(1)
ـ1 في تخريج "نصّيْ: الخلع والحفد" لا نحبّ أن نثقل في هذا المقال، فنتوسّع في تخريج هذين "النصّين"،فذلك من
الشائع المبذول في مباحث ودراسات قرآنيّة شتى. وفي هذا الذي نسوقه ممّا
نقله السيوطي في الدرّالمنثورعن ابن الضريس في فضائله،غنًى عن الإكثار.
يقول: أخبرنا موسى بن إسماعيل، أنبانا حمّاد قال: قرأنا في مصحف أبيّ
بن كعب:
"اللهم إنّا نستعينك ونستغفرك، ونثني عليك الخير، ولا نكفرك، ونخلع ونترك
من يفجرك." قال حماد: هذه الآن سورة، وأحسبه قال: "اللهم إيّاك نعبد،
ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفِد، نخشى عذابك، ونرجو رحمتك، إنّ عذابك
بالكفار ملحق."
سُمّي هذان النصّان ب"سورة الحفد" و"سورة الخَلع" حينا ، وسورة
"القنوت" حينا أو "سورتيْ القنوت". وهناك من سمّاهما "دعاء القنوت"
أو"دعاء الفجر" أو "الدعاء". وقد وردا في مصنّفات غير قليلة، لكن باختلاف
يسير،دون أن يثيرا عند القدماء إشكالا يذكر؛فقد كانوا على دراية بأنّ أكثر
من آية "أُسقطت في ما أٌسقط من القرآن" بعبارة عبدالرحمن بن عوف عندما
سأله عمر بن الخطاب إن كان يحفظ الآية:"أن جاهدوا كما جاهدتم أوّل مرّة".
أو قول عمر :"يا أيّها الناس لا تخدعن عن آية الرجم فإنـها آية نزلت في
كتاب الله وقرأناها ولكنها ذهبت في قرآن كثير ذهب مع محمّد."ومثاله أيضا
قول أبي موسى الأشعري:"كنّا نقرأ سورة كنّا نسمّيها بإحدى
المسبّحات،وأُنسيتها،غير أنّي قد حفظت منها: يا أيّها الذين آمنوا لِمَ
تقولون ما لا تفعلون،فتكتبَ شهادة في أعناقكم،فتسألون عنها يوم القيامة".
والنصف الأوّل هو الآية الثانية من سورة الصف "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ". ومثاله أيضا ما جاء في
الإتقان من أنّ مسلمة بن مخلد الأنصاري كان يتلو آيتين لا وجود لهما في
مصحف عثمان، وهما: " إنّ الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله
بأموالهم وأنفسهم،ألا ابشروا أنتم المفلحون. والذين آووهم ونصروهم وجادلوا
عنهم القوم الذين غضب الله عليهم،أولئك لا تعلم نفس ما أخفي لهم من كثرة
أعين جزاء بما كانوا يعملون"…
وما إلى ذلك من أمثلة أخرى لا يتـّسع لها الحيّز الذي تخيّرناه لمقالنا هذا.فلعلّ الإشكال بدأ مع بعض المستشرقين
من الذين يكنّون احتراما كبيرا للنبي،وليست غايتهم الطعن عليه كما يقع في
وهْم كثيرين من بني قومنا يطالبون هؤلاء أن ينظروا إلى القرآن بعين
إسلاميّة؛ أي أن يعتبروه كتابا منزّلا،فيما هم ـ وهذا حقهم الذي لا يجوز
لنا أن نصادره ـ تعاملوا مع القرآن على أنّه"عمل محمّد" بعبارتهم؛وقد
"وضعه" في سياق إلهام خاصّ به،من جهة ، وتفاعل مع الأحداث والملابسات
الدينيّة والاجتماعيّة والسياسيّة التي حفّت به وبدعوته من جهة أخرى.
،فهو يعتبرJohan Adam Möhler ومثالهم اللاهوتي الكاثوليكي الألماني يوهان آدم مولر(1796 ـ 1838)
القرآن كتابا دينيّا ينمّ عن خبرة دينيّة أصيلة وقد"اُستُقيَ من ملء فيّاض".
، وقد نقل السور الأربعين الأخيرة منJosef Von Hammar ومنهم أيضا جوزف فون همر(1774 ـ1856)
القرآن إلى الألمانيّة،بلغة مسجّعة. وهو يعتبر أنّ الألوهة تتجلّى في
عظمة لغة القرآن، وهي التي كانت في تقديره عاملا حاسما في انتصار دعوة
محمد. وهمر ـ على ما يبدو ـ هو أوّل من نشر النصّين اللذيْن نحن بصددهما،
في عالم الاستشراق،وإن بشكل غير دقيق.
Geschichte der arabischen literatur,vol 1(Wien 1850)p.576 ( Noeldecke(نقلا عن نولدكه
ونولدكه يرى أنّ في تسمية هذين النصّين ب"الدعاء" ما يفيد أنّهما ليستا
بسورتين،بل مجرّد صلاتيْن لا تنتسبان إلى الوحي. وحجّته لذلك غياب صيغة
الأمر "قل" فيهما.وهي نفس الحجّة أو الذريعة التي اتخذها طريقا إلى الشكّ
في أن تكون"الفاتحة"جزءا من الوحي ممّا نعود إليه بشيء من التفصيل في يأتي
من كلامنا.
وقد جاء في أكثر من مصنّف قديم أنّ مصحف ابن مسعودـ وهو مثل أبيّ بن كعب ـ
صحابيّ جليل من كتبة الوحي وأئمة القرّاء الذين أوصى النبي أن يُؤخذ
القرآن عنهم، يخلو من سورة الفاتحة ومن المعّوَذتين (الفلق والناس).
ـ1ـ1 ـ2 نسيان أم ذاكرة؟ من مفارقات الذاكرة أنّنا في حال النسيان أو الغفلة والذهول والسهو،لا
ننسى كلّ شيء. وممّا يؤكّد ذلك أنّنا نشحذ ذاكرتنا حتى نستحضر حدثا كنّا
غفلنا عنه أو"نسيناه"،ذلك أنّ أثره لا يُمحى تماما؛ وإلاّ لما كنّا وعينا
نسيانه.
إنّ النسيان في علاقة دائمة بالذاكرة، بل هو في ما تبيّنه المباحث
الفلسفيّة، قد لا يكون سوى "ذاكرة مخذولة" أو فقدان ذاكرة أو غيابها. لنقل
إنّه "ذاكرة مقلوبة سلبيّا".
يسوق ألان راي ملاحظة لغويّة دقيقة يمكن أن توضّح ما نحن بصدده من أمر"النسيان":
التي تحوي معنى"الترميم" أو"الإصلاح" ؛فإذا نحنOblitare الفرنسي مشتقّ من الكلمة اللاتينيّةOublierفلفظ
اعتبرنا الذاكرة فعل كتابة وتقييد وتسجيل، أي كتابة غير مرئيّة،فإنّ النسيان هو مصلحها أو مصحّحها أو مصوّبها.
