** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
خواطر حول التاريخ المقدس I_icon_mini_portalالرئيسيةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

 خواطر حول التاريخ المقدس

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
شرود
مرحبا بك
مرحبا بك
شرود


عدد الرسائل : 44

تاريخ التسجيل : 05/11/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 2

خواطر حول التاريخ المقدس Empty
04022010
مُساهمةخواطر حول التاريخ المقدس

خواطر حول التاريخ المقدس Rienخواطر حول التاريخ المقدس Rienخواطر حول التاريخ المقدس Print_

/*
Open Centered Popup Window Script-
� DHTMLShock (www.dhtmlshock.com)
To add more shock to your site, visit www.DHTMLShock.com
*/
function centrarVentana(theURL,winName,features, myWidth, myHeight, isCenter) { http://v3.0
if(window.screen)if(isCenter)if(isCenter=="true"){
var myLeft = (screen.width-myWidth)/2;
var myTop = (screen.height-myHeight)/2;
features+=(features!='')?',':'';
features+=',left='+myLeft+',top='+myTop;
}
window.open(theURL,winName,features+((features!='')?',':'')+'width='+myWidth+',height='+myHeight);
}
خواطر حول التاريخ المقدس Send_






خواطر حول التاريخ المقدس Arton6813-efc1c

أفترض
أنّ القارئ مُلمّ بأسس التاريخ الإسلاميّ عموما، وله معرفة بالسيرة
النبوية وبأدبيات المغازي في خطوطها العريضة. لن أتوقّف عند التفاصيل،
وأحاول الولوج في صلب الموضوع انطلاقا من عمل تاريخيّ حديث، وأقصد كتاب
"الفتنة الكبرى" للمؤرّخ التونسيّ هشام جعيط.

1- أطروحات المستشرقين:

يستهلّ جعيط عمله بنقد أطروحات المستشرقين، ويخصّ بالذكر نظرتهم
للسيرة النبوية وللدوافع الثاوية وراء الدعوة المحمدية. جعيّط يرى أنه "من
المستحيل الاعتقاد، مثلما فعل عدد من المستشرقين، أنّ الدعوة المحمدية
طيلة 13 سنة كانت ذات أهداف سياسية أي الهيمنة على مكة"، لأنّ المسألة
التي صادفها النبيّ حسب رأيه "هي مسألة دينية وثقافية، لا علاقة لها
بالتجارة أو بالسياسة. وشيمة اتجاهه الروحي، كانت دعوته دينية أولا،
وثقافية ثانيا. كانت ثقافية من حيث أنها كانت تريد بوعي أو بلا وعي … أن
تعطي للشعب العربي كتابه المقدس، نبيّه، مؤدّبه الدينيّ والأخلاقيّ الذي
يكون بإمكانه غدا، يوم القيامة، أن يقول لله: هذه أمّتي، تلك التي
اتبعتني، لقد أنذرتها وآمنت بك(1)".

نغضّ الطرف عن كلمة "يوم القيامة" التي ليس لها في ميدان التاريخ أيّ
معنى، ونواصل. يستنتج المؤرخ جعيّط، على أساس قناعته المبدئية أعلاه،
ضرورة "الفصل المطلق بين التبشير الدينيّ لمحمّد طيلة 13 سنة في مكة
بالذات، التبشير الذي كان البارقة الدينية المحض التي أدت إلى ولادة
الإسلام، وبين التوليف المقبل في المدينة بين الدولة والدين». هذا استنتاج
صائب من وجهة نظر التاريخ الإسلامي المقدّس، لكن المعضلة الكبرى والعنصر
الأكثر إشكالا في تاريخ السيرة، هو بالتحديد المنعرج العملي والمنحى
السياسي الفعلي الذي أخذته الدعوة في فترة ما بعد مكة. السؤال الملحّ هنا
هو: "كيف يمكن لدعوة انطلقت من أسس دينية أخلاقية بحتة أن تتطوّر بشكل
مفاجئ حتى تنقلب جذريا وتأخذ بعدا دنيويا سياسيا في لحظة تاريخية تالية؟"
وهذا سؤال مشروع وهامّ ومحيّر لكلّ من أراد أن يفهم تاريخ الإنسانية
والأحداث التي صنعها رجاله، من وجهة نظر دنيوية وبأسبابها الواقعية الصرفة
قصد التوصل إلى فهم مسار التاريخ فهما عقليا.

