إهداء: إلى كلّ الذين أعياهم "الشديد القويّ" ولكنّهم لم يبيعوا أرواحهم لشيطان المال ومشتقّاته.
الشهريّة
تغادر روضة المعمل بنصف ابتسامة راضية بقدر ما هي متحيّرة. تحرّك معصمها
وأصابعها المتيبّسة من فرط استعمال المكواة قبل أن تعيد تلمّس
"رزمة" الأموال التي تسلّمتها للتوّ من يدي المنجي قابض المعمل. 180
دينارا. شيئا فشيئا تكبر مساحة التحيّر في خواطرها في ذات الوقت الذي
تتقلّص فيه مساحة الرضا. ويتحوّل التحيّر إلى حنق عاجز إذ تلمح رؤوف
"خطيبها" يراقبها من طاولة "البيلوت" المعتادة بالمقهى المقابل للمعمل.
تعرف جيدا ماذا سيحدث بينهما لأنه تكرار لما كان يحدث دائما منذ ستة أشهر
في مثل ذلك اليوم من كل شهر. سيلتحق بها في المنعطف المحاذي لعمّ عمر.
يراها وهي تدفع للعطار العجوز الـ30 دينارا المعتادة تسديدا لثمن
ساندويتشات الشهر المنقضي. ثمّ يستقبلها بابتسامته الظافرة التي لا يخفى
عليها مغزاها. ستقرّعه كالعادة على تواكله وعدم حرصه على البحث عن شغل
مجزٍ. سيلعن كالعادة صاحب المقهى الذي تخاصم معه مرّة أخرى وطرده مرّة أخرى
لأنه احتجّ مرّة أخرى على استعباده له بمجرّد أنه يدفع له 10 دينارات
يوميا. وسيؤكّد لها من جديد أنه على موعد مع شخص مهم ومتنفّذ وعده بشغل
جيّد أو حتى بـ"فيزا" ستمكّنه من الرحيل أخيرا إلى أوروبا حيث سيغرف
الأموال غرفا ليعود إليها بسيارة فاخرة وليتزوج بها في منزل لا مثيل له في
منطقتهم، قبل أن يطير بها هي نفسها إلى أوروبا حيث ستنسى كل فقرها وكل
أشكال استغلال أهلها لها. وسينتهي بها الأمر إلى تسليمه الـ40 دينارا
المعتادة، لا تصديقا لوعوده المغرية ولأحلامه المجنحة (رغم أن ركنا خفيّا
وضئيلا من كيانها كان يصرّ على التصديق)، ولكن حتّى تتلافى غضبه وتهديده
بقطع علاقته بها. فهي تعرف أنّ اثنتين أو ثلاثا من زميلاتها في المعمل كنّ
مستعدّات لأخذ مكانها فورا في العلاقة مع رؤوف. تعرف جيّدا أيضا أنه سيصرف
ذلك المبلغ على احتساء بعض قوارير البيرة وسيلعب بما تبقى ورقة "بروموسبور"
طمعا في ثروة طائلة ومجانية.
تواصل طريقها وهي تواكب انفراط "شهريتها" بقدر ما تتقدّم في سيرها : 5
دنانير لشراء بطاقة شحن الهاتف الجوّال، 45 دينارا سدادا للقسط الشهري على
الأجهزة الإلكترونية والمنزلية التي تعدّها انتظارا لعرسها المأمول و35
أخرى ستسلّمها لأبيها مساهمة منها في المصاريف المنزلية. وانقبض قلب روضة :
من الـ180 دينارا التي تسلّمتها للتوّ لن يتبقّى لها سوى 15 حتى نهاية
الشهر المقبل…هذا إذا لم يهاتفها أخوها الطالب في تونس ليلحف في طلب حوّالة
يستعين بها على سداد مقابل الكراء.
تعمل روضة (26 سنة) منذ سنة ونصف في معمل "آريان" لصنع بنطلونات الجينز
بإحدى قرى الجنوب الشرقي. صاحب المعمل، فيلهلم فريدريش، رجل ألماني ضخم
وطيب بلحيته الحمراء التي وخطها الشيب. في البداية كانت العاملات تحصلن على
150 دينارا فقط. ومنذ 6 أشهر زادهنّ في الراتب ليدرك الـ180. لا تشعر روضة
بأية قيمة إنتاجية فعلية لعملها. كل ما كانت تقوم به هو كيّ بنطلونات
الجينز من السابعة والنصف صباحا حتى الرابعة والنصف مساء. فالبنطلونات كانت
تمرّ قبلها (وبعدها أيضا) بسلسلة طويلة من العاملات اللواتي يقمن بأعمال
جزئية وتافهة قبل أن تأتي الشاحنات الكبيرة التي تحمل "إنتاجهن" إلى حيث لا
يعلمن. بين الواحدة والواحدة والنصف ظهرا تخرج روضة مع بعض المقربات من
زميلاتها لشراء صندويتش من العمّ عمر أو لأكل ما جلبنه من منازلهن قبل
احتساء كأس مشترك من الشاي تجلبه إحداهن من المقهى الممتلئ بالشبان
العاطلين الذين كان كل منهم "خطيبا" غير رسمي في الغالب لواحدة من الفتيات.