Revue Interrogations | N°3
أمّا في العربيّة فالنسيان مصدر الفعل (نسي) ولهذه المادة كما يقول ابن
فارس في معجم مقاييس اللغة: أصلان صحيحان يدلّ أحدهما على إغفال الشيء،
والثاني على تركه.فالأوّل من نسيَ الشيء إذا لم يذكره،أو هو عزوب الشيء عن
النفس بعد حضوره لها.وأمّا الترك فهو التخلية عن الشيء،وهو قياس
الباب؛ولذلك تسمّى البيضة بالعراء تريكة.ولكنّ إشارة لغويّة لطيفة في معجم
مقاييس اللغة،تتعلّق بالخاء والنون والسين،تجعلهما أصلا واحدا يدلّ على
استخفاء أو تستّر؛يمكن أن تسوّغ القول بأنّ "النسيان"شكل من أشكال
حضورالغائب،أوهو ضرب من استخفاء الأثر.
فإذا استأنسنا بالنصّ القرآني،وجدنا أنّ النسيان من فعل الذات الإلهيّة كلّما كان رفعا ونسخا:
كقوله:"مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا
أَوْ مِثْلِهَا ." البقرة106 ونعود إلى هذه الآية بشيء من التفصيل في ما
يأتي. ويرد أيضا بمعنى الترك والإهمال والتخلية:
"السجدة 14 "فذوقوا بما نسيتمْ لقاءَ يومكم هذا إنّا نسيناكم
"ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسَهم" الحشر19
"نسوا الله فنسيهم " التوبة 67
مثلما هو من فعل الشيطان كلّما كان نقصا وعيبا:
"وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ
عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ
الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ"الأنعام 68
"وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ
رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ
بِضْعَ سِنِينَ"يوسف 42
2 ـ1 الوحي :البرحاء/الصرع: لا يفوتنا أن نشير إلى أنّ البحث في الكيفية التي ظهرت بها هذه الآيات في
عقل النبي، هي على رأي هؤلاء المستشرقين،بذلٌ ضائع، وأنّ من يبحث فيها هو
كمن يبحث في الطريقة التي يعمل بها عقل شاعرٍ وهو ينشئ قصيدته. ونولدكه
يرجّح أنّ بعض الآيات ـ خلال السنوات الأولى من النبوّة، وربّما في
المراحل المتأخرة أيضا في بعض الأحيان ـ قد جرت على لسان النبيّ في لحظات
إثارة، لا قدرة له على السيطرة عليها؛ فلم يكن بإمكانه إلاّ أن يعتبرها
إلهاما إلهيا. ومردّ ذلك إلى أنّ النبي كان "رائيا" تستغرقه رؤاه وأفكاره
الدينيّة، وهو الذي نشأ ودرج في بيئة استحكمت فيها الخرافات
والأساطير.يقول:" وحيث يحتفظ محمد بصيغة كلام الله نفسه،فهذا ليس بالنسبة
إليه كلاما فارغا،بل هو تعبير صادق عن إيمانه بأنّ الله تحدّث إليه." أي
أنّه سمع الملاك يأمره بأن يتلو ما قد قاله له.
كان معظم الوحي ـ على ما يبدو من سور مثل الإسراء والمزمّل
والمدثّرـ يحدث ليلا، وإن كان السيوطي يذهب إلى أنّ القسم الأعظم من
القرآن نُزّل نهارا.وربّما كانت هنالك آيات عديدة لم يسمعها أحد سواه،وهو
يردّدها بينه وبين نفسه في سكون الليل (المزمّل):
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ.قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلا
نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلا
أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا"
غير أنّ ما يعنينا أنّ القرآن نفسه يعترف بأنّ النبيّ قد نسي أو أُنسيَ بعض ما أوحي إليه :
"سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى. إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى."
قال ابن كثير:"وقوله:(سنقرئك) أي: يا محمد ( فلا تنسى ) وهذا إخبارمن
الله، - عز وجل - ووعد منه له ، بأنّه سيقرئه قراءة لا ينساها ،( إلا ما
شاء الله).
وقيل: المراد بقوله : ( فلا تنسى) طلب، وجعلوا معنى الاستثناء على هذا ما
يقع من النسخ، أي لا تنسى ما نقرئك إلا ما شاء الله رفعه؛ فلا عليك أن
تتركه."
ونقل الطبري أنّ معنى الاستثناء في هذا الموضع على النسيان ،ومعنى الكلام
:فلا تنسى ،إلاّ ما شاء الله أن تنساه، ولا تذكره.وهم يعنون بذلك ما نُسخ
من القرآن،فرفع حكمه وتلاوته.
وقال آخرون : معنى النسيان في هذا الموضع : الترك. وقالوا : معنى الكلام :
سنقرئك يا محمّد فلا تترك العمل بشيء منه ،إلاّ ما شاء الله أن تترك العمل
به ، مما ننسخه.
ويرى الطبري أنّ القول الذي هو أولى بالصواب قول من قال : معنى ذلك : فلا
تنسى إلاّ أن نشاء نحن أن ننسيكه بنسخه ورفعه، فذلك أظهر معانيه.
وفي مدوّنة الحديث أمثلة على هذا النسيان، فقد رُوي عَنْ عَائِشَة أنّ
النبي سمع رَجُلا يَقْرَأ فِى سُورَة بِاللَّيْلِ فَقَال: " يَرْحَمُهُ
اللَّهُ لَقَدْ أَذْكَرَنِى كَذَا وَكَذَا آيَةً كُنْتُ أُنْسِيتُهَا مِنْ
سُورَةِ كَذَا وَكَذَا ." وفي رواية أخرى"كنت نسيتها". والأولى بمعنى
"أسقطتها"،فيما الثانية تفيد النسيان أي عزوب الشيء عن النفس. وقد احتجوا
لذلك بحديث النبي في السَّهْو " إِنَّمَا أَنَا بِشْر مِثْلكُمْ أَنْسَى
كَمَا تَنْسَوْنَ." وَذَلِك في تقدير الذين أجازوا النسيان على النبي ـ
قَائِم بِالطِّبَاعِ الْبَشَرِيَّة ـ ولكن راعهم أن يتعلّق النسيان
بالقرآن،فقالوا إنّه لا يستمرّ على نسيانه، فيتذكّر بنفسه أو بغيره.فتح
الباري بشرح صحيح البخاري
، من أنّ النبي كان يعاني من الصرع ـ ولعلّه Weilأمّا إشارة نولدكه إلى ما ذكره المستشرق فايل
أوّل من قال بذلك ـ وأنّ فقدان الذاكرة هو أحد عوارض هذا الداء،وأنّ العرب
كانوا مثل غيرهم يسمّون من تعتريه هذه الحالات مجنونا(وهي التهمة أو
الشبهة التي ضاق بها النبي شأنها شأن شبهة الشعر والسحر،وردّ عليها القرآن
في غير موضع)؛ فلا نجدها ذات فائدة في تدبّر النصّ القرآني إنشائيّا،فضلا
عن أنّنا لسنا بالمؤهّلين للخوض فيها؛برغم أنّها فرضية قد تصلح ـ لو كان
القطع بها ممكنا ـ لتفسير الناسخ والمنسوخ وبعض ما نسيه النبي أو أُنسيَه
من القرآن،خاصّة أنّ المداخل إلى النسيان،على نحو ما تبيّنه الدراسات
الحديثة،يمكن أن تكون نفسيّة على صلة بحالات مثل الصرع أو الزهايمرأو فقد
الذاكرة أو هياجها… مثلما يمكن أن تكون سوسيولوجيّة أو أتنولوجيّة أو
تاريخيّة أو حتى فنيّة تتعلّق بتاريخ الفنّ.
