العدم الخالص
والفتنة الكبرى في الانكسار. إن الحكي عن العنف قبل الانكسار، وبعده،
وتصوير القسوة كرديف للأنين الواهن للمتكلم اليائس، يجعل خطاب هذا الحكي
يروي كيف يعيش السارد كسر المعادلات، وكسر الصيغ الدافقة، وكيف يسترق
السارد فيه السمع ليسمع إلى الصوت الواحد أو المتعدد في الانكسار ويواجه
الهدوء المريض في بيروت وفي المنفى في الهدوء الكاذب فيهما، ويقلب رهانات
العلاقات بينه وبينهما في رهان الزمن الغائر بإكراهاته في حيرة اللحظات
التي لا تولّد إلا حديث الموت الفردي بصيغة الحديث عن الموت الجماعي.
هذا
الانكسار لم يعد يحيا في ذاكرة السارد سوى كجمالية راكمت جماليتها في صور
التخريب، والطفولة، والمرأة المثالية، والارتواء من الضجر، والتوكيد على
أنه «لم يفقد ذاكرته، ولا مهنته، ولا أجداده، ولا أحفاده». هذا الانكسار
توزعته التيمات الآتية:
- الشعور بالموت وتقديم صوره في الحكايات الصغرى التي تفضي بالسارد إلى موت سماته هي علامات هذا السارد في حكايته الكبرى.
-
السارد مدرج في لائحة الراحلين بلا عودة. ولا يتوقف عن الإفصاح عن شجبه
للحرب معلناً موقفه الرافض للنفي والتمرّد على المنفى. «أنا تهت. ومتّ
كثيراً. وصرت وحيداً. وابتعدت عن أسمائي (أجهشت هنا بالبكاء) وسرقت أسماء
أخرى، وغيّرت حلاّسي وبدّلت أفكاري وعواطفي وعاداتي...»
(6).
من
خلال التعبير بالصور السوريالية يرفع السارد «رأسه بكلتا يديه وبأنفاسه،
يقدّمه بلا ندامة، وبحسّ تاريخي محسوب» فيقول: «الموت قصير والحياة طويلة».
هذه الحالات حوّلت شتات زمن الكتابة الموزّع بين بيروت ونيقوسيا واللامكان
إلى وحدة في الرؤية وفي الحالة وفي المعاناة في خواء العالم. إن بول شاوول
قبل هذا الخواء وهذا الانكسار، كان يقول: «فتحت عيني وكانت رائعتين كسنوات
طويلة من الخراب وجميلتين كمن يبصر الموتى في غرامياتهم»، لكنه في كل
الأحوال كان يحاكي «أوديباً» في مأساته ليفقأ عينيه «ولكن ببطء على جدران
معابد عدّة» ليلطّخ كما يقول: «الأمكنة المختارة بما رأيت من الحروب، وبمن
قتلت وعرّيت واغتصبت وسحلت»
(7).
كان
شاوول يحاور الفردوس المفقود، وما تبقى لديه منه في الحلم وفي الكتابة،
لأنه يتنقل من منفى إلى منفى: «الموتى يتذكرون لكي يموتوا أكثر فتذكّرت
ومتّ»
(8).
مغادرة المنفى والعودة إلى آخر
كلما
شعر السارد، الذي يحكي عن الكاتب بول شاوول، أن انتماءه إلى العالم، وإلى
ذاته، قد صار انتماء مستحيلاً، يعود إلى الكتابة، لأن العودة إلى الوطن،
وإلى المدينة صار أمراً متعذراً. وفي هذا الشعور الذي يتردد في خطاباته،
كان يكرر حديثه عن الوحدة، وعن العبث، والتكرار، واللحظات المتشابهة،
والغثيان، والهلع كأقصى درجات القلق، ويتكلم عن الطوائف، وعن السلام، وكان
يعيد الحديث عن الحرب، وعن المنفى الاضطراري فيقول: «أنا تهت كثيراً، ومتّ
كثيراً، وصرت وحيداً»
(9).