تدرك روضة مثلها مثل باقي الفتيات أن هناك تفاوتا رهيبا بين الجهد والزمن
اللذين كنّ ينفقنهما في المعمل من جهة وبين الراتب الذي كن يحصلن عليه كل
نهاية شهر من جهة ثانية. ولكن ما حيلتهن في ذلك؟ لقد قالت لهن مبروكة، وهي
الأقدم من بينهن، أنّ 10 عاملات كنّ قد طردن منذ سنتين لأنهن دخلن في إضراب
(وحشي) تحت تحريض أخ إحداهنّ كان نقابيا ذا ميولات يسارية. ولم يستطع أحد
حمايتهن لأنّ الاتفاق الأوّل الذي على أساسه انتقل فريدريش بالمعمل من
مدينته البافيارية الباردة إلى تلك القرية الفقيرة بالجنوب التونسي هو أنه
لا حقّ للفتيات في الترسيم ولا في الحماية الاجتماعية أو الصحية. فما بالك
بالحقّ في الإضراب؟
تعرف روضة أن في الأمر حيفًا. يحضرها ذلك خصوصا حين تحاول أن تخلد إلى
النوم بعد المسلسل التركي أو المكسيكي (المليء بفتيات فقيرات وجميلات
تمكّنهن أقدار المخرج من الزواج بشبان أثرياء ووسيمين) وتشعر بتلك الآلام
المبرحة في قدميها وركبتيها بسبب الوقوف يوما كاملا وبذلك التيبّس في
أصابعها وفي كفّيها من فرط استعمال المكواة رغم ارتدائها للقفازات التي
تفضّل صاحب المعمل بشرائها لها. تفكّر روضة في ذلك البون الشاسع بين الطيبة
والإنسانية المميّزتين لشخص فريدريش وبين القسوة الرهيبة التي تحكم علاقة
"الإنتاج" بينه وبين بنات المعمل. ولكنها تهوّن على نفسها الأمر إذ تقارن
بين حالها وحال بعض المحيطين بها. خذ لك مثلا وضعية منية (أو "موناليزا"
كما كان يناديها أستاذ التربية التشكيلية) صديقة طفولتها التي كانت تمثل في
عيني روضة نموذجا للنجاح الدراسي والاجتماعي والتي تخرجت منذ سنتين
"أستاذة" فلسفة لكنها بقيت عاطلة لأن عائلتها لم تتمكن من دفع 3 آلاف دينار
لارتشاء من يمكنه تشغيلها. وانظر إلى أولئك الشبان الخمسة، الذين درس
اثنان منهم في الجامعة، والذين ابتلعهم البحر أثناء "الحرقة" التي نظموها
إلى إيطاليا. أما عن حنان ابنة خالتها فحدث ولا حرج. في التاسعة عشر من
عمرها تحولت من تلميذة مجتهدة وموهوبة في الغناء إلى مومس يشار إليها في
العاصمة بالبنان بعد أن شاركت في غفلة من عائلتها في كاستينغ "ستار
أكاديمي" ولم تفلح في السفر إلى لبنان والتحول إلى مغنية مشهورة وثرية كما
لم تفلح في العودة إلى القرية بسبب نقمة الجميع عليها. على وقع هذه الخواطر
الأخيرة انقبض قلب روضة إذ تذكرت ملامح تلك المراهقة المفتونة بجسدها التي
كانت كثيرا ما تمرّ ضاحكة عابثة أمام منزلهم، كما تتذكر حديث رؤوف عن
السفر إلى أوروبا. ماذا لو كان ينوي أن يحرق هو الآخر؟ فكرت في مهاتفته ثم
عدلت عن ذلك بسبب النعاس الذي أثقل جفنيها المحمرين تعبا وبسبب تأكدها أنه
كان في تلك اللحظة يتضاحك مع أصحابه المخمورين تحت طابية الهندي. لم تكن
ترغب في أن تكون موضوعا إضافيا لأحاديثهم العابثة.
قذيفة كارل ماركس
في 1867 أصدر كارل ماركس المجلد الأوّل من مؤلفه الحاسم رأس المال (الذي
سيتولى فريدريك أنغلز نشر المجلدين الثاني والثالث منه بعد موت المؤلف
بأكثر من عشر سنوات). كان ماركس وقتها منفيا في لندن بعد فشل مختلف
"الثورات الشيوعية" التي واكبها وحاول الإسهام فيها من فرنسا (كومونة
باريس) إلى بلجيكا وألمانيا. ولا شكّ أنّ ذلك مكّنه من الإطلاع على نحو
أكثر دقّة على كتابات منظّري الاقتصاد السياسي الليبرالي ولاسيما آدم سميث
ودافيد ريكاردو. لذلك كان مدركا للوظيفة الثورية القصوى لذلك العمل النظري
الذي وصفه هو نفسه بأنه "أخطر قذيفة سدّدت إلى رأس البورجوازية". فتجديد
الاقتصاد السياسي عبر إعطائه طابعا علميا دقيقا من جهة وعبر شحنه بطاقة
ثورية مبدعة من جهة ثانية كان المكمل الضروري للبعد الفلسفي الخالص لفكر
ماركس المتشبع بالهيغلية والمتجاوز لها في الآن ذاته، تماما كما أنّ مفهوم
فائض القيمة في المجال الاقتصادي هو الرديف الضروري لمفهوم الاغتراب على
مستوى الفهم التاريخي.