عديد المستشرقين طرحوا هذه المسألة وطلبوا الإجابة عنها بالتعويل على
ملكاتهم العقلانية وعلى المنهجية التاريخية الفيلولوجية، التي هي الوسيلة
الوحيدة لتقشيع هالة القداسة عن الأحداث وتخليص التاريخ من اعتباطية
التعالي. المؤرخ لا يمكنه أن يُنزل تفسيرا لاهوتيا على أحداث دنيوية صنعها
الإنسان؛ لا يمكنه أن يعزوَ مثلا تلك التحوّلات الجذرية إلى الإله، الذي
يغيّر من أفعاله حسب الشروط الخارجية، حيث يجعل من رسوله ـ لمدة طويلة من
الزمن ـ داعية ونذيرا ثم إثر ذلك ـ ونظرا للتصدي والإخفاق ـ ينتهج نهج
الفعل المباشر والتدخل في صنع الأحداث وتغييرها بالوسائل السياسية الحربية.

هذا التفسير لمَجرى أحداث التاريخ لا يَفي بغرض الموضوعية العلمية، ولا
يفي بالغرض المعرفيّ حتى في منحاه اللاهوتيّ. إنه يحتوي في جوهره على سمات
تشبيه خطيرة، وهو أيضا تدَخّل ذو تكلفة عالية، وقد يواري أيضا تعجيزا
للإله. فأصحاب هذا الرأي لا يستطيعون الردّ على من سألهم: ما مَنَع الإله
من أن يَنتهج السبيل الأقرب والأيسر لنُصرة أنبيائه، أي بإدخال الإقناع في
قلوب الناس وتطويع إرادتهم لتقبّل رسالته بلطف وسهولة؟ وكأنّ الإله كان
ملزما بترك الإنسانية في العماء كي يتسنّى له إرسال الرسل لإرجاع الناس
إلى الطريق السويّ. هذا الأمر لا يُقدِم عليه أبسط الناس وأقلّهم حصافة،
فكيف بخالق هذا العالم ومدبّره.

لا أريد الدخول في جدال كلاميّ لاهوتيّ لأنّ موضوعنا أبعد ما يكون عن
ذلك، لكن حتى وإن عُزيت هذه الأحداث إلى إرادة متعالية، فإن تدخّلها في
التاريخ وتَسييرها الأحداث لا تُجيب بوضوح عن الأسئلة المطروحة، ولا هي
قادرة على تنزيه صورة الإله من التشبيه والتغيّر والانقلاب.

لكن من المؤكد أن لا أحد من المؤرخين المحدثين، أو المستشرقين
الجدّيين، مستعدّ أن يَركن لمثل هذه الأمور أو يقتنع بمثل هذه التفسيرات
وأن يعتبر العلل الغيبية والإرادة الإلهية المتغيرة، حسب الظروف، سببا
يبرّر هذا الانقلاب الفجئي، لا لشيء إلا لأنها تفرغ علم التاريخ من محتواه
المعرفي هذا إن لم تقض عليه تماما.

ولذلك فقد ذهب العديد منهم إلى أنه قد يكون الدافع الأهمّ للدعوة
المحمدية هو دافع سياسي، على الأقل في فترة ما بعد الهجرة. أغراض عملية
إذن أكثر منها دينية أو أخلاقية ثقافية. فعلا، إذا أُبعد الإله وتدخله في
أحداث التاريخ وتُرك جانبا التفسير الغيبي للوقائع العينية، فلا يبقى من
خيار، أمام رجل العلم، إلا الالتجاء إلى العلل المادية الدنيوية.

ويبدو، إن لم أخطئ، أنّ المؤرّخ جعيّط يرفض التفسير الأخير، فيُهاجم
المستشرقين بشدّة في لهجة تذكّرنا بالمفكرين الإسلاميين، لكنه يَستثني
منهم من لم يَرُدّوا الرسالة إلى أسباب دنيوية بحتة، أي هو يُزكّي
المستشرقين الذين يقتربون من النموذج الإسلامي الكلاسيكي للسيرة: "إذن لم
يكن العنصر السياسي موجودا في المرحلة المكيّة. ومع ذلك يواصل الاستشراق
الاعتقاد بوجوده، حتى في كتاباته الأخيرة […] من المدهش أن الاستشراق لم
يقم بغير النكوص والتراجع في فهمه للبعثة النبوية، منذ تور أندري: وفي هذا
السياق يمكن اعتبار كتاب منتغمري واط مقبولا، ولكنه يرغب مع ذلك في تفسير
الظاهرة بالتطورات الاقتصادية والاجتماعية. أما كُتب رودنسون وباتريسيا
كرون، فإنها تُظهر عمى عميقا إزاء خصوصية الحركة الدينية النبوية: وتبقى
كلها منغلقة في إشكاليات موروثة عن العصر الغربي الوسيط أو القرون الحديثة
الأولى: هل كان محمد صادقا؟ هل رسالته طريفة؟ كما لو كانت هذه المسألة يجب
طرحها على محمد وحده بين كبار مؤسسي الأديان، وكما لو أن هؤلاء المؤسسين
لم يكونوا حقا رجالا إلهيين، على علاقة واتصال بالألوهية، يستوحون بعمق من
روحها، ولم يَبيّنوا الأطر العقلية، لجوانب كثيرة وعريضة من الإنسانية،
ولزمن طويل(2) ".

