"ما أقلّ احترامنا لتلك
الأمكنة العزيزة التي نظنّ ونحن فيها أنّنا نخلو بأنفسنا، ناسين في الوقت
ذاته حضورها الصامت، احتراماً لنا".
قد تحيل هذه العبارة إلى أفكار مختلفة حول مفهوم (المكان) وكيفيّة النظر
إليه والتفاعل معه. ولعلّ الفكرة الرئيسية التي تتضمّنها العبارة عن
"احترام الأمكنة" و"حضورها الصامت"، وبالتالي ضرورة التعامل معها بجدّية،
تتيح ـ من وجهة نظري ـ الحديث عن وجود "ذاكرة للمكان"، وارتباط ذكرياتنا
وذاكراتنا أيضاً بعلاقة عميقة مع الأمكنة، بشكل يكاد يكون متلازماً
وعضوياً، سواء أدركنا ذلك أم لم ندركه.
من الممكن هنا أن نطرح تساؤلاً لتفكيك تلك العلاقة وتوضيحها بغية فهمها.
هل هي علاقة بين الفرد وذاكرته؟ أم أنّها بين تلك الذاكرة وبين المكان؟
بصيغة أخرى جافّة: هل العلاقة مع التاريخ أم الجغرافيا؟
أعتقد أنّ الأجوبة لا بدّ أن تختلف من شخصٍ إلى آخر، وهذا طبيعي لأنّها
ستستند دون أدنى شكّ إلى التجربة الشخصيّة الخاصّة، وبالتالي تُحدّدها
الصيغة التي ينظر كلّ فرد من خلالها إلى الموضوع.
شخصيّاً أرى أنّ هناك ارتباطاً وثيقاً بين الذاكرة الإنسانية، الفردية
والجمعية على السواء، وبين ذاكرة الأمكنة. بناءً عليه فإنّ استخدام مصطلح
(ذاكرة المكان) ليس من باب المجاز البحت. وبما أنّنا في تعبيرنا اللغوي
كثيراً ما نستخدم أو نقرأ عبارات من قبيل "البيت الذي شهد مولد فلان" أو
"الساحة التي شهدت حادثة كذا" مثلاً فهذا دليل على صحّة الاستنتاج. وإذا
تناولنا الجانب اللغوي للمسألة سنجد أنّ: الفعل (شَهِدَ) يقوم به فاعل هو
(شاهِد)، ولا بدّ للشاهد من ذاكرة لتسجيل شهادته، طبعاً هي ذاكرة افتراضية
في جانب منها، لكنّ ما نريده هنا التأكيد على أنّ فكرة (ذاكرة المكان) ليست
مجرّد "تفكير رومانسي" لا يعدو أن يكون نتاجاً لأخيلة الكتّاب والروائيين،
خصوصاً وأنّ الكثير من الدراسات النقدية في الأدب تشير إلى محورية
(المكان) أو حتّى أن يكون "بطلاً" في هذا العمل الأدبي أو ذاك (رواية، قصة،
شعر).
وليس أدلّ على أهميّة (الشهادة) التي يقدّمها المكان على أحداث معينة، من
واقعةٍ ذكرتها تقارير صحفيّة عدّة، تحدّثت في وقتها عن قيام سلطات الاحتلال
الإسرائيلي بإزالة الجدار الذي كان الطفل (محمد الدرّة) يستند إليه في
اللحظات التي سبقت موته برصاص جنود الاحتلال، وذلك كلّه ظهر كما نعلم في
الصور والتقارير التي تناقلتها وسائل الإعلام عبر العالم، الأمر الذي سبّب
حينها إرباكاً كبيراً للحكومة الإسرائيلية أمام المنظّمات الإنسانية
الدّولية، وفضح استهتارها الوقح بكلّ المعاهدات والمواثيق الدوليّة التي
تنصّ على حماية المدنيين وتحييدهم خلال النزاعات المسلحة، فما كان منهم
إلاّ إزالة الجدار (الشاهد) وتغيير معالم المكان، في محاولة بائسة لمحو
آثار الجريمة العنصريّة البشعة التي ارتُكبت بحقّ طفلٍ بريء لا ذنب له سوى
أنّه فلسطيني. في هذا السياق فإنّ ما تقوم به سلطات الاحتلال الإسرائيلي من
أعمال "التهويد" المنهجي لمدينة القدس، وتغيير معالم وأسماء الأحياء
القديمة فيها، والمحاولات المستمرّة لاقتلاع من بقي فيها من الفلسطينيين،
يندرج ضمن عملية تشويه (ذاكرة المكان) الفلسطيني، ومحو كلّ ما يشير إلى
الجريمة التي ارتُكبت ومازالت منذ أكثر من نصف قرن.
