" إنّ التقويض معناه أن نفتح آذاننا وأن نحرّرها
لأجل ما ينادي به التراث…. عندما نصغي
إلى هذا النّداء فإنّنا نصل إلى الاستجابة…الاستجابة
تتأتّى بكيفيات مختلفة سواء أكان النداء يتكلّم
أو كان مسموعا أو كانت الآذان مغلقة بالنسبة له،
وسواء أكان المسموع قد قيل أو بقي صامتا".
م. هايدغريشعرنا ميشيل فوكو، في مستهلّ درسه الافتتاحيّ بالكوليج دو فرانس، بأنه
يعاني توتّرا حادّا وتمزّقا بين أن يستجيب لرغبته في " أن ينفذ خلسة"،
ويكون "مغمورا بالكلمة بدل أن يتناول الكلمة…. فيستطرد ويلاحق الجملة
ويستوطنها من غير أن يدري أحد"، يشعرنا أنّه موزّع بين هذا وبين ما تفرضه
عليه المؤسّسة من توقيف لهذه الرّغبة الجامحة "حينما تضفي على البدايات
طابعا رسميا وتحيطها بسياج من الصمت والاهتمام، وتفرض عليها، من أجل
إبرازها، أشكالا من الطقوس والشّعائر".
هي إذن حيرة بين "ألا تكون هناك بداية"، وبين بداية "رسمية" محاطة بسياج
من الصمت والاهتمام، أو قل إنّها حيرة بين مفهومين عن "البداية"، عن
الانطلاق وعن الحركة، هما المفهومان اللذان يشير إليهما دولوز عندما يميّز
بين حركة تؤكّد على "الانطلاق فالوصول"، وأخرى تتمّ في "ما يجري بين".
المفهوم الأوّل هو الذي تعتمده الرياضات التقليدية، أما الآخر فهو ذاك الذي
يصدق على الحركة التي يحاول فيها الرياضيّ، لا أن يبدأ من "نقطة
الانطلاق"، بعد أن يُسمعه "المنظّمون" صفّارة البداية، وإنّما أن يتسلّل
و"ينفذ خلسة"، وينخرط ضمن اهتزازة سابقة، فيكون "مغمورا يالحركة"، منصاعا
لموجتها، بدل أن يخوض فيها. المفهوم الأوّل هو ما تريد المؤسّسة أن تفرضه،
أمّا الثاني فهو ما يسمح لـ"تناول" الكلام بأن يكون استطرادا ومواصلة
و"استئنافا"، وهو ما يجعل الكلام يمتدّ..
لا نفهم، إلا في ختام الدّرس، لماذا يستشعر تلميذ جان هيبوليت هذا
التوتّر، ولماذا يلاقي هذه الصّعوبة في بداية درسه الافتتاحي، لا نفهم هذا
الا عندما نتبيّن معه مع من ستكون المواصلة، ولمن ذلك الصوت الذي كان يرغب
"أن يتجاوزه ويحمله ويدعوه للحديث، ذلك الصوت الذي يستوطن خطابه الخاص".
فما كان يرعب القادم الجديد إلى الكوليج دو فرانس عند "تناول الكلام" هو
إحساسه بأنه مهما فعلت المؤسسة التي تعشق البدايات "الجديدة" وتهوى
تخليدها، ومهما حاولت لفّ الكلام بصمت يجعل الكلام كأنما ينطلق من بداية
مطلقة و"من لحظة صفر"، مهما حاولت تقطيع الأواصر التي تخرجه عن جدرانها
وتنقله خارج لحظته، مهما فعلت، فإنها لن تحول بينه وبين أن يُحشَر ضمن حركة
"لا بداية لها ولا نهاية"، ربّما هي تلك التي يدعوها بلانشو في "الحوار
اللامتناهي" "انسياب اللغة"، ذلك الانسياب الذي يجعل المعاني لا تفتأ تجيء
صوبنا في الوضوح الغامض لما سبق أن قيل، ويجعل كلّ بداية تكرارا لما لم
يسبق له أن قيل، ولما لا يفتأ يجيء دون أن يحضر قط، ويجعل كلّ من يتناول
الكلام ليس "ذلك الشخص الذي يأتي منه الخطاب"، وإنما مجرد "فجوة رهيفة في
مجراه العرضي".
هاته "الفجوة الرهيفة"، هذا التقويض البنّاء، هذا الاقتراب المتباعد،
هذا الانفصال المتواصل، هذا "الثقب" الذي يفصح عما لم يقل في ما قيل، ويكشف
عن بون وعوز manque ، يشهد على أنّ ما يقال هو نتاج حقل لاشخصيٍّ لا يحيل
إلى ذوات ولا إلى دواخل، وهو إعادة لامتناهية لما سبق أن قيل، وإصغاء لذلك
الكلام الذي لا ينقطع عن التكّلم حتى حين يتوقّف عن الكلام، كما يشهد على
أنّ فضاء اللغة والكتابة ليس إلا انخراطا في حركة محكومة بقوّة الاختلاف،
وبتيه أبديٍّ هو تيهُ أصلٍ لا يفتأ يتأصّل، تيهُ لغةٍ يسكنها الخواء
ويجعلها عاجزة عن كلّ تطابقٍ وتصالحٍ مع نفسها بحيث لا تنفك تثبت عجزها عن
"ضبط" معانيها والتحكّم في ما تنقله