أمّا دواعي هذه الشبهة وهي "البرحاء" عند البلاذري والواقدي، فهي
المدوّنة النبويّة (الحديث والسيرة)،وما يتعلّق منها بحال النبي عند "نزول
الوحي" على نحو ما جاء في المعجم الكبير للطبراني عن زيد بن ثابت قال:
"كنت أكتب الوحي لرسول الله وكان إذا نزل عليه أخذته برحاء شديدة وعرق
عرقا شديدا مثل الجمان ثم سري عنه فكنت أدخل عليه بقطعة الكتف أو كسرة
فأكتب وهو يملي عليّ ،فما أفرغ حتى تكاد رجلي تنكسر من ثقل القرآن وحتى
أقول لا أمشي على رجلي أبدا فإذا فرغت قال اقرأه فأقرأه فإن كان فيه سقط
أقامه ثم أخرج به إلى الناس."
وهو ممّا فصّل ابن خلدون القول فيه، إذ رأى"أنّ في حالة الوحي كلها صعوبة
ً على الجملة و شدة ً." وقد تمثّل بالآية: " إنّا سنلقي عليك قولا ثقيلا
". وبقول عائشة:"كان مما يعاني من التنزيل شدة .وقالت: كان عليه الوحي في
اليوم الشديد البرد ،فيفصم عنه و أن جبينه ليتفصد عرقا. و لذلك كان يحدث
عنه في تلك الحالة من الغيبة والغطيط ما هو معروف. و سبب ذلك أنّ الوحي
كما قرّرنا مفارقة البشرية إلى المدارك الملكية ،وتلقي كلام النفس فتحدث
عنه شدة من مفارقة الذات ذاتها وانسلاخها عنها من أفقها إلى ذلك الأفق
الآخر. و هذا هو معنى الغط الذي عبّر به في مبدأ الوحي في قوله " فغطني
حتى بلغ منّي الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما إنا بقارئ و كذا
ثانية وثالثة كما في الحديث."
غير أنّ ابن خلدون ـ ولعلّ هذا ممّا انفرد به ـ يرى أنّ هذه
"البرحاء" أو"الغطّ " قد خفّ بحكم العادة والألفة؛ وأنّ في ذلك علامة
نميّز بها بين المكّي وما يتـّسم به من قصر السورونزولها في أوقات متقطعة،
بسبب من شدّة الغطّ،، والمدني وما يتـّسم به من طول السور،ونزول كثير منها
دون تقطع،وقد خفّ الغط عنه.
يقول:"و قد يفضي الاعتياد بالتدريج فيه شيئا فشيئا إلى بعض السهولة
بالقياس إلى ما قبله؛ولذلك كان تنزل نجوم القرآن وسوره وآياته حين كان
بمكة أقصر منها وهوبالمدينة. و انظر إلى ما نقل في نزول سورة براءة في
غزوة تبوك و أنها نزلت كلها أو أكثرها عليه وهو يسيرعلى ناقته بعد أن كان
بمكة ينزل عليه بعض السورة من قصار المفصل في وقت و ينزل الباقي في حين
آخر. و كذلك كان آخر ما نزل بالمدينة آية الدين وهي ما هي في الطول بعد أن
كانت الآية تنزل بمكة مثل آيات الرحمن و الذاريات والمدثر والضحى والفلق و
أمثالها. واعتبرْ من ذلك علامة تميّزُ بها بين المكي والمدني من السور و
الآيات…"
فهذا وغيره ممّا لا يتسع له هذا المقال،قد لا يعدو مجرّد ذكر لأعراض
التبليغ وكيفيّة تلقي الوحي،ولا نخاله Etiologie يفيدنا في معرفة أسباب
الظاهرة،ممّا يُفترض أن ينهض به علم العلل
وأكثرهذه النصوص المطّردة في كتب السيرة والحديث النبوي، قصص وحكايات
تعليليّة كان المسلمون يتناقلونها مشافهة،ولم تدوّن إلا بعد قرنين أو أقلّ
قليلا أو أكثر قليلا من وفاة النبي.وهو نمط من الأدب الشفوي قديم جدا، في
كثير من الثقافات،يقوم على حكاية أو قصّة تجترح تفسيرا لظاهرة
يستعصي تفسيرها علميّا.
إنّما نفيد في سؤالنا ما إذا كانت سورتا "الحفد" و"الخلع" من القرآن
"المتروك" أو "المنسي" أو"المحذوف"،من تصريح القرآن نفسه بأنّ النبي قد
اُنسي بعض ما أوحيَ إليه،ومن أنّ أكثر القرآن ـ على ما نرجّح ـ نتاج تفكّر
وتدبّر أو هو محكوم في نسيجه بظوابط الصنعة والعقل.
2 ـ1 ـ2 القرآن "المتروك": نسيان أم نسخ؟ هل يمكن أن يكون النسيان مفهوما قائما بذاته؟ أهو نقيض الذاكرة؟ بل أليس
النسيان هو "الأصليّ" أو"الأوّلي"،مقارنة بالذاكرة التي تنهض
لمقاومته،لكن ليس من دونه،بل بهِ استعانة ً ومصاحبة ً؛فليس هناك من ذاكرة
إلاّ بفضل النسيان.
جاء في القرآن:"ما ننسخ من آية أو ننسِها نأتِ بخير منها أو مثلها"البقرة:106
قال ابن جرير:"حدثنا سواد بن عبد الله،حدثنا خالد بن الحارث،حدثنا عوف،عن
الحسن أنه قال في قوله:(أو ننسها) قال : إنّ نبيكم صلى الله عليه وسلم
أقرئ قرآنا ثم نسيه."
وقال ابن أبي حاتم : "حدثنا أبي ، حدثنا ابن نفيل ، حدثنا محمد بن الزبير
الحراني ، عن الحجاج يعني الجزري عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان مما
ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بالليل وينساه بالنهار، فأنزل
الله ، عز وجل: ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها."
وقال ابن فارس في مقاييس اللغة :النسخ نسخ الكتاب ،والنسخ أن تزيل أمرا
كان من قبل يعمل به ثم تنسخه بحادث غيره ، كالآية تنزل بأمر ثم تنسخ بأخرى
، وكل شيء خلف شيئا فقد انتسخه ، يقال : نسخت الشمس الظل ،والشيب الشباب ،
وتناسخ الورثة أن يموت ورثة بعد ورثة ،وأصل الميراث قائم ،وكذا تناسخ
الأزمنة والقرون.
والمقصود في الآية:الإبطال والإزالة.
وهذا الوجه ينقسم إلى قسمين عند أهل اللغة : أحدهما : إبطال الشيء وزواله
وإقامة آخر مقامه ، ومنه نسخت الشمس الظل إذا أذهبته وحلّت محلّه ، وهو
معنى قوله : ما ننسخ من آية .وفي صحيح مسلم لم تكن نبوة قط إلا تناسخت أي
تحوّلت من حال إلى حال.
والثاني : إزالة الشيء دون أن يقوم مقامه آخر كقولهم : نسخت الريح الأثر، ومن هذا المعنى فينسخ الله ما يلقي الشيطان أي يزيله.