لا
يتوانى بول شاوول عن إعطاء معنى المنفى لدلالة الموت في كتاباته، وإعطاء
معنى الموت لمعنى المنفى، لأن الموت والمنفى عنده واحد في الظهور الذي يفضي
إلى الغياب أثناء تذكّر ما تتجرعه النفس من عوامل الزوال، أو حين تصبح كل
نفس ذائقة الموت في الوطن وفي المنفى، أو أن الموت ذائق هذا السارد المعذب
بخفقان الأمل في الحياة. معرفة الكاتب لا تزيد معرفته بما هو ميتافيزيقي
إلا في حالة تمزق الذات في المنفى داخل الوطن وخارجه، وفي حالة عشق روعة
المتخيل في كتابة الشعراء وما سطّروه، وما سكتوا فيه عن الكلام المباح، أو
أفصحوا عنه وهم يقاربون ما يحدث في العالم، وما يقع في غيابات المبدعين. إن
بول شاوول «ينبهر من مجازر تدوّن في كتب التاريخ، وفي ملامح الشعراء»،
ويقول: «الله، هذه هي المخيلات الرائعة المتفجرة. فلتكثر الآلهة هذه
الهبات»
(10).
في
المنفى لا يجد بول شاوول إلا هذه النصوص التي تدوّن ما لم يدوّنه
المؤرخون، ولم يجد من يحاوره سوى الشخوص المتخيلة التي يستقدمها من عمق
الأسطورة، ويستدعيها من النصوص المسرحية، يدقق في هويتها، وفي رمزيتها
القريبة من كينونته ومن منفاه، ويختار منها الشخوص الضحية، والقاتلة
والمقتولة (أوفيليا، هاملت، ماكبث، الليدي ماكبث، يهوذا الأسخريوطي، يوليس،
ومدينة بيروت)، فيريد العودة بها من المنفى ومن السجن ومن الغياب إلى
الحضور لـ«تطهير الأرض من الرجس والشياطين والكفرة والشاذين والشعراء»
(11).
ومن
المنفى إلى المنفى، ومن الخوف إلى الخوف، ومن القتل إلى القتل، ومن الخوف
من فقدان جغرافية الذاكرة وفقدان الانتماء إلى المدينة التي ضاقت بأهلها
فضيّقت عليهم إمكانية العيش، يرحل بول شاوول ليطوف بين المنفى والمنفى في
العالم، لكنه أثناء رحيله لم يعد يرى سوى: «صنّاع العوالم الجديدة، ومبتكرو
الحضارات المقبلة بأفيونها، وأوكسيدها، وكماماتها وشاشاتها وقبورها
الفضائية، ونيازكها اليومية، وعينات السموم والتلوث، وجنازات الغيوم
الملطخة بالدم والعرق والأوبئة وهالات القديسين الجدد»
(12).
لكن
العيش في هذا العالم، وتحمّل هذا المنفى الجحيمي، والعودة إلى أنفاس
الوطن، كلها أسباب جعلت أفق انتظار بول شاوول يصاب بخيبة أمل قاتلة، لأنه
خال «أنه عائد من منفى ظنه حوريات يوليس» إلى وطن كان يعتقد أنه فردوسه،
إلا أن كل شيء ضاع، مع المنفى والخوف، وفقد السارد في الكاتب انتماءه، ووجد
الكاتب انتماءه في السارد، واجتمع العاملان، الذاتي والموضوعي، لتكوين
أسباب النفي وأسباب الخيبة والفشل الذي هو فشل جيل مهدّد بكامله نقل صورة
فشله بول شاوول معبّراً عن ذلك بقوله: «وخفت أن يقتلوني لأني فقدت انتمائي،
وكان خوفي في محلّه، فقتلوني ثم اعتقلوني، ثم اتهموني بخيانة الله والوطن
والعائلة والأرض وأعدموني مرات ثم نفوني، فنفيت أنا نفسي لكي أريحهم، وكانت
فترة عصيبة، فحملت نفسي كدمية، وجبت بلاد الله الواسعة، وحملني حذائي
وتبعته، وخانتني كلماتي ولم أخلص لها، وعندها يئست»
(13).
عندما
كتب بول شاوول كتابَيْ «نفاد الأحوال» و«كشهر طويل من العشق» كان يشعر أن
العيش في المنفى (أو الموت فيه) لا يمكن أن يحقق بلاغته إلا بكتابة
سوريالية تقنع المتلقي أن الإبداع هو هذا الجنون الذي يتحقق في سيمياء
الكتابة البليغة عنده باعتباره شاعراً في المسرح، وباعتباره مسرحياً في
الشعر، وباعتباره روائياً في إبداعاته السردية كلّها. أيضاً، إنسان في
رؤيته للذات وللعالم، وذلك حين يتحدث عن الجسد والمنفى في بلاغة الرؤية
السوريالية في كتاباته.