عندما يُقصِي المؤرخ التفسير المادي للتاريخ لا يَبقى أمامه إلاّ تَبنى
التفسير الغيبي والتعليلات الماورائية التي توصد- بالفعل- الأبواب أمام كل
من تطلّع إلى معرفة موضوعية. فالتركيز على البعد الروحاني، حتى في بداية
الدعوة، يخرج الأنبياء بصفة عامة من حتميات التاريخ، ويعوق أي مقاربة
سوسيولوجية لبروز دعوتهم. طبقا لهذه النظرة فإنّ القارئ يجد أمامه رجالا
إلهيين باتصال مع الغيب، قد حبَتهم العناية الإلهية بشرف المخاطبة
والتواصل والوحي. مَن يعتقد في هذه الأمور ويجعل منها ثوابت مرجعية لا
يستطيع قراءة أحداث التاريخ بتجرّد وموضوعية، ولا يمكن أن يُعمل عقله بكلّ
نزاهة، لأنها تخمينات تُنكر العقل، بل تخذله وتذلّه.

الإشكالية، كما قلتُ، لا تكمن بالتحديد في أن الدعوة المحمدية الأولى
التي تواصلت لمدة 13 عشر سنة كانت ذات أهداف سياسية، بل إن الإشكالية التي
تُحيّر أكثر هي كيف تحولت وجهة الدعوة وفق تحول الظروف المادية والمكانية.
لماذا أخذت في يثرب منحى دنيويا وسياسيا أكثر مما كان عليه الأمر في مكة؟
إنها الإشكالية المحدّدة والأكثر حرجا في التاريخ الإسلامي: ألا تتضارب
روح الغزوات والحروب والتقتيل والغنائم والسّبي مع الدعوة الدينية الخالصة
السلمية التي من المفروض أن تترك لمشيئة الله تصريف الأمور على الوجه
الأحسن؟ هناك انقلاب وتغيّر جذريّ طرأ على روح الدعوة الأولى ومسّ جميع
نقاطها الحساسة ونفذت حتى إلى تصوّر الألوهية ذاته.

في كتابه "العقيدة والشريعة"، يُصوّر المستشرق إجناس جولتزيهر هذا
التغيّر الكيفيّ بين الدعوة المكية والدعوة المدنية، ونتائجه العملية
واللاهوتية بصورة مباشرة ومدعّمة بمجموعة من الشواهد والآيات القرآنية.
يقول إنّ الخطاب القرآنيّ في الفترة الأولى كان يحتوي على: « صُور مرسومة
بألوان قويّة عن نهاية العالم والحساب الأخير؛ حضّ على إعداد المرء نفسه
لهذا اليوم بترك الكفر ونبذ الحياة الدّنسة التي كان يحياها أولا؛ قصص عن
سلوك الأمم القديمة نحو من أرسل إليها من الأنبياء والرسل عن مصيرها؛
تدليل بخلق العالم وتكوين الإنسان تكوينا عجيبا، على قدرة الله المطلقة
وتبعيّة المخلوق له، حتى إن الله يستطيع أن يميته ويبعثه كما يشاء (3) ".

لكنّ المنعرج المدنيّ أضفى على الدعوة المحمدية "اتجاها جديدا، فلم
يُصبح حديثه حديث من استولت عليه الرؤى المشبّعة بالدار الآخرة وما يكون
فيها. بل إن تلك الحالة الجديدة جعلت منه أيضا مجاهدا وغازيا، ورجل دولة
(…) إنه في المدينة فقط ظهر الإسلام له طابعا خاصا، وله في الوقت نفسه
صورة الهيئة المكافحة؛ إنه في المدينة قامت طبول الحرب التي تردد صداها في
جميع أزمنة التاريخ. (…) إنّ العصر المدنيّ قد أدخل تعديلا جوهريا حتى في
الفكرة التي كوّنها محمّد عن طابعه الخاص؛ ففي مكة كان يشعر أنه نبي يتمم
رسالته سلسلة رسل التوراة، وأن لهذا عليه ـ مثل أولئك الرسل ـ أن يقوم
بإنذار أمثاله في الإنسانية وإنقاذهم من الضلال. أما في المدينة، وقد
تغيرت الظروف الخارجية، فقد تغيرت مقاصده وخططه واتجهت اتجاها آخر كذلك
بحكم تلك الظروف الخارجية… إنه يريد الآن إصلاح دين إبراهيم وإعادته إلى
أصله بعد أن نال منه التغيير والفساد(4) ".