وروي عن أبي عبيد أنّ هذا قد كان يقع في زمن النبي ، فكانت تنزل عليه السورة فترفع فلا تتلى ولا تكتب.
ومنه ما روي عن أبيّ وعائشة أنّ سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة في الطول.
وهناك من قرأ الآية السالفة : " ننسأها " بفتح النون والهمزة بعد
السين،بدل"نُنسها" والمعنى:نؤخّرها . قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس :(
ما ننسخ من آية أو ننسئها ) يقول : ما نبدّل من آية ، أو نتركها لا
نبدّلها.
وترد "ننسئها"عند أصحاب ابن مسعود، بمعنى نثبت خطها ونبدل حكمها .والكلمة عند آخرين بمعنى نؤخرها ونرجئها .
أمّا نولدكه فيرى أنّ مصطلح النسخ،يمكن إذا عنوا به "إدخال
قراءة جديدة"، أن يكون مأخوذا من الكلمة العبريّة الآراميّة "نسخة"،أو من
فعل آراميّ بمعنى "الإبعاد".على أنّه ليس في النصّين اللذيْن نحن
بهما:الخلع والحفد، ما يسوّغ هذا الطرح،فالنسخ لغة واصطلاحا إنّما قياسه
رفع شيء وإثبات غيره، أو تحويل شيء إلى شيء.وهذان النصّان لا يجريان على
هذه الوتيرة؛فهما في قرآن ابن أبيّ "سورتان"،على ما أسلفنا.ولعلّه الوحيد
الذي انفرد بذلك.
فهل اختلط عليه الأمر، وهو ينسخ القرآن، على نحو ما يُرجّح
نولدكه أم أنّ هناك أسبابا أخرى جعلته يرتّب المصحف على هذه الهيئة؟ فابن
مسعود، وهو لا يقلّ عن كعب معرفة،وأحد الأربعة الذين أوصى النبيّ أن يُؤخذ
القرآن عنهم،أخلى مصحفه من الفاتحة ،فيما وضعها كعب في نسخته شأنه شأن زيد.
لا بدّ هاهنا من الحذر والتريّث ـ وبيننا وبين هؤلاء حجب من الزمان كثيفة
ـ فربّما كان الأمر راجعا إلى اجتهاد أو نسيان أكثر منه إلى تخبّط
أواختلاط. فقرآن ابن مسعود ـ على ما جاء في بعض الروايات القديمة ـ يخلو
من ثلاث سورهي:الفاتحة والفلق والناس.ويبدو أنّ ذلك كان موقفا منه،برغم
أنّ النصوص القديمة لا تسعفنا كثيرا في فهم أسبابه ودواعيه.
روى الأعمش عن إبراهيم قال: قيل لابن مسعودٍ لِمَ لَمْ تكتب
الفاتحة في مصحفك؟ فقال: لو كتبتها لكتبتها في أول كل سورة." تفسير القرآن
العظيم لابن كثير.وفتح القدير للشوكاني.والجامع لأحكام القرآن للقرطبي.
وعند الشافعي:" أخبرنا وكيع عن سفيان الثوري عن أبي إسحق عن عبد الرحمن بن
يزيد قال : رأيت عبد الله يحك المعوذتين من المصحف ويقول لا تخلطوا به ما
ليس منه "
ونقل ابن جحرالعسقلاني في فتح الباري:" كان ابن مسعود يحكّ المعوذتين من مصاحف ويقول إنـهما ليستا من كتاب الله "
وفي مسند أحمد : " حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا سفيان بن عيينة عن عبدة
وعاصم عن زر قال قلت : لأبي إن أخاك يحكهما من المصحف ! فلم ينكر . قيل
لسفيان بن مسعود ، قال : نعم ، وليسا في مصحف ابن مسعود كان يرى رسول الله
صلى الله عليه وسلم يعوذ بـهما الحسن والحسين ولم يسمعه يقرؤهما في شيء من
صلاته فظن أنـهما عوذتان وأصرّ على ظنه وتحقق الباقون كونـهما من القرآن
فأودعوهما إياه ."
وقال السيوطي في الإتقان : " وفي مصحف ابن مسعود مائة واثنا عشرة سورة
لأنه لم يكتب المعوذتين ، وفي مصحف أُبيّ ست عشر لأنه كتب في آخره سورتيْ
الحفد والخلع"
غير أنّ هناك من ضعّف هذه الروايات، أو طعن فيها وعدّها كذبا واختلاقا.
ومهما يكنْ، وسواء صحّت هذه الرواية أو تلك، فهذا إنّما يؤكّد أنّ هذه
السور الثلاث: الفاتحة والمعوّذتان كانت من المسائل الخلافيّة، عند جمع
المصحف.
ومن حقنا أن نستدرك على هذه الأصول، ونستأنف قراءتها،دون تمحّل عليها
أوعلى سياقها التاريخي والثقافي؛ فالماضي ليس بالوضوح الذي يتصوّره كثير
أو قليل منّا، بل لعلّه غموض لا ينضب أبدا.
2ـ1ـ2ـ1 هل غابت الفاتحة والمعوّذتان في قرآن ابن مسعود ولِمَ؟ أمّا نولدكه فيشكّ على ما أسلفنا في أن تكون الفاتحة جزءا من الوحي،ولهذا
لم يضمّها ابن مسعود إلى مصحفه؛إذ هي تنتظم في تقديرنولدكه، في لغة
عباديّة "ليتورجيّة" ذات أصول يهوديّة ومسيحيّة في آن. وهو يعلّل ذلك
بتعابير خاصّة تأخذ بها الفاتحة ولا نجدها في مواضع أخرى من
القرآن،وتراكيب غريبة عن النصّ، مثل وصف الله ب"ملك يوم الدين"،فضلا عن
تركيب الآية الأخيرة:
ّ"صرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ
وَلاَ الضَّالِّينَ"،فهو عنده تركيب عويص قد يكون مردّه إلى صعوبات في
الترجمة.
والحقّ أنّ الجملة تستقيم دونما حاجة إلى "لا"،فلو قيل"غير المغضوب عليهم
والضالين" لكان الكلام موافقًا لقواعد العربيّة،لأنّ من خصائص الاستثناء
أن يتسلط على المعطوف والمعطوف عليه من دون "لا". فمردّ الإشكال إذن إلى
وجود (لا) في قوله (ولا الضالّين)،إذ تقتضي "لا" في مثل هذه التراكيب نفيا
يسبقها.
على أنّ أكثر النحاة والمفسرين قدّروا "لا" على أنّها زائدة لتأكيد
الكلام أي النفي وتقويته. وحملها الكوفيّون على معنى"غير".ورُوي أنّ عمر
بن الخطاب وعلي بن أبي طالب قرآ الآية على هذا النحو:"غير المغضوب عليهم
وغير الضالّين".
وحاصل رأي نولدكه أنّ الفاتحة "صلاة" تبهتُ فيها الصبغة
الإسلاميّة الخاصّة،حتى ليمكن أن يتـّسع لها أيّ كتاب روحيّ يهوديّ أو
مسيحيّ. ولهذا السبب يصعب تحديد "نزولها" بدقّة،ومن الخطإ اعتبارها الأقدم
على الإطلاق أو هي إحدى أقدم السور؛"برغم أنّ استخدام صيغة المتكلّم الجمع
فيها، يدلّ على أنّ جماعة صغيرة فقط كانت ملتفة حول محمّد،أثناء
نشوئها[الفاتحة]". ولعلّ هذا ما جعل موير يرجعها إلى النبوّة في مرحلتها
الأولى.
