اليونان : إستبداد راس المال العالمى
محمود محمد ياسين
2015 / 7 / 6
إن التطورات الاخيرة فى ازمة اليونان المالية ترجع الى صعود حزب سيريزا (تحالف أحزاب يسارية) للسلطة بعد فوزه فى الإنتخابات البرلمانية مطلع 2015 وتشكيله للحكومة بالتحالف مع حزب اليونانيين المستقلين اليمينى؛ وقد كان الشعار الرئيس لحزب سيريزا فى تلك الإنتخابات إنهاء إجراءات التقشف التى فرضها على البلاد الإتحاد الاوربى.
أجرت الحكومة الجديدة إتصالات ومشاورات مكثفة لإقناع الإتحاد الأوربى تقديم مساعدات مالية جديدة بتمديد برنامج الإنقاذ المالى لليونان. وبرنامج الإنقاذ المالى عبارة عن مساعدات مالية تقدمها لليونان ترويكا تتكون من صندوق النقد الدولي والمفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي. والترويكا ظلت تكفل اليونان منذ 2010 من خلال ما سمى ببرنامج الإنقاذ المالى الذى تخصص امواله لتمويل برنامج التعديل الإقتصادى (Economic Adjustment Programme) الذى تنفذه اليونان منذ 2010 كشرط لحصولها على مساعدات الترويكا المالية.
وبرنامج التعديل الإقتصادى يتضمن إجرآءت سياسية/إقتصادية متشددة تشمل تخفيضات عميقة في الإنفاق العام وزيادة الضرائب وإلغاء آلاف الوظائف فى القطاع العام، وفرض زيادات ضريبية، وخصخصة المؤسسات العامة، والقيام بإصلاحات هيكلية.
لم يؤدى برنامج التعديل الإقتصادى الى التخفيف من الازمة الإقتصادية، بل أن تدابيره، على حسب وصف مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، ” تسببت في كساد الاقتصاد وقوضت بصورة عامة تمتع الأفراد في اليونان بحقوق الإنسان، وخاصة منها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وجدير بالذكر أن تخفيضات الإنفاق العام وإصلاحات سوق العمل أدت إلى زيادة البطالة (لا سيما في صفوف الشباب) والتشرد والفقر والإقصاء الاجتماعي (إذ يعيش نحو 11 في المائة من السكان في فقر مدقع)، وقلصت بحدة إمكانية الحصول على الخدمات العامة كالرعاية الصحية والتعليم. وكان وقع هذه التدابير شديداً بصفة خاصة على أضعف الفئات، أي الفقراء والمسنين وأصحاب المعاشات والأشخاص ذوي الإعاقة والنساء والأطفال والمهاجرين.“- مجلس حقوق الإنسان 2013. وتزداد الصورة قتامة إذا ما أدركنا أن معدل البطالة فى اليونان بلغ 25%، وأن ديونها البالغة 350 بليون يورو تعادل 180% (مائة وثمانين) من الناتج المحلي، وأن البلاد فقدت القدرة التمويلية وأصبحت تفتقر للسيولة لعدم إستطاعتها الاستدانة من الأسواق إزاء تخفيض وكالات التصنيف الائتمانى العالمية التصنيف الإئتمانى للديون السيادية اليونانية الى درجة دنيا.
————————————
جاء رد الإتحاد الأوربى على مطلب اليونان الخاص بمد المساعدات المالية ينص على أن أى مساعدات مالية جديدة لليونان لن تتم الا مقابل تبنى الاخيرة لمزيد من الإجراءات التقشفية. وفى يوم الثلاثاء (30/6/2015) فشلت اليونان فى سداد قسط لقرض مستحق لصندوق النقد الدولي قيمته 1.6 مليار يورو. وهكذا كانت اليونان أول دولة متقدمة تتعثر فى الإيفاء بإلتزاماتها المالية للصندوق؛ وجاء عجز اليونان عن السداد نتيجة لإنقطاع تدفق أموال الدائنيين التى تستخدم لمقابلة إحتياجات البلاد الاساسية وتسديد مستحقات مديونياتها.
ويقدر صندوق النقد أن اليونان يحتاج لخمسين مليون يورو إضافية زائداً ضرورة موافقة الأوربيين على تأجيل مواعيد إستحقاقات تسديد اليونان لديونها بمد فترة استحقاق السندات وفترة السماح على الفوائد. هنا يلاحظ القارئ فقدان الصندوق لأى مصداقية بمطالبته اليونان دفع القسط المستحق السابق ذكره، فالصندوق يدرك ان اليونان يعتمد إعتماداً كاملاً على إستخدام القروض التى يتلقاها من الترويكا فى تسديد
إستحقاقات ديونه المتراكمة التى كما راينا بلغت حداً حرجاً ؛ كما أن موقف الصندوق يدعو للتساؤل كيف جاز له أن يواصل تقديم القروض الى اليونان الى الحد الذى إقتربت فيه لان تكون ضعف الناتج المحلي.