أما من جهة الجانب السياسي العملي يقول جولدتزيهر: " لا نستطيع أن
نُطبّق في العصر المدني على عمل محمد المثل القائل: "الكلمة أقوى من
السيف" فمنذ تَركه مكة تغيّر الزمن ولم يصر واجبا ﴿الإعراض على المشركين﴾
( سورة الحجر: 94)، أو دعوتهم كما يقول القرآن ﴿بالحكمة والموعظة الحسنة﴾
(سورة النحل: 125)) بل حان الوقت لتتخذ كلمته لهجة أخرى: ﴿فإذا انسلخ
الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم
كل مرصد﴾ (سورة التوبة: 5) ﴿وقاتلوا في سبيل الله﴾ (سورة البقرة: 244 ).
وبعد أن كانت الرؤيا تكشف له انهيار هذا العالم السيئ، انتقل فجأة إلى
تصور مملكة في هذا العالم. وقد أدى هذا إلى نتائج محتومة بسبب التغير
السياسي الذي أثاره في الجزيرة العربية نجاح تبشيره، والدور الشخصي الذي
قام به وكان له الأثر الكبير في الدعوة. فهو الآن يحمل السيف في العالم،
ولا يكتفي بـ"عصاه التي يضرب بها الأرض" ولا بنفثات شفتيه لإبادة الكفرة،
بل هو نفير الحرب الذي كان ينفخ فيه؛ وهو السيف الدامي الذي رفعه لإقامة
مملكته. وفي رواية إسلامية متواترة، تتبين منها مهمته مركزة فيها، إنه
اللقب الذي ورد في التوراة وهو : "نبي القتال والحرب".

المستشرق جولدزيهر يعزو هذا التقلّب إلى البيئة الجديدة التي وجد فيها
النبيّ نفسه، بما تُحتّمه من تغيير في تكتيك المعاملات: " إذن البيئة التي
شعر أن من واجبه العمل فيها بأمر الله، لم تكن لتتيح له أن يعلل نفسه
براحة مأمونة: "إن الله يحارب من أجلك ويمكنك أن تسكت". بل كان عليه أن
يقوم بكفاح مادي، في الأمة التي بعث فيها وفي العالم كله، لضمان ذيوع
دعوته، والاعتراف بسيطرتها وتعاليمها، وكان هذا الجهاد هو الوصية التي
تركها محمد لخلفائه. والنتيجة أنه لم يكن عنده أي إيثار للسلام. ﴿يا أيها
الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم… فلا تهنوا
وتَدْعُوا إلى السّلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يبتركم أعمالكم﴾ (سورة
محمد: 33 ـ 35 ). ويجب الجهاد حتى تكون ﴿كلمة الله هي العليا﴾. ومن قعد عن
الجهاد من المؤمنين اعتبر كأنه لا يأبه بإرادة الله، ومسالمة الوثنيين
الذين يصدون عن سبيل الله لا يمكن أن تكون فضيلة؛ ﴿لا يستوي القاعدون من
المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل
الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلاّ وعد الله الحسنى
وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما، درجات منه ومغفرة ورحمة﴾
(سورة النساء: 95 96 )(5)".