(نقلا عن نولدكه)William Muir,The Life of Mahomet;t2,p.59
وفي الفاتحة يظلّ من اللافت حقّا أن لا تتكلّم الذات الإلهيّة في هذه
السّورة "أمّ المثاني" في القرآن الذي هو "كلام الله" في معتقدات عامّة
المسلمين، وأن يتكلّم بدلا منه "العبد" المتجرّد من رقّ الزّمان والمكان،
من حيث هو عنصر لا فكاك له من بنية السّورة برمّتها.
وقد أشرنا في مقال سابق ب"الأوان" إلى أنّه قد لا يكون من مسوّغ لذلك سوى
هذه الوساطة اللّعبيّة التي تؤلّف بين الذّات المتلفّظة والموضوع (الذات
الإلهيّة)، وهو ما يكشف عنه النصّ الحافّ (الحديث النّبوي المخصوص بهذه
السورة)،وقد لا يكون أكثر من تفكير "المؤدّي" أو صاحب النصّ في أدائه.
وربّما أمكن لنا هاهنا أن نتحدّث عن "ذاتيّة موضوعيّة"؛ فالذات الإلهيّة
في هذه السّورة "موضوع" للنصّ يعتريها ما يعتري النصّ.
وهي ـ ما استأنسنا بالسورة والنصّ الحافّ ـ علاقة تجاذب بين متقابليْن:
الذّات المتلفّظة والذات الإلهيّة مثلما هي علاقة موازاة، ولعلّ هذا ما
يجعل "اللّعب" بالمعنى النبيل للكلمة، كما النصّ الذي نحن فيه والفنّ
عموما تخليقا لعالَم افتراضي.
وأمّا المعوّذتان(الفلق والناس) فيذهب نولدكه إلى أنّهما
تـَمتحان من"خلفيّة وثنيّة واضحة" برغم أنّ مدار الكلام فيهما على
صيغة"قلْ" التي ترجّح كونهما من القرآن.
والأمر بالقول ـ كما جاء في التحرير والتنوير ـ إنما هو إنشاء معنى في النفس تدلّ عليه هذه الأقوال الخاصة
والخطاب في ( قل ) للنبي ولغيره حيث لا دليل على تخصيصه به.
ولعلّ نولدكه يقصد بهذه"الخلفيّة"ما تنمّ عنه السورتان من طقوس ذات أصول
كهنيّة: مثل النفث في العقد،وهو أن يشرع الكاهن في فكّ طلسم الرقية، وهو
يأخذ خيطا فيعقد عليه عقدة بعد أخرى،وينقث فيها،وما إلى ذلك ممّا ساقه ابن
خلدون مثل الخط في الرمل. يقول ابن خلدون:" يحكمون على الخط كلّه بما
اقتضته أشكاله من السعودة والنحوسة،بالذات والنظر والحلول والامتزاج
والدلالة على أصناف الموجودات…" وبرغم أنّ الدعوة الإسلاميّة نهضت على
مقاومة الكهانة، فإنّ المعوّذتين تأخذان كما هو الشأن في طقوس
الكهانة،ب"تسجيع الكلام" وإن لم يبلغ درجة المعقد الغامض. ومّما يعزّز ذلك
ما أخرجه علماء الحديث من أنّ النبي قال لأبى هريرة: آلا أرقيك برقية
رقاني بها جبريل:وهى" بسم الله أرقيك، والله يشفيك من كل داء يأتيك،ومن شر
النفاثات في العقد،وشر حاسد إذا حسد"،وأنّ النبي كان يعوّذ الحسن والحسين
بقوله"أعيذكما بكلمات الّله التامة من كل شيطان وهامة،ومن كل عين لامة"
وما إلى ذلك ممّا قد يكون أمسّ بالكهانة منه بالنبوّة.
يقول ابن خلدون:" ويزعم بعض الناس أنّ هذه الكهانة قد انقطعتْ
منذ زمن النبوّة بما وقع من شأن رجم الشياطين بين يدي بين يدي البعثة
بالشهب،وأنّ ذلك كان لمنعهم من خبر السماء كما وقع في القرآن.والكهان إنما
يتعرفون أخبارَ السماء من الشياطين فبطلت الكهانة من يومئذ. و لا يقوم من
ذلك دليل لأن علوم الكهان كما تكون من الشياطين تكون من نفوسهم أيضا كما
قررناه ،وأيضا فالآية إنما دلت على منع الشياطين من نوع واحد من أخبار
السماء و هو ما يتعلق بخبر البعثة،ولم يمنعوا مما سوى ذلك. و أيضا فإنما
كان ذلك الانقطاع بين يدي النبوة فقط ولعلها عادت بعد ذلك إلى ما كانت
عليه و هذا هو الظاهر لأن هذه المدارك كلها تخمد في زمن النبوة كما تخمد
الكواكب و السرج عند وجود الشمس لأن النبوة هي النور الأعظم الذي يخفى معه
كل نور و يذهب." المقدمة في أصناف المدركين للغيب من البشرص.99 وما بعدها
وقد استخلص خليل أحمد خليل من ذلك أنّ ابن خلدون" إذا كان لا يتجرّأ على
نقض القول مباشرة بأنّ الكهانة ذات مصدر غيبيّ فإنّه يؤكّد،في نفس الوقت،
أنّها من صنع البشر أنفسهم، وأنّها في الواقع ليست قدسيّة ولا غيبيّة،
وأنّ النبوّة لا تبطل وجودها واستمرارها."مضمون الأسطورة في الفكر العربي
ص81. والمسألة ـ على ما يبدو من الشاهد ـ لا تتعلّق بالجرأة من عدمها،
لأنّ ابن خلدون يردّ على الذين زعموا أنّ الكهانة انقطعت بظهور النبوّة،
فيما هي في تقديره، لم تنقطع وإنّما توقفت؛حتى إذا انقطع الوحي عادت. وهذا
واضح من استخدامه الفعل"يزعم"، ومن نافل القول أن نذكّر بأنّه وإن كان
يُحمل على قول حقّ في بعض السياق، فإنّه أكثر ما يستعمل في ما يُشكّ فيه
أو يُعتقد كذبه وبطلانه. ولعلّ ابن خلدون أميل إلى القول بأنّ الكهانة
ظاهرة نفسيّة. يقول :"وأما الكهانة فهي أيضا من خواص النفس الإنسانية.
وذلك أنه قد تقدّم لنا في جميع ما مر أن للنفس الإنسانية استعدادا
للانسلاخ من البشرية إلى الروحانية التي فوقها. و أنّه يحصل من ذلك لمحة
للبشر في صنف الأنبياء بما فطروا عليه من ذلك و تقرر أنه يحصل لهم من غير
اكتساب و لا استعانة بشيء من المدارك و لا من التصورات و لا من الأفعال
البدنية كلاما أو حركة و لا بأمر من الأمور إنما هو انسلاخ من البشرية إلى
الملكية بالفطرة في لحظة أقرب من لمح البصر."