بالعودة إلى الجانب اللغوي، ربّما من المفيد التذكير بالقاعدة النحوية
العامّة لاشتقاق اسم الفاعل في اللغة العربية، حيث يتم ذلك بإبدال الحرف
الأول من الفعل المضارع المبني للمجهول بحرف الميم وتكون حركة الميم
الفتحة. مثال: الفعل عمِلَ يصبح في صيغة المضارع المبني للمجهول: يُعمَل،
نطبّق القاعدة المذكورة ليكون اسم المكان مَعمل، ومثلها يُكتب/مَكتب،
يُشغَل/مشغل، وهكذا مَلجأ، مَرسم، مَشفى وغيرها. من جهة أخرى فإنّ العبارة
الأشهر في مطلع (الكتاب المقدّس): "في البدء كانَ الكلمة" تتضمن حالة لغوية
خاصّة، وهي أنّ الفعل (كان) في هذا الاستخدام ليس فعلاً ماضياً ناقصاً
كبقيّة حالات إعرابه، بل هو في هذا الموضع فعل تام يفيد التكوين والتكوّن.
نعود للقاعدة: الفعل كان، صيغة المضارع المبني للمجهول يُكان، نستبدل الحرف
الأول بميم حركتها الفتحة لتصبح الكلمة مَكان.
إذاً معنى "المكان" هو الحيز المادي (أو المعنوي الافتراضي) الذي تتكوّن
الوقائع والأحداث والأفعال ضمنه، ويستحيل بالتالي تصوّر وجودها بدونه،
وسيصعب تذكّرها أو إثباتها أحياناً مع زوال الأمكنة التي احتضنتها، فالمكان
والحال هذه ليس حيّزاً مادّياً وذاكرةً وحسب، بل هو عنصر أساسي من عناصر
الحدث وتفاصيله ولا ينبغي إغفاله.
وخلافاً لما نريده ممّا تقدم، نجد باستمرار إهمالاً هنا وتخريباً هناك
لذاكرة المكان في هذه المدينة العربية أو تلك. من ذلك، على سبيل المثال لا
الحصر، ما حصل مؤخّراً في واحد من أحياء دمشق القديمة وتحديداً في منطقة
(الدقّاقين/ سوق مدحت باشا)، ويمكن اعتبار ما جرى فضيحة بل وإساءة للذاكرة
السوريّة، طالت منزل رمز من أهم الشخصيات الوطنية في تاريخ سوريا الحديث هو
الشهيد (يوسف العظمة)، حيث تمّ التعدّي على جزء كبير من المنزل، وتمّ
إلحاقه بمطعم مجاور. وكان الموقع السوري الإخباري على شبكة الإنترنت (دي
برس) قد تناول هذا الموضوع في تقرير نُشر بتاريخ 29/12/ 2009 جاء فيه أنّ
البيت "يشهد تعدّي على جزئه الشمالي لحساب مطعم "أوبالين" بشكل أوسع عما
كان في السابق، حيث استغل صاحب مشروع المطعم ما يقارب الـ50 متراً مربعاً
من جهة الجدار المشترك بين العقارين لتنضم هذه المساحة للمطعم في توسعته
على حساب بيت عائلة العظمة"! خلاصة القول أن (المكان) بحضوره وذاكرته معاً،
يشكّل بعداً هامّاً وأساسيّاً من أبعاد هويّة وذاكرة المجتمعات والأفراد
على السواء. لا نريد إطلاقاً أن يختلط الأمر على البعض فيُفهم الكلام من
باب "التقليد وتقديس الماضي والتراث" بل إنّنا نشدّد على رفض ذلك. لكنّ
المسألة هي في احترام الأمكنة وذاكرتها من ضمن احترامنا للأشخاص والمواقف
المرتبطة بها، ورفض التساهل الحاصل حيال التخريب الذي يطالها.