تكمن قيمة ذلك العمل الضخم في كونه يحلل بدقة غير مسبوقة الميكانيزمات
الداخلية شديدة التعقيد التي بفضلها تتحول قوة العمل وزمنه إلى إنتاج ومن
ثمة إلى ثروة ومن ثمة إلى رأس مال يسعى عبر فعل المراكمة المتّصلة إلى
تأبيد حالة الهيمنة على العمال (المنتجون الفعليون لرأس المال ذاته) وإلى
التوسيع المتصل أيضا لمجالاتها وأبعادها. فالمعرفة النظرية الدقيقة لكيفيات
اشتغال المكنة الرأسمالية كان هو الشرط الأساس لإصابتها في مقتل. لذلك كان
الكتاب تدميرا نسقيا لمختلف أطروحات آدم سميث في بحثه المتعلق بـطبيعة
وأسباب ثروات الأمم. يرجع سميث ازدهار الاقتصاد الليبرالي إلى تقسيم العمل
من جهة (من خلال المثال الشهير عن معمل الإبر – وهو الذي يمكننا أن نجد له،
وإن على نحو جزئي، نظيرا في معمل بنطلونات الجينز الذي تعمل فيه روضة
وصويحباتها) وإلى المنافسة الحرة في ظل دولة تكتفي بالحد الأدنى من التدخل
في الشأن الاقتصادي من جهة ثانية. فالعمل هو أصل الثروات والمداخيل كلّها
سواء كانت في شكل دخل قارّ أو راتب أو ربح. وبما أن تطوّر الصناعة يسهم
بدوره في ازدهار الإنتاج، فإنّ المنافسة الحرّة، في ظلّ دولة محايدة تكتفي
بدور تنظيمي محدود، هي شرط ذلك الازدهار بجملة أبعاده وبالتالي في الرفع من
مستوى "جودة الحياة" لدى الأفراد ولدى الأمة في آن واحد. ذلك أن هناك "يدا
خفية" تجعل المصالح الخاصة تصب جميعها في الصالح العام.
يوافق ماركس منذ البداية على أن العمل هو أصل الثروة على اعتباره قوة
الإنتاج. كما يوافق على أن المراكمة المطردة للثروة بفعل المنافسة الحرة
(التي يسهر على رعايتها جهاز سياسي –الدولة- ليس هو ذاته سوى النتاج
الضروري لنمط الإنتاج البرجوازي) هي المصدر الأول لازدهار النظام
الرأسمالي. ويوافق أيضا على أن المكننة وتقسيم العمل ينميان الثروة (وإن
كانا يسهمان في إهلاك إنسانية العامل عبر تحويله هو الآخر إلى قطعة تافهة
ضمن مكنة الإنتاج الضخمة – وهو الأمر الذي أبدع شارلي شابلن في التعبير عنه
سينمائيا في "الأزمنة الحديثة" حين يرينا حركات الآلة الضخمة وقد سكنت جسد
شارلو حتى في أنشطته الحيوية الدنيا مثل الأكل والمشي والتبول). لكنه يقف
عند النقطة الأساسية التي لم يكن لكل من سميث وريكاردو الوقوف عندها:
الانخرام الجوهري في قلب النظام الرأسمالي ذاته (علاقات الإنتاج) بين ما
يبذله العامل من جسده ومن حياته (قوة الإنتاج) وبين ما يترتب عنه من ثروة
تملأ خزانات الرأسمالي الذي لا ينتج في واقع الأمر شيئا بما أنه مجرد مالك
(باسم ماذا؟) لمصادر ووسائل الإنتاج. ومن ثمة يأتي الحد الأوسط (المنطقي
والرياضي معا) الذي يمثل مفتاح فهم الاقتصاد الرأسمالي بما هو أعلى درجات
الهيمنة والاستغلال التي عرفها تاريخ البشرية برمّته : فائض القيمة. مطلقا،
ليس ثمة تساو بين ما يبذله العامل المهيمن عليه من طاقة ومن حياة وبين
الترجمة السلعية المحض لتلك الطاقة الحيوية (قوة الإنتاج). ويقدم ماركس، من
خلال حسابات رياضية مدهشة في دقتها، أمثلة عن ذلك تبين كيف أن الفارق بين
الأجر الذي يحصل عليه العامل مقابل دفعه قوة عمله (الـ180 دينارا التي تحصل
عليها روضة مقابل الساعات اليومية الثماني التي تشتغل فيها على المكواة
بمعمل "آريان") وبين القيمة الفعلية لتلك القوة حين تترجم سلعة يبيعها صاحب
العمل ( المردود المالي لبنطلونات الجينز التي تروجها الشركة المتعاقدة مع
فيلهلم فريدريش) قد يصل إلى ثمانية عشر ضعفا أو أكثر.