المقدمة في أصناف المدركين للغيب من البشرص.99 وما بعدها.
قد ينهض إذن لقول نولدكه بأنّ المعوّذتين(الفلق والناس)
تـَمتحان من"خلفيّة وثنيّة واضحة"،سند من "المخيال" الإسلامي نفسه،برغم
أنّه لم يستوف هذه "الخلفيّة"حقها من البحث والمدارسة.ولعلّنا نجد ضالتنا
عند هاملتون Hamilton A.R.Gibb جب،فهو يرى أنّ أساس مبنى الفكرفي
الإسلام"إحيائيّ"دراسات في حضارةالإسلام
وهو أساس يقوم له أكثر من سند في هذا الفكر كما تدلّ عليه جوامعه التي يحصرها جب في أربع فئات هي:
أ ـ المواقف والمعتقدات البدائيّة التي ظلّت حيّة في ثقافة الإسلام
ب ـ تعاليم القرآن والسنة النبويّة
ج ـ المدوّنة الكلاميّة والفقهيّة
د ـ تأثير الطرق الصوفيّة
ولا يعنينا في السياق الذي نحن به،مناقشة هذا التصنيف الذي يقرّ جب نفسه
بأنّه إجرائيّ مفيد من أجل التحليل والبحث،لاغير. فهذه الفئات مقدّمات
وليست مصادرات أو"مقرّرات مصمتة" بعبارته.
إنّما يعنينا هذا الأساس "الإحيائي" في الإسلام من حيث هو"تصوّر دينيّ
للحياة "،فقد نشأ الإسلام في مجتمع مؤمن ب"الإحيائيّة"،برغم أنّه "لم
يستمدّ أصوله ولم يتطوّر من صميم ذلك المجتمع،بل هو على الضدّ من ذلك كان
ثورة على المبادئ الإحيائيّة العربيّة،ولكنّه لم يستطع إلاّ أن يعكس ـ بعض
الشيءـ لون البيئة التي فيها نشأ". فقد كان العرب شأنهم شأن شعوب أخرى
كثيرة،يرون في كثير من الموجودات مجلى للقوى الغيبيّة أو مثابة لها،كما
يدلّ على ذلك اعتقادهم في القوى السحريّة التي تتخذ من تلك
الموجودات،كالأنصاب المسكونة والأشجار المقدّسة والآبار،مساكن تتردّد
إليها أو هي تقيم بها، أو اعتقادهم في موجودات تحلّ فيها كائنات بعضها من
البشر كالسحرة والعرّافين والشعراء،وأكثرها من غير البشر مثل الجنّ. ولقد
تقبّل العرب الوثنيّون التعاليم القرآنيّة"دون أن يتخلّوا تمام التخلّي عن
معتقداتهم القديمة. فكان ما حقّقه محمّد لديهم هو أنّه فرض قوّة مسيطرة
عليا باسم "الله القوي المتعالي" وجعلها فوق ما عندهم من حصيلة
"إحيائيّة". وبذلك ظلّ الموروث العربي القديم قائما تحت هيمنة ذلك القادر
الأعلى." ومن أمثلة ذلك إيمانهم بالسحر،وبالقوى الغيبيّة والقرينة أو
التابع، وما إلى ذلك من معتقدات قديمة مصبوغة بصبغة إسلاميّة. غير أنّه من
المفيد،في هذا السياق ـ كما يقول جب ـ أن نفرّق بين المعتقدات الإحيائيّة
والرموز الإحيائيّة. فكلّ الأديان الحيّة تحتفظ في نظره، بعدد معيّن من
الرموزنابعة من المعتقدات والشعائر الإحيائيّة؛ومن شأنها أن تساعد في شحذ
المبنى التخيّلي الذي تنبثق منه الرؤى الحدسيّة الدينيّة،ولكن بعد أن
اضفوا عليها معنى جديدا، وخلّصوها من غمار الموروث الإحيائي.
يقول جب:" وإذن فالتفرقة التي نعنيها تفصل بين من لا يزال
الرمز الإحيائي يحمل لديهم ملابسات إحيائيّة ومن اتخذ الرمز عندهم قيمة
جديدة ومغزى ساميا." ويعزّز جب طرحه بشعائرالحجّ التي احتفظت بملابساتها
الإحيائيّة،ولكنّ وجود مزار مشترك عامّ يوحي باعتراف القبائل بإله
مشترك. ومثال ذلك أيضا تقديس الحجر الأسود في الإسلام،فقد كان في الأصل
رمزا إحيائيّا،فحوّله النبي إلى شعيرة مرتبطة بعبادة الإله الواحد ،على
نحو ما تحوّلت قرابين الهيكل وأكل القربان الوثني إلى قربان مسيحيّ مقدّس…
ليخلص إلى "أنّ محمّدا شأنه شأن غيره من الرسل،تجنّب أن يفرض على عقول
أتباعه كيانا جديدا غريبا من الأفكار؛فاحتفظ بالرمزيّة الدينيّة التي كانت
لدى قومه،بكلّ ما فيها من قوّة موروثة،لاستثارة ملكاتهم الخياليّة؛إلاّ
أنّه نقلها من إطار إحيائيّ إلى آخر توحيديّ."
على أنّ ما ينبغي التنبّه إليه ـ وهذا ما لا يشيرإليه جب ـ
أنّ الرمز يتأدّى في سياق لعبة مخصوصة هي لعبة المفارقة: فهو يحيل على شيء
آخر ويحجب في ذات اللحظة على موضوع إحالته. ومن ثمّ يتمثّل أبدا دلالته
الخاصّة أو هو لا يبرح بنيته أو أنّ وظيفته تُنشئ في حيّزها موضوع إحالتها
إنشاءً يتنزّل في الصميم منها، فإذا كنهه من كنهها ودلالته من دلالتها.
وربّما كان الأمر في ثقافة الأقدمين، أشبه بحوار صامت بين الإنسانيّ
والحيوانيّ، أو بين الانسان وعالم النبات. وهو على ما يبدو صورة للجسد أو
أنّ الجسد صورة منه أو امتداد له؛ فليس ثمّة حدٌّ بينهما أو فاصل، وإنّما
"تداخل بالمطابقة" قد نحمله على وجه استعاريّ أو على تطابق بين صورة
وتخيّل أي بين وحدة لغويّة ووحدة نفسيّة. على أنّه في تقديرنا "هويّة
عناصر" تَشِجُ الصلة بين عالم الجسد والأشياء التي تحفّه، على نحو ما تكون
وشائج القربى بين الناس، بل بين الأحياء والموتى أيضا.
لعلّ في هذا إذن ما يفسّرجانبا من "الخلفيّة الوثنيّة" التي أشار إليها
نولدكه، في كلامه على المعوّذتين. ومع ذلك يظلّ من الصعوبة بمكان أن
تنصوّر أنّ شيئا كهذا جال بخلد ابن مسعود؛ وإنّما هو ـ إذا صحّت الرواية ـ
رأى النبي يعوّذ بهاتين السورتين سبطيْه الحسن والحسين،فلم يخلطهما
بالقرآن، أو أنّ النبي لم يملهما عليه.
