"
في فقرنا الفكريّ يكمن غنى الفكر. فالفقر الفكريّ يجعلنا نحسّ أنّ
التفكير يعني دائما أن نتعلّم كيف نفكّر أقلّ ممّا نفكّر، أن نفكّر في
الغياب الذي هو الفكر، وأن نحافظ على ذلك الغياب عندما ننقله إلى الكلام".
م.بلانشو
"قلّة هم أولئك الذين يصعدون عندما ينزلون خطوات الى الوراء"
ف. نيتشه غالبا ما يقترن العقل والعقلانية عندنا بالظّفر والتقدّم والبناء والنماء.
غير أنّ التفاتا الى تاريخ العلوم، وخصوصا تلك التي اعتبرت دوما مهد
العقلانية وأنموذجها الأرقى، وأعني الرياضيات، من شأنه أن يبيّن لنا أنّ
ذلك الاقتران أقرب الى الوهم منه الى الواقع الفعلي. فتاريخ العلوم، الذي
هو تاريخ منتوجات العقل، هو أوّلا وقبل كلّ شيء، تاريخ العثرات والأخطاء
والأزمات.
إنّ الفكر لا يكون أمام المعرفة العلمية شابّا حديث النشأة، وإنّما شيخا
مثقلا بالسنّ، وعمره عمر أخطائه وأحكامه المسبقة. لكي ينتج موضوعاته ويهذّب
مناهجه، يكون عليه، لا أن يتطلّع الى أمام، وإنّما أن ينظر الى خلف، لا أن
يراكم حقائق فوق ما تراكم من بداهات، وانما أن يراجع ويعيد النظر، يجتهد
ويجاهد، يصارع ويقاوم.
وهكذا كلما بلغ مرماه انتابه نوع من "الندم الفكري" على حدّ تعبير باشلار.
ما يعني أن الفكر لا يتوصل الا إلى ما كان ينبغي معرفته. كأنه دوما فكر
مخدوع نصبت له الكمائن، ودبّرت له المكائد.
هذا ما يجعل الفكر رويّة وتروّيا أكثر منه عجلة واندفاعا. إنّه توقّفات وقطائع وانفصالات، أكثر منه مواصلة وجريانا وانسيابا.
يغدو اعمال الفكر، والحالة هذه، حدّا من الاندفاع. إنّه إيقاف و"فرملة"
freinage. وهو نوع من "بعث الفراغات". انّه، على حدّ تعبير بلانشو، غياب
وتفكير في الغياب. فأن نفكّرهو أن نتعلّم "أن نفكّر أقلّ ممّا نفكّر". هذا
الأقل، هذا الخصاص والعوز manque هو خصاص نسبةْ الى اغتناء وهميّ، نسبة إلى
وهم اغتناء . من أجل ذلك غدا الفكر اليوم مقترنا ، ليس بالغزو والبناء
والتشييد، وانما بالنقد والتراجع والحفر وفك البناء.
مقابل عقلانية ظافرة ما تنفك تحقق انتصاراتها، تقوم اليوم عقلانية تتحدد
نسبةْ الى الفشل لا الى الظفر. إنّها عقلانية لا يهمّها ما تحققه من
انتصارات، وإنّما ما تتفاداه من هزائم، وما تتجاوزه من أزمات. هي إذن
عقلانية تتغذّى على فشلها، ولا تنفكّ تحسّ بأنّ الفشل يلاحقها. والمفارقة
هنا هي أنّ هذا الاحساس وهذا التشرّب لـ"ثقافة الفشل" culture de l'échec،
هو الكفيل وحده بأن يجعلها تنتصر وتتقدّم وتنمو.