بين حدّي الأصالة والمعاصرة تلاشى الوسط في فجوة
الآن وبعد أن أصبح للحبّ
والعشّاق عيدٌ مُكرّسٌ في الرابع عشر من شهر شباط/فبراير من كل عام، ويكاد
الاعتراف به يكون رسميّاً من خلال ما تقوم به وسائل الإعلام من رصدٍ لبعض
مظاهره في نشراتها الإخبارية، حيث يحتفل به الناس في مختلف أنحاء العالم،
بعد ذلك كلّه يمكن القول إنّ موعداً جديداً أُضيفَ إلى مناسبات التسوّق
الهامّة على أجندات الأسواق والتجّار، موسمٌ تجاريّ ربحيّ سنويّ هو "موسم
الحبّ"، ممّا يستدعي التحضيرات والترتيبات اللازمة لاستغلال المناسبة
وإنتاج وترويج "متطلّباتها" من أجل جني الأرباح من خلالها.
في ذلك "الموسم" تتلوّن الأسواق بمختلف "سلع الحبّ وبضائعه" ذات اللون
الأحمر. وتتراوح المعروضات الحمراء بدءاً من "القلوب" متفاوتة الأحجام
والاستخدامات مروراً بالألبسة على اختلاف أنواعها وصولاً إلى الهدايا
التذكارية والشموع والألعاب والوسائد وانتهاءً بالأيقونة الأبدية للحبّ:
الوردة الحمراء، سواءً الطبيعيّة منها أو المصنّعة. إضافةً لذلك تزدهر
المنافسة وتشتدّ بين المطاعم والصالات المختلفة في الإعلان عن حفلاتها
وبرامجها الفنّية والترفيهية المميّزة الخاصة بـ "سهرة الفالنتاين مع أشهى
المأكولات والأجواء العائلية". بالعودة إلى (الوردة الحمراء) التي لا تكتمل
طقوس العيد من دونها، يمكن القول إنّها تعيد شيئاً من الاعتبار إلى
"الورد" الذي غالباً ما يكون منسيّاً أو خارج دائرة اهتمام معظم "العشّاق
الفالنتاينيّين" على مدار العام، بل ويكاد لسان حال المتاجر المختصّة ببيع
النباتات والأزهار يردّد الأغنية الجميلة (يا ورد مين يشتريك..).
لكنّ (الوردة) والحال هذه، تقع في مفارقةٍ غريبة بعض الشيء، وهي مفارقة
تندرج ضمن جملة من المفارقات التي خلقها منطق التسليع والاستغلال التجاري
للحبّ في عيده. ذلك أنّها في الوقت عينه الذي تستعيد فيه اعتباراً مفقوداً،
تفقد الكثير من المعنى والخصوصيّة التي كانت سبباً في اعتبارها رمزاً
تعبيرياً وجماليّاً بين العاشقين. تتجلى أسباب تلك المفارقة بصورة أساسية
في جانبين اثنين:
الأوّل نجده في تحوّل ذلك الرمز الجمالي والتعبيري الذي كانت تمثّله
الوردة إلى مجرّد جزء من "البريستيج" والديكور الخاص بعيد الحب، بحيث بات
معنى وجودها في لقاءِ الحبيبين أو على "طاولة السهرة" لا يتعدّى الجانب
المادّي الحسّي بعيداً عن "الرومانسيات البالية"، لأنّها على لزومها
لاكتمال المشهد إلاّ أنّها لا تغني إطلاقاً عن "الهديّة" الرئيسية، التي
غدا ارتفاع ثمنها هو المعيار الذي يشير إلى حجم ومقدار الحبّ الذي يكنّه
أحد العاشقَين للآخر!
يتمثّل الجانب الثاني في الموقع الذي توضع فيه الوردة من حيث تتحوّل ـ تحت
ضغط الجانب الأول ـ إلى مادّة أو وسيلة للابتزاز والاستغلال الهائلين من
قبل بائعي الورود تجاه العشّاق/الزبائن، حيث قد يصل سعر الوردة الحمراء
الواحدة في "بورصة" يوم العيد إلى خمسمائة ليرة سورية في بعض الحالات (ما
يعادل حوالي عشرة دولارات)، بينما لا يزيد ثمنها حين تُباع في الأيام
الأخرى من السنة ـ فيما لو بيعت ـ عن خمسين ليرة سوريّة (حوالي دولار
واحد).
لا شكّ أنّ الاحتفال بالحبّ خصوصاً في هذا الزمن الذي نعيشه ويكاد عنوانه
يكون: الّلاحبّ، لأمرٌ يبعثُ على الفرح، وعلى تعزيز الأمل في إمكانيّة
تطويق الكراهيّة ودعاتها، بل ولعلّ في وجود يومٍ عالميّ للحب، عابرٍ للحدود
والثقافات تأكيدٌ على أساسيّة وأهمّية الحب في حياة الإنسان إن لم نقل في
أنسنته. لكنّ ذلك كلّه لا يلغي حقيقة يُثبتها الواقع عاماً بعد آخر مع كلّ
"فالنتاين" تتجلّى في تحويل الموضوع برمّته إلى منطق البيع والشراء من قبل
أرباب التجارة والمال، فتصبح الوردة سلعةً تجاريّة، والعشّاقُ مجرّد
مستهلكين، ولا يعدو عيد الحب أن يكون مهرجاناً للتسوّق!.
لن أعتذر يا حبيبتي، فأنا كما تعلمين على عادتي، لن أشتري وروداً حمراء،
وربّما سيمضي العيد قبل أن أتمكّن من العثور في الحدائق العامّة على وردةٍ
حمراء، لا تكترثُ بأسعار السوق ولا تبالي بالعبارة الغبيّة المكتوبة على
لوح حديديّ كئيب أسود "الرجاء عدم قطف الأزهار".
سأقطفها وأقدّمها لكِ مع زجاجة نبيذٍ أحمر وقصيدة لم تكتمل: يا عشّاق العالم.. لا تشتروا وروداً حمراء!
عميقة