————————————
أدى إمتناع الإتحاد الاوربى عن تجديد برنامج الإنقاذ المالى الى أن تعدل الحكومة اليونانية من موقفها الداعى لرفض ترتيبات التقشف مقدمة تنازلات كثيرة على أمل أن تخفف الترويكا المالية شروطها التمويلية القاسية؛ ولكن حتى هذا الموقف قوبل بالرفض إذ تعنت الدائنون وأصروا على موقفهم. وإزاء تعثر المفاوضات دعت حكومة سيريزا الى إجراء استفتاء شعبي على مقترحات الترويكا المالية بخصوص مد برنامج الإنقاذ المالى الاوربى لكى يجيب أفراد الشعب على سؤال قبول أو رفض الإجراءات التقشفية الصارمة التى يشترطها الدائنون لمواصلة مساعداتهم المالية لليونان. فالإستفتاء لا يتعلق بالبقاء فى الإتحاد الاوربى او الإنفصال عنه وهذا ما اكده رئيس حكومة سيريزا حيث وجه كلمة للشعب ذكر فيها ان ” الإستفتاء لن يقود الى الإنسحاب من فضاء الاتحاد الأوروبي أو اليورو بل خطوة حاسمة للضغط أكثر على الدائنين الدوليين من أجل منح البلاد اتفاقا قابلا للتطبيق ولا يتسبب في اختناق أكبر للاقتصاد اليوناني ويسمح له بالعودة إلى الأسواق العالمية“.
كما أن الحكومة اليونانية فى مباحثاتها مع الدائنين، وهى تقدم التنازلات كما تقدم الإشارة له، لم تخلو مقترحاتها عن بعض الاجراءات التقشفية التى تشمل ترتيبات تصب فى مصلحة زيادة ربحية رأس المال
وتشمل فيما تشمل الحفاظ على التخفيضات الكبيرة فى الأجور والمعاشات التى طبقت منذ 2010 بالإضافة لعدم التمكن من تعويض أو إعادة توظيف الآلاف الذين فقدوا عملهم منذ ذلك التاريخ.
————————————
والآن وقد أظهرت نتيجة الإستفتاء فى اليوم الخامس من يوليو 2015 فوز اليونانيين الذين يرفضون خطة الإنقاذ التي تتضمن إجراءات تقشف جديدة بنسبة 61% فإن عدم التوصل لإتفاق مع الدائنين، ربما خلال أيام معدودة لا أكثر، يعنى أن اليورو لن يكون متاحا كوسيلة للسداد والعودة للعملة المحلية (الدراخما)؛ وضرورة السرعة لحسم هذا الأمر تمليها الأزمة المالية التى تعيشها البلاد، وأهم مظاهرها إستمرار إغلاق البنوك لعدم توفر السيولة.
ويبدو لأنها لا تمتلك تصوراً محدداً للتكيف مع آثار نتيجة الإستفتاء التى أدت الى رفض اليونانيين لبرنامج الإنقاذ الأوربى، فمن المتوقع ان تعمل حكومة حزب سيريزا الشعبوية على تفادى خروج اليونان من منطقة اليورو، فالعودة للدراخما التى يتوقع أن تكون ذات سعر صرف منخفض ستكون لها سلبيات كبيرة تتمثل فى إرتفاع تكلفة الواردات (النفط والغاز والسلع الرأسمالية) وبالتالى إفلاس الكثير من المصانع والشركات لعجزها عن مقابلة إلتزاماتها. كما أن الخروج سوف يؤدى إلى مزيد من التدنى فى التصنيف الائتمانى لليونان ومن ثم إرتفاع نسبة مخاطر الإستثمار فى السندات الحكومية والإقراض عموماً. وهذه السلبيات سترجح الكفة على الإيجابيات التى يمكن ان تتحقق من العملة المحلية المنخفضة مثل تشجيع السياحة والصادرات (التى يتوقع أن ينخفض إنتاجها نتيجة تدهور بيئة الإستثمار).
إن مواصلة الحكومة الشعبوية مساعيها بعد الإستفتاء للتوصل لإتفاق مع الإتحاد الأوربى أكدته تصريحات رئيس وزراء اليونان، ألكسيس تسيبراس، الذى خاطب المواطنيين بعد الإستفتاء قائلاً ” إننى أعرف أن التفويض الذى منحتمونى له ليس تفويضا لإحداث صدع فى العلاقات مع أوروبا، ولكن تفويضا يعزز موقفنا التفاوضى مع الدائنين سعيا إلى حل قابل للتطبيق.“ والسؤال الكبير هو كيف تستطيع الحكومة فى حال قبولها أى شروط جديدة يفرضها الإتحاد الأوربى تكييف هذا الموقف مع الوعد الذى قطعه حزبها أمام الناخبين برفض التدابير التقشفية.
لم ينظر حزب سيريزا، الذى يصنف نفسه كحزب يسارى تنضوى تحت إطاره التنظيمى نخب من الرجوازية الصغيرة ذات مشارب آيديولجية شتى، الى أن أزمة اليونان مبعثها معوقات هيكلية يتسم بها النظام الرأسمالى وساق هذا الحزب الناس نحو خيار محاربة الفساد فالأزمة بحسبهم تعود لسياسين ورجال أعمال لصوص هم وراء تفريغ البنوك من الأموال.. وحزب سيريزا يتحالف برلمانياً مع أكثر الاحزاب اليونانية يمينية. والأهم هو تجاهل حزب سيريزا الى أن شروط الترويكا الخاصة بإجراءات التقشف المفروضة على اليونان هى ترجمة لسياسة الإتحاد الأوربى حيال الأزمات المالية؛ وهى سياسة اصيلة تتسم بالإستبداد والتشدد فى إدارة الإقتصاد الراسمالى.
- See more at:
http://www.ssrcaw.org/ar/show.art.asp?t=2&aid=475219#sthash.pb9Ky4Vi.dpuf