يلخص روجيه دانجفيل في تقديمه للترجمة الفرنسية لـفصل لم ينشر من قبل من
كتاب رأس المال هذه الوضعية على النحو التالي : "إن العلاقة الاجتماعية
المعقودة ضمن حقل المبادلات والمسنودة بالنظام الاجتماعي والسياسي
والقانوني والإداري والتجاري الساحق للمجتمع (…) هي التي تجبر العامل على
إنتاج فائض القيمة. فقيمة استعمال قوة عمله تخلق كمّا من المنتوجات أكبر
مما يحصل عليه كأجر عن قيمتها التبادلية. ومع ذلك فإن الرأسمالي لا يرى
فيها (أي قوة العمل) مصدرا لثروته. فبالنسبة إليه، باعتباره المالك المطلق
لوسائل الإنتاج الموضوعية، يتمثل رأس المال بامتياز في القطن أو في
المَكَنة، أي في الموضوعات. أي إنه يماهي على نحو مطلق بين قيمة التبادل
وقيمة الاستعمال بحيث يبدو رأس المال وكأنه قائم في طبيعة الأشياء ذاتها
التي يملكها رغم أن العمل هو المصدر الحق لكل قيمة ولكل ثروة". بمعنى آخر
إن التقلصات العضلية وأوجاع المفاصل وتيبس الأصابع والكفين وكل ما تعانيه
روضة وزميلاتها بسبب ساعات العمل الثمان في معمل "آريان" هي الاستتباعات
السالبة لدفعهن قوة عملهن التي هي مصدر ثروة فريدريش والشركات العالمية
التي تستوعب معمله الصغير (لأن مئات الملايين من العمال والعاملات في مئات
الآلاف من المعامل في كل أنحاء العالم يسهمون فيها بهذا القدر أو ذاك).
من ثمة جاء الشعار الماركسي الشهير الداعي إلى اتحاد كل عمال العالم عبر
الوعي بأنهم هم المصدر الفعلي لرأس المال الذي يحاول أن يؤبد استغلالهم
واغترابهم. ولكن لمَ لم تتحقق نبوءة الفيلسوف الثوري؟ لمَ لم تدك قذيفة
ماركس رأس البرجوازية الذي هو تحديدا رأس المال؟ لمَ لا تستطيع روضة
وزميلاتها وزملاؤها (في ذلك المعمل الصغير كما في كل مئات آلاف المعامل
الصغيرة والكبيرة في كل أنحاء العالم) أن يستعيدوا المقابل الحقيقي لقوة
عملهم أو من قلب المعادلة المجحفة التي تجعل الرأسماليين الذين لا ينتجون
في الواقع شيئا يتمتعون بكل الخيرات التي يحرم منها منتجوها الفعليون؟
الموزع الآلي
"لا يمكن الاستجابة لطلبكم، لقد تجاوزتم المبلغ الذي يمكنكم سحبه
أسبوعيا". اللعنة. للمرّة الثالثة على التوالي يدخل جلال بطاقة السحب
الإلكتروني في فتحة الموزّع الآلي وللمرّة الثالثة يلفظها الموزّع مرفقة
بتلك العبارة الكريهة ذات الوقع الخصائي. كان جلال ينوي سحب 40 دينارا : 10
منها لشراء العدد الأخير من "ماغازين ليترار" الذي يتناول مسألة عودة
الاهتمام بتنظيرات ماركس في الاقتصاد السياسي على خلفية الأزمة الأخيرة
التي عاشها النظام الرأسمالي المعولم. والبقية كان سيذهب بها إلى المطعم
للعشاء ولاحتساء بعض القوارير رفقة أصدقائه من الأساتذة والنقابيين والكتاب
والفنانين الذين كانوا سيجعلون من العدد الذي سيضعه على الطاولة منطلقا
لحوار مطوّل عن اليسار وأوضاعه الحالية وآفاقه المستقبلية. وسيتخلّل ذلك
طبعا غضب مشترك على آفة السجائر "المضروبة" التي غزت السوق، وعن أزمة وكالة
التبغ التي تقف وراءها على الأغلب أيد خفية تسعى إلى انهيارها من أجل
التمهيد لخصخصتها…وربما كانت السهرة ستنتهي بنقرات على العود من شفيق صديقه
الموسيقي الجميل القادم من جبال الكاف العالية، أو ببعض أغنيات الشيخ إمام