أمّا التأويل الذي يأخذ به نولدكه بشأن ترتيب هذه السور(الفاتحة والفلق
والناس) أو"الصلوات" بعبارته، في مكانها الحالي من القرآن، فقد لا يخلو من
وجه طرافة، بل هو يلوح مغريا؛ فلعلّ الصحابة الذين أوكل إليهم عثمان أمر
المصحف أو بعضهم،أرادوا للفاتحة أن تكون نوعا من جدار،حماية للقرآن،
وللمعوّذتين أن تقفا حائلا ضدّ تأثير الأرواح الشرّيرة، بعبارة نولدكه.
3 ـ1 الخلع والحفد في مصحف كعب بن أبيّ: وضع كعب بن أبيّ هاتين "السورتين"،في المصحف المنسوب إليه،وأدرجهما بين
سورتيْ العصروالهمزة كما يقول صاحب الإتقان.ولا نخال أبن أبيّ ـ إن صحّت
الرواية ـ فعل ذلك عفو الخاطر،أو أنّ هذا الترتيب كان اتفاقا منه
ومصادفة.وهي قضيّة يصعب الخوض فيها فهناك روايات أخرى تخالف الإتقان،تقول
بترتيب آخر؛فضلا عن أنّ نسخ المصاحف المنسوبة إلى ابن أبيّ أو إلى ابن
مسعود،ترجع إلى فترات تاريخيّة متأخرة ممّا يجعلها مجهولة النسب متهمة
الأصل.ومع ذلك فإنّ نولدكه يأخد بالرواية التي أثبتنا. وهو ـ على ما
أسلفنا ـ ينفي أن يكون هذان النصّان من القرآن،برغم أنّ أسلوبهما
سلس"يتحرّك في خطّ النحو القرآني العام" بعبارته.و هو يسوّغ رأيه في أنّ
هدين النصين ليسا جزءا من القرآن فحسب،بل لا يمكن أن يكونا من كلام النبي
أيضا بمسوّغات لغويّة منها:
ـ أنّ الفعل "استعان" لا يرد مقترنا بمفعول به،إلاّ في موضع واحد من القرآن:سورة الفاتحة
ـ أنّ فعل"أثنى" لا يرد أبدا في القرآن،وإنّما أفعال أخرى[قد تؤدّي عنه] مثل: كبّر وسبّح وحمد
ـ أنّ فعل "حفد" مثل سابقه،لا يرد أبدا في القرآن
ـ أنّ فعل"سعى" يرد في القرآن،لكن بمعزل عن أيّ تركيب بالجر،كما في نصّ الحفد:"وإليك نسعى" أي إلى الله.
والحقّ أنّ الأمر ليس كما يذكر نولدكه، إذ نجد هذا الفعل في القرآن يتعدّى
بـ (إلى) "فاسعوا إلى ذكر الله" الليل4 وباللام "وسعى لها سعيها" الإسراء
19 .وبـ (في) "ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في
خرابها" البقرة114 "والذين يسعون في آياتنا" سبأ38 "ويسعون في الأرض
فسادا" المائدة33
ـ أنّ فعل "فجر" لا يرد في القرآن إلاّ لازما،فيما هو في نصّ الخلع يرد متعدّيا
ـ أنّ فعل "خلع" يرد مرّة واحدة في القرآن"فاخلع نعليك إنك بالوادى المقدَّس طُوًى" طه12 وهذا كما لا يخفى
لا يدور على معنى رمزي[كنائي] كما في النص الذي نحن به.
وعلى ما في هذه الاعتراضات أو المسوّغات اللغويّة وغيرها ممّا ساقه
الدارسون العرب ـ وفيها مقدار كبير من الصواب ـ فإنّ القدماء ساقوا ما
ساقوا من أسباب تنزيل هاتين"السورتين" على نحو ما نجد في الإتقان،فزمن
تنزيل "القنوت" كان في أثناء لعن النبي لعشائر مضر. وهذا إنّما بُني كما
يقول نولدكه، على التوفيق بين اسم "دعاء القنوت" الذي يُطلق على السورتين،
والرواية التي تفيد أنّ النبي تلا، هذا الدعاء بعد هذا اللعن.
وسواء أصحّت هذه الرواية أم لم تصحّ ،فالنصّ القرآني نصّ كتابيّ، ولعلّ
مدارسته من هذا المنظور،ممّا يتيح لنا إعادة "ترتيب العلاقة به". وهذه
"الكتابيّة" المحكومة بظوابط الصنعة والعقل من جهة ،وبأسباب النزول من جهة
أخرى، حيث لا ارتجال ولا بداهة ولا إرسا ل على سجيّة؛ إنّما شأنها شأن
كثير من الشعر العربي القديم نبْتُ اللّغة وثمَرة الكتابة، وليست
بالأمرالذي يُستشفّ بنوع من الوحي أو بضرب من المشاهدة الرّّوحيّة. ونذكّر
بأنّ أسطورة شياطين الشّعر،هي مثل " ربّة الفنّ" عند الإغريق، قد لآ تعدو
أكثر من محاولة لتفسير الظّاهرة الشعريّة العصيّة على العلم
والمعرفة،والإقرار بامتناع الشّعر- وقد كان يتنزّل في ثقافة الأقدمين
منزلة الدّين- عن الحدّ والتّعريف.فحريّ بنا إذن متى رمنا استيعاب الطّابع
الاستثنائيّ في صناعة النصّ القرآني، أن نستوعب نظرة المتلفظ فيه إلى فنّه
أو أدبه، من خلال ما يمكن أن نسمّيه "قرآنيّة القرآن".
وفي النصين اللذين نحن بهما ،ما يصلهما بالقرآن، وتحديدا بالفاتحة.
وربّما ليس أدلّ على ذلك من هذه "الفاصلة" ذات الإيقاع الخاصّ. وهو ما
يستدعي استقصاء المصطلح القرآني " فاصلة" وتتبـّعه في أمّهات الكتب التي
عنيت به. ولهذا موضع آخر. وإنّما نؤثر في السياق الذي نحن به التّعامل مع
هذا المصطلح من حيث هو كلمة تحمل نبض" الصنعة".
لا تظهر الفاصلة إلاّ انطلا قا من الآية الذي تتمثّل هي
صورتها ولحظتها الواهبة، بالرّغم من أنّها مستقرّة في آخرها، لا تبرح
صواتمها التي هي أقرب ما تكون إلى صواتم "رسميّة " خالصة. فهي صورة
زمانيّة ومخيّلة سماعيّة تقع على الدّال والمدلول معا. وليس الأمر كما هو
في الشعر حيث يجرى ذلك اتّفاقا أو مصادفة ـ إذا أخذنا بتعريف الخليل ـ إذ
يمكن أن يشكّل " آخر حرف إلى أوّل ساكن يليه مع المتحرّك الذي قبل
السّاكن" كلمة تامّة أو كلمتين. وفي ما عدا ذلك فإنّ إدراك القافية
لايقتضي تماثل الأطياف الصّوتيّة المنظومة تماثلا قويّا، وإنّما وحدة
صوتيّة.