التي سيسارع القائم على المطعم إلى إخمادها في حناجرهم قبل أن تنتقل
عدواها إلى باقي الزبائن…وربما كان سيدعو إلى طاولته، بعد أن يتفرّق
المجلس، إحدى الفتيات الموجودات هناك ليشاركها قارورة أو أكثر على أمل أن
تقبل مصاحبته إلى البيت لتقتسم معه بعض ساعات عزلته…
يعمل جلال (46 سنة) أستاذا جامعيا ويحصل على ما يقارب الـ1500 دينارا. ومع
ذلك فإنّ رصيده البنكي يظلّ معظم أيام الشهر يراوح فيما يسمّيه بالمنطقة
الحمراء. أي إنه في حالة مديونية شبه دائمة بالنسبة إلى البنك. مثل هذا
الأمر لا يمكن لأهله ولبعض الأصدقاء أن يصدّقوه مطلقا. وهو واثق أنهم في
قرارات أنفسهم مقتنعون بأنه يملك رصيدا بنكيا محترما وربما فيلاّ أو على
الأقل شقّة بإحدى ضواحي تونس العاصمة. لذلك فإنهم لم يكونوا ينفكّون عن
سؤاله بحيرة مزعجة أحيانا عن سبب امتناعه عن الزواج حتى ذلك الوقت (ويقصدون
العمر) المتقدّم. لكنّ جلال نفسه كان يفهم وضعيته تلك رغم حنقه من وقت
لآخر حين يحرمه الموزّع الآلي من سهرة مشتهاة. فهو يدفع 260 دينارا معلوم
كراء بيت متواضع غير بعيد عن مقرّ عمله علاوة على مصاريف الماء والكهرباء
والهاتف والأنترنيت (الذي أصبح ضروريا لعمله ذاته بعد أن أوجب المعهد الذي
يعمل به أن يعدّ الأساتذة دروسهم إلكترونيا حتى تكون متاحة عن بعد للطلبة
ولغيرهم من المتكونين). كما أن البنك يقتطع من حسابه ما يقارب الـ400
دينارا شهريا تسديدا للقرض (ذي الفوائد المشطة) الذي اضطر إليه (رغم موقفه
المبدئي الرافض له) ليشتري سيارة أقلّ قِدما ومصاريف من "خردته" الأولى
التي لم تعد تسمح له حتى بالسفر إلى الجريد وإلى الحوض المنجمي لزيارة
الأهل ولشحن الروح ببعض الصور والذكريات من مراتع الطفولة والمراهقة. تلك
السيارة التي تتطلب بدورها مصاريف عالية بسبب غلاء قطع الغيار وخصوصا بسبب
عمليات الترفيع المتوالية في أثمان المحروقات بعد ارتفاع سعر النفط الخام
(والتي لم تقابلها طبعا تخفيضات موازية بعد أن انهار نفس ذلك السعر-
التعلّة). وإذا ما أضفنا إلى ذلك مصاريف التداوي (فجلال حريص على صحّته على
نحو يقول عنه أصحابه إنه مبالغ فيه) وما ينفقه على شراء المجلات والكتب
العلمية والثقافية (فهو قد شبّ نهما على القراءة إضافة إلى أن هذه الأخيرة
ضرورية في تدريسه الذي يدخل في مجال الإنسانيات) وما تتطلبه السهرات وبعض
الرحلات (وإن كانت متباعدة) إلى المغرب أو الجزائر أو فرنسا، فإنه يصبح
مفهوما كون الراتب ينفد منذ نهاية الأسبوع الثاني لكل شهر.
يعرف جلال أيضا أن وضعه الاقتصادي كان يمكن أن يكون أفضل مما هو عليه
بكثير لو كان يسلك مسلك بعض زملائه الذين يحتقرهم إذ يراهم يتهافتون على
المواقع والمسؤوليات ويتقاتلون على وحدات ومنح وسفرات "البحث" (وحتى على
الدروس الخصوصية في بعض الحالات النادرة لحسن الحظ) ويتفانون في تقديم
"الاستشارات" للمؤسسات والمنظمات العامة والخاصة ويلهثون وراء الإذاعات
والتلفزات والوزارات وغيرها من المواقع…بل إنه رفض يوما منصبا مربحا ومريحا
على رأس مؤسسة وطنية عرضه عليه أحد الوزراء معلنا بكل وضوح أنه رجل فكر
وإبداع لا رجل مناصب ومسؤوليات، وأن مساره وقناعاته الإيديولوجية لا تسمح
له بالقبول.
يعرف جلال كل ذلك وأكثر منه. ويفكّر وهو يقود سيارته على طريق العودة إلى
البيت في الكيفية التي يشتغل بها النظام البنكي، لا في حالته الخاصة فقط بل
على نحو عام. ويقف على المفارقة العجيبة بين "الكرم الحاتمي" الذي تبديه
البنوك في إسناد الأموال بمختلف صيغها (إمكانيات السحب في "المنطقة
الحمراء"، القروض "الميسرة" في كل المجالات الممكنة بما في ذلك ما يسمى
بالـ"القرض المباشر" الذي لا مبرر له سوى رغبة الحريف في مبلغ مالي يصرفه
كما عنّ له خلال أيام ويسدده مضاعفا على مدى سنوات) وبين "الشطط الجاحظي"
لنفس تلك البنوك في استرداد مقابل تلك "الخدمات" متبوعة بفوائض ما أنزل
الله بها من سلطان. تحضره في الأثناء مقاطع من رواية عبد الجبار العش
"وقائع المدينة الغريبة" التي يتحدث فيها الراوي عن واحدة من أغرب تلك
الوقائع يمكن نعتها بـ"مصاصي الحياة" (قياسا على مصاصي الدماء). تنتصب في
المدينة التي انتحر مبدعوها ومثقفوها عن بكرة أبيهم مؤسّسة تشتري من الناس
سنوات من أعمارهم تطول أو تقصر بحسب الأموال التي يبتغون الحصول عليها ولكن
أيضا بحسب حالتهم الصحية من زاوية نظر أطباء المؤسسة وبحسب انضباطهم
للشروط العجيبة التي تفرضها عليهم. وهكذا فإنها تحملهم على الإمضاء على
وثيقة ملزمة تحولهم إلى ضرب من العبيد الفرحين بعبوديتهم. بل إنها تصل إلى
حدّ أن تفرض عليهم نوعية الأنشطة التي يشاركون فيها وحتى الأفكار التي
يعتنقونها (عدم سياقة سيارة، عدم المشاركة في مظاهرات أو مسيرات، عدم تناول
أو تعاطي بعض المأكولات أو المشروبات التي من شأنها إلحاق الضرر "برأس
المال الصحي" للحريف..). ذاك هو تحديدا مغزى تلك المفارقة البنكية التي كان
جلال قد وقف عندها. وتذكر تصوير راوي العشّ لطغيان اللهفة على المال في
المدينة الغريبة وقائعٌها من خلال إشارته إلى تسمية الناس أطفالهم بأسماء
من مثل ذهب وفضة وذهبية ومليون وبليون ودولار وبانكة وماندة وثروة…وخصوصا
عبر تصويره مشهد الجموع التي تتقاتل على قطع وأوراق نقدية تبوّل عليها
"شْتَلْ" (البطل الهامشي الذي يحارب على طريقته كلا من النظام الرأسمالي
المتوحش و"ضديده" الديني المتعصّب الذي لا يقلّ عنه ضراوة وعبادة للمال).
"فيل في مشغل البورسلين"
لنعد إلى أسباب فشل "قذيفة كارل ماركس" في دكّ رأس البرجوازية، مع أن
بعضها قد تراءى لنا حدسيا عبر حيرتيْ كلّ من روضة وجلال. في مؤلّفه "مشغل
البورسلين" يستعيد "أنطونيو نغري" أطروحات ماركس الأساسية حول المال والعمل
والدولة (وما يستتبعها من علاقات صراعية بين إرادة الهيمنة وآلياتها
وإرادة المقاومة وكيفياتها) من خلال المفاهيم-المفاتيح الثلاثة: قيمة
الاستعمال وقيمة التبادل وفائض القيمة التي تشكل كما رأينا الحد الأوسط
المنطقي والرياضي (ومن ثمة الاقتصادي السياسي والتاريخي) لفهم النظام
الرأسمالي وكيفيات اشتغاله. إلى مختلف تلك المفاهيم (مع الأخذ بعين
الاعتبار إضافات لينين إليها خصوصا في ما يتعلق بالإمبريالية بما هي أقصى
أطوار الرأسمالية)، يضيف نغري مفاهيم وأبعادا نظرية تثوّر النظرية
الماركسية على نحو جذري (مما حدا ببعض الغلاة إلى رميه بالتحريفية
والإصلاحية وهو الذي قضى سنين طويلة في السجن بسبب نظرياته وأنشطته
الثورية) وتفسر، جزئيا على الأقل، الفشل الماركسي في الإطاحة بالنظام
الرأسمالي.
يتمثل البعد الأول لهذا التثوير في القول بأن هناك نقلة حاسمة تخص منزلة
الدولة باعتبارها مركز السيادة وبالتالي الساهر على تنظيم علاقات الإنتاج
(رغم أنها ليست هي نفسها سوى نتاج لتلك العلاقات). تلك الدولة التي رأينا
آدم سميث يوكل لها دورا تنظيميا محضا على اعتبار أن علاقات العمل والمصالح
الفردية والجماعية قادرة بذاتها ومن ذاتها على التأقلم مع بعضها لتصب كلها
في المجرى الكبير والمحتوم للتقدم أي لنمو وازدهار الأمم. تلك
الدولة-المركز التي ظل ماركس يشغل مفاهيمه الاقتصادية والسياسية في إطارها
(رغم حلمه بثورة بروليتارية عالمية) باعتبارها الحيز الأول للصراعات التي
من شأنها أن تقود إلى الثورة. هذه الدولة يقول عنها "نغري" إنها فقدت
نهائيا أسباب وجودها بفعل حلول زمن الإمبراطورية التي لا تعترف في مشروعية
وجودها وفي قوانين اشتغالها بسيادات الدول-الأمم التي حتى إن ظلت موجودة
فهي ثانوية وغير ذات أثر فاعل. الإمبراطورية إذن طور جديد تماما في تاريخ
الإنسانية مغاير على الأصعدة كافة للرأسمالية التي حللها ماركس (وحتى
للإمبريالية كما فهمها لينين وعمقها وطوّرها سمير أمين من خلال ثنائية
المركز والأطراف). ولكل طور جديد لا بدّ من مفاهيم وآليات تحليل جديدة. كما
أن لكل شكل جديد من الهيمنة صيغا جديدة للمقاومة محايثة لإبداعات
الجَمْهَرات ( multitudes ) بحسب معيشها الفعلي وقدرتها على بناء ذاتها
ضمنه.