على ضوء ما تقدّم، يمكن أن نباشر مصطلح " الفاصلة" من حيث هي أمارة على
الكيفيّة التي تصنع بها الآية أي الفاصلة باعتبارها جزءا من إنشائيّة
الخطاب؛ ونصرف نظرنا عن موقعها في "السورتين" باعتبارها صورة إيقاعيّة أو
مخيّلة سماعيّة. فليس من مشاغلنا في هذا العنصر، أن نبحث في الفاصلة من
منظور التّناسب الإيقاعيّ كا هو الشأن في القافية.وهو التناسب الذي تتوقّف
عليه،في نظريّة الشّعرعند العرب،صناعة القصيدة أي"التّناسب في تأليف بعض
المسموعات إلى بعض، ووضع بعضها تالية لبعض أو موازية لها في الرتبة… "
بعبارة حازم القرطاجنّي.فإذا كانت القافية، بمفهومها الخليليّ، تحيل على
شعريّة الشّفويّ أو على القصيدة الأقدم التي نشأت داخل أنماط حافزة
للتـّذكـّر، أملت على الشّاعر أن يقول شعرا يمكن حفظه وتذكّره، فقد يتسنّى
القول إنّ الفاصلة كالقافية تصطنع ذاكرة للذ ّاكرة نفسها أي ذاكرة الصّوت
الذي يكاد لا يشرد من سمع المتقبّل حتّى يطرق أذنه ثانية وهكذا دواليك.
وهذا إنّما يتيحه "الخطاب الواصف" ـ وهو ما هوفي القرآن ـ إذ
يجعلنا نلمّ بمقصد الذات المتلفظة،وهو يضفي عليها هيئة موضوعيّة،ويجعل
القرآن يضيء القرآن أو يجعل هذه الذات تحاول أن تحوز تلك الحالات التي
يحوطها الصّمت عادة أثناء فعل الإنشاء الذي لا يقول ذاته ولا هو يعيها وهي
تتأدّى. والأمر أشبه ـ إذا نحن حاكينا المقاربةالفينومينولوجيّة- بحال
المرء الذي لا يستطيع أن يتـنـصّل من جسده وهو يفكّر فيه أو يتحدّث عنه.
يتيح "الخطاب الواصف"- وهذه إحدى مزاياه- للذات المتلفظة أن"تتـنـصّل " من
موضوع نصّها أو من غرضها الرّئيس، إلى حين، وأن توسّع المسافة بينها وبين
خطابها، وكأنّ صوتها صوت ثـان،أوكأنّ هذه الذات في حالة حلم فاعل،تراقب
كلماتها وهي تتدافع وتتجاذب وتتشـكّـل في أبنية وأنساق و" تتكلّم" على إثر
ما تقوله اللّغة بصوت خفيض أو بصمت أقلّ. ف"الخطاب الواصف" خطاب
"موضوعانيّ"إذ هو محصّلة ذات تعي كتابتها. وهي قطعا، غير الذ ّات التي
يعيشها النبيّ في واقعه أو في مجتمعه. ولا يهمّ كثيرا في هذا السياق أن
تحضر صيغة الأمر"قلْ" أو أن تغيب،أو أن يطّرد استعمال هذا الفعل أو ذاك في
القرآن،حتى ننسب النصّ إلى الوحي أو ننفيه عنه؛ فللقرآن شوارده ولطائفه
التي اختصّ بها،وأكثرها لا يتكرّر فيه، ولا يتعاود.
فلعلّ في هذين النصين ما يجعلها يحملان في مطاويهما إيمانا
بسلطة الكلمة المطلقة، ونزوعا إلى التجرّد من رقّ الزّمان والمكان،
ويبعثان في القارئ تصديقا أعمى بأنّ القرآن مضاهاة " للنصّ" من الشّيء أي
منتهاه، لا يستنفذ في معنى ولا يستوفى، لأنّه ناتج المعنى، وتجعله أشدّ
تراخيا في الاستقبال، وأشدّ تراخيا في القدم، في آن. وفي هذا ما يفسّر إلى
حدّ ما عتاقة اللـّغة القرآنيّة وجدّتها معا،أعني مفارقاتها وهي المحكومة
في آن بالتّوازن والتّناسب والتّناغم، وبكثير من الحذف والإضمار والإيجاز،
وربّما بغرابة مستبهمة تترامى من أكثر من ناحية من نواحي الاستقبال
والقدم. وفي كليهما غموض لا ينضب، يجعلها كما يؤدّي عنها "الخطاب الواصف"،
تتحصّل من زمنين متباعدين متراخيين، أو هي تملأ الفجوات القائمة بينهما.
فلسنا نخشى الشّطط إذا قلنا إنّ الذ ّات تعيش، بهذا الخطاب، نصّها إنشاء،
أكثر ممّا تعيش فيه واقعا، وخلصنا إلى أنّ الذات المتلفظة تتـّخذ من"
الخطاب الواصف" دلالة على صحّة مفارقة نصّها لسائر الكلام شعرا كان أو سجع
كهّان،وهي تفرد في أكثر من سورة مكانا، للكلام على هذا النظم "المعجز"وهي
تصرّفه تصريفا قرآنيّا، من جهات مخصوصة مثل البيان والصّرفة وتحدّي
الكافـّة…
*** أمّا الاعتراض على صحّة انتساب هذين النصين إلى القرآن، بذريعة الآية"إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون"
سورة الحجر9،فمردّه إلى موقف دينيّ خلفيّته قدسيّة المصحف العثماني،وما
يمكن أن ينالها فيما لو اُعتبر هذان النصّان وحيا. وهذا ممّا يُحترم لا
شكّ،ولكن لا يُعتدّ به في البحث العلمي الذي قد يتعلّل أصحابه بقول عمر:
"يا أيّها الناس لا تخدعن عن آية الرجم فإنـها آية نزلت في كتاب الله وقرأناها ولكنها ذهبت في قرآن كثير
ذهب مع محمّد" أو بالحديث النبوي" إِنَّمَا أَنَا بِشْر مِثْلكُمْ
أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ".ولا ينبغي أن ننسى أنّ التعويل في حفظ
القرآن،كان في بداية الدعوة،على الذاكرة،والذاكرة خؤون؛ ولا يستبعد أن
يكون بعض الصحابة قد استطاعوا أن يحفظوا جزءا من الوحي،لم يُدوّن نصّه قطّ
أو ضاع في ظروف ملتبسة. ثمّ إنّ هذه الآية تحتمل وجوها غير
حفظه من التغيير والتبديل أو من الضياع أو من الشيطان أن يزيد فيه باطلا
أو ينقص منه حقا، فقد جاء عند غير واحد من المفسّرين أنّ الهاء في قوله
"وإنّا له لحافظون" تخصّ النبي بمعنى : وإنّا لمحمد حافظون ممن أراده بسوء
من أعدائه. تفسير الطبري، أو من أن يتقوّل علينا أو نتقوّل عليه . أو
وإنّا له لحافظون من أن يُكاد أو يقتل
تفسير القرطبي… ومهما يكن فالحفظ ليس معناه أن يكون القرآن محفوظا في
مؤَلّـَف ورقيّ [مصحف عثمان]، ولا نظنّ أنّ هناك من يماري في أنّ نصّي
الخلع والحفد،سواء صحّت نسبتهما إلى الوحي أو لم تصحّ،وسواء عدّهما البعض
سورتين أو دعاءين،لا يزالان محفوظين هما أيضا.
الخميس أكتوبر 06, 2011 4:58 am من طرف بن عبد الله