ويتمثل البعد الثاني في إدراج مفهوم الحيوي أو البيوس (Bios) ذي الأصول
السبينوزية والتطويرات الدولوزية والفوكوية في فهم كيفية تكون ما يسميه
بالذاتية ما بعد الحديثة وضمن علاقاته المتشابكة مع مسائل مثل الرغبة
والسلطة وقوة العمل التي لم تعد مجرد سلعة تفهم ضمن التباعد الرأسمالي بين
قيمة الاستعمال وقيمة التبادل. ما يسم السلطة ما بعد الحديثة (التي يسميها
دولوز وغواتاري بالأكسيومية الرأسمالية ذات الحقيقة الواحدة – المال) هو
كونها "بيو-سلطة" أي أنها تلتبس بالحياة ذاتها وتخضعها إلى ضرب من
"البيو-سياسة. هذه البيو-سياسة تأخذ طابعا أنطولوجيا محايثا باعتبارها لا
تقف عند تنظيم وتقنين وسائل وعلاقات وقوى الإنتاج وإنما تشمل كل أنحاء وجود
الكائنات وعملهم الجسدي والذهني (المادي واللامادي) وحاجاتهم واتصالاتهم
(عبر الشركات العابرة للقارات ووسائل الاتصال الكونية والطرق السيارة
للمعلومات التي لا تكف عن خلق الحاجات وعن جعل تلبية كل حاجة منطلقا لخلق
أخرى…). يقول نغري في هذا السياق: " ينبغي أن نسعى إلى تبين فعلية ونضج
المقولات البعد حديثة. ولا بد في المقام الأول من نزع الهالة الأسطورية عن
العلاقة بين قيمة الاستعمال وقيمة التبادل. يتعلق الأمر ولا شك هنا
باستعادة خصومة ماركسية قديمة. ولكن من الضروري التنويه إلى أن هذه الأخيرة
هي في صلب تعريفات ما بعد الحداثة وفي قلب القطيعة التي تتركز في الوقت
ذاته في صلة بتصور للسياسي وللسيادة ذات التقليد الطويل، وضمن نقد لنمو
الحداثة. ولكن هناك عنصرا جديدا في هذا النقاش: الوعي الكامل بأن لا قيمة
يمكنها الانعطاء خارج سلعنة العالم. فشدة المقاربة المحايثية للتاريخ
الحاضر تلغي كل إمكان رجوع لتصورات طبيعوية أو ماهوية للقيمة (…) لم تعد
هناك طبيعة أو مفاهيم يمكننا الاستناد إليها. ولكن هناك إمكان الفعل
وبالتالي إمكان تحطيم النسبية: هناك إمكان إنتاج الذاتية. مع فلسفات ما بعد
الحداثة صار العالم من جديد معاصرا. وعلينا الآن أن نكوّن له ذواته".
العشاء مع الماضي
مع نهاية الأسبوع البنكي لبطاقة جلال الإلكترونية أمكن له سحب "الأموال"
(كما يسميها أحد أصدقائه الذي كان دائما يقولها على سبيل الجمع كما لو كان
يريد باللسان جعلها تتكاثر تعويضا عن قلتها الفعلية في جيوبه). لم يكتف
بشراء المجلة المتعلقة بماركس بل اقتنى أيضا كتابا لأنطونيو نغري كان قد
نصحه بقراءته صديق له من الفلاسفة. كان له أيضا ما يكفي للعشاء ولاحتساء
بعض القوارير. فكّر في الذهاب إلى المطعم الذي تعوّد أن يلتقي فيه أصدقاءه
المعهودين. لكنه عدل عن ذلك في آخر لحظة. لا يدري ما الذي أوحى له في تلك
اللحظة الفالتة أن يقصد ذلك المطعم الصغير والمعزول الذي لم يزره منذ أشهر.
ربما كان وجه الفتاة التي مرّت لحظتها حذوه والتي ذكّرته بصديقة قديمة كان
يخلو إليها وسط هدوء ذلك المطعم الذي صار بالنسبة إليه نوعا من الحديقة
السرية الصغيرة.
حين دخل جلال، كان المطعم خاليا إلا من زبونين أو ثلاثة. وكان ذلك مناسبا
جدا بالنسبة إليه. فهو قد أقلع عن التدخين منذ مدة ولم يعد يطيق الأماكن
المليئة تبغا بسبب عدم الجدية في تطبيق قانون الفصل بين المدخنين وغيرهم
داخل مقاهي ومطاعم المدينة. كما أنه كان متلهفا لتصفّح المجلة والكتاب.
بعد ما يزيد عن الساعة كان المطعم قد شرع في الامتلاء. حين هم جلال
بارتداء جمازته للمغادرة لفت نظره مشهد فتاتين كانتا تجلسان متحاذيتين إلى
طاولة قبالته. كانت إحداهما تفوق الأخرى سنّا بما يقارب السنوات العشر.
ولكن ما شدّ انتباه صاحبنا هو أن الصغرى كانت الأكثر جرأة وأريحية في
علاقتها بالمكان وبالمتواجدين فيه من ندلة وزبائن. بل إنها كانت على ما
يبدو تلقّن الكبرى أساليب الجلوس والشرب وفنون النظر ولفت الانتباه. بعد
تردّد قصير دعاهما جلال إلى طاولته. قبلت الصغرى بغنج واضح بينما جلست
الكبرى بشيء من الارتباك. بعد بدايات صعبة ومفاوضات عسيرة حول نوعيات
المطلوبات (كانت الصغرى تعتبر أنه على المضيّف أن يطلب لضيفتيه أغلى أنواع
الأكل والشراب بقطع النظر عن القيمة الفعلية لكلّ منهما) نشأ بين الثلاثي
قدر من الحميمية شجّع الفتاة المرتبكة على البوح لجلال ببعض
أسرارها…وأمكنها ذلك بسبب قدرة جليسها على الإصغاء والتفهّم، خصوصا بعد أن
استأذنتهما الأخرى في الالتحاق بزبون آخر كان يغازلها وكانت تبدو عليه
علامات من امتلأ جيبه أكثر من عقله.
…منذ ستة أشهر (بفعل ضغوط مؤكدة من شركات الجينز العابرة للقارات) انتقل
فيلهلم فريدريش بمعمله الصغير إلى منطقة أفقر في العالم تمكّنه من تشغيل
فتيات وأطفال آخرين بأجور أكثر تواضعا. ووجدت روضة وزميلاتها أنفسهنّ في
حالة بطالة. في الأثناء تمكّن رؤوف "خطيبها" من "الحرقان" ولكنها لا تدري
إن كان قد بلغ الفردوس الإيطالي أم قاع المتوسّط السحيق. أما هي فقد
استدعاها أخوها لزيارته بتونس فسارعت إلى ذلك بسبب اليأس الذي خيّم على
روحها. وبينما كانت تجرّب حظّها في البحث عن عمل التقت صدفة بابنة خالتها
حنان التي لم تكد تتعرّف عليها من فرط التغيرات التي طرأت على جسدها وعلى
مظهرها. ولكنها لم تتأخّر كثيرا في الولوج إلى عالمها.
كان اليأس الذي عصر روح روضة (ودفعها بالتالي إلى الارتماء في عالم حنان
ومثيلاتها) متأتيا من بطالتها ومن فراق رؤوف لها. ولكن سببه الأعمق كان
مرتبطا بأمر آخر باحت به لجلال بعد أسابيع من لقائهما ومن توطّد العلاقة
بينهما. كان الأمر متعلقا بمصير جارتها وصديقة طفولتها موناليزا، "أستاذة"
الفلسفة. لقد جعلتها بطالتها المطولة وعزلتها تفكّر في إيجاد مصدر ولو مؤقت
وبسيط للرزق. كانت موهوبة في الرسم وفي كافة أنواع النقش على البلور وعلى
الخشب وعلى الحرير. وبما أنّ الحجاب قد عاد موضة بين الفتيات التونسيات
سواء على سبيل التقوى (الفعلية أو المزعومة) أو على سبيل الموضة والإتباع،
فقد توجهت إلى صنع تلك الخمارات الملونة والمزركشة التي تحجب عن أعين
الرجال شعور النساء لتشوّقهم إلى اكتشافها. في الأثناء تعرّفت على عدد من
المحجبات المنتميات إلى مجموعة أصولية عنيفة أقنعتها بمبادئها إلى درجة
أنها شاركت في عملية تفجير حافلة سواح على مشارف الصحراء…ولم يدر أحد من
يومها عن أمرها شيئا…
ولكنّ المفارقة في الأمر كله (تذكر جلال تلك الحادثة التي كانت قد أخذت
صدى إعلاميا واسعا) أن ركاب تلك الحافلة كانوا في أغلبيتهم من الخضر ومن
مناضلي العولمة المغايرة الذين نظموا قافلة احتجاجية على امتداد الصحراء
الإفريقية تنديدا بدفن الشركات الصناعية العابرة للقارات نفاياتها السامّة
في أراضي العالم الثالث مقابل حفنات كبيرة من الأموال تدفعها لزمرة من
المسؤولين الفاسدين.