لقد أتى التوجّه السياسي، حسب رأي المستشرق، على كلّ شيء واخترق حتى
الجانب اللاهوتي، أعني تصور الألوهية في الخطاب القرآني: "وهكذا كان
الجهاد والنصر، المعتبرين وسيلة لرسالته النبوية، أن غيّر الفكرة عن الله،
الذي أراد أن يؤكد في ذلك الحين وما بعده النصر بقوة السلاح. ومما لا شك
فيه أن محمدا تصور الله بصفات مطبوعة بقوة بطابع التوحيد (…) ولم ينس محمد
صفة المحبة بين الصفات التي يذكرها الله: إن الله ودود محب، ﴿إن كنتم
تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم﴾ ( سورة آل عمران: 31
)… لكن الله أيضا إله الجهاد الذي يقاتل أعداءه بواسطة النبي وأتباع
النبي، وهذه الصفة أدت إلى نتيجة حتمية، وهي أن تمتزج بفكرة الله ـ كما
كان يمثلها محمد ـ بعض السمات الأسطورية التي تقلل من شأنها، كما لو أن
المحارب ذا القدرة اللانهائية في حاجة إلى الدفاع عن نفسه، ضد كيد أعدائه
ومقاومتهم بلا انقطاع، بوسائل تشبه وسائلهم وإن كانت أقوى منها؛ لأنه حسب
مثل عربي قديم مأثور، "الحرب خدعة"؛ وفي القرآن ﴿إنهم يكيدون كيدا، وأكيد
كيدا﴾ (سورة الطارق: 15 16 ). ويصف الله الطريقة التي يراها لعقاب منكري
وحيه، باعتبارها كيدا قويا، فيقول ﴿والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث
لا يعلمون، وأملي لهم. إن كيدي متين﴾ (سورة الأعراف: 183)، وهذا يساوي ما
في الآية 45 من سورة القلم(6)".

على هذا الأساس فإن الرجل، بخصوص التغير الذي طرأ على تصور محمّد لله،
يقدّم تفسيرا دنيويا في جوهره، ولا مجال فيه للمقدس. هذا التفسير قد يَجرح
إحساس الإنسان المؤمن كما كان الأمر بالنسبة لليهود والنصارى حينما عمدت
الدراسات التاريخية الحديثة إلى نقد التاريخ المقدس وكشف الجانب الإنساني
الهش من شخصيات أنبياء العهد القديم. يقول جولدتسيهر: " إن الطريقة التي
اصطنعها محمد، والأسلوب الذي يعبّر به في وصف الله ربّ العالم، وهو يقاوم
كيد الكائدين، يصور سياسة النبي الحقيقية التي انتهجها ليقاوم ما أقيم في
سبيله من عقبات. فعقليته الخاصة، والخطة التي اتخذها ضد أعدائه في الداخل،
قد انعكست صورتها على الله الذي ـ كما قال ـ يضمن لنبيه النصر بأسلحته
التي يراها: ﴿وأما تخافنّ من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا
يحب الخائنين، ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون﴾ (سورة
الأنفال: 58 ـ 59 ). وعلى كل، فإن هذه الكلمات التي لها دلالتها
الاصطلاحية تدل على عقلية سياسي محنك، أكثر من دلالتها على عقلية رجل صابر
سلاحه المثابرة، ويجب أن نلح خاصة على هذه النقطة التي لم تؤثر في أخلاق
الإسلام والذي يحظر بشدة الغدر حتى بالكافرين. ومع هذا فهناك ضلال أسطوري
في الطريقة التي يتصور بها محمد الله، إذ تؤدي إلى أن الله ينزل من عليائه
السماوية ليصبح الشريك المعين للنبيّ في جهاده الذي أخذ بالاضطلاع به في
هذا العالم(7)".


2- أطروحات جعيّط:


أرى بخصوص هذه النقطة، أنه كان على المستشرق، على أية حال، أن ينبّه
إلى أن تلك الأطر اللاهوتية التي تسحب الإله للحرب وتجعله راعيا للمؤمنين
ومؤيدا لهم في إباداتهم للشعوب الأخرى، موجودة في العهد القديم، وهو فعلا
الإطار المرجعي الذي وفر للمسيحيين والمسلمين الترسانة الإيديولوجية
لتبرير أعمالهم.

الغريب في الأمر أنّ المؤرّخ جعيّط نفسه، بعد إقصائه أيّ دوافع سياسية
محركة للدعوة في بدايتها، يعود ليُركّز بشدّة على فكرة أن الدعوة حملت
السلاح ورفعت راية الحرب في فترة لاحقة بعد أن انتهجت نهج السلم في
بدايتها: "صحيح أن النبي كان يسعى لنشر حقيقته وانتشار عقيدته، لكنه حقق
ذلك بلعبة القوّة والحرب، بواسطة وسائل عصره وعالمه، ويلاحظ في بدر أيضا
أن الغنائم صارت عنصرا حاسما لاجتذاب الرجال(8)".

إذن، لعبة القوة حققت انتشار العقيدة، وإغراءات الغنائم استمالت قلوب
الناس للدين الجديد. يجب تسجيل هذا الأمر لأن المؤرّخ التونسي هشام جعيّط
نفسه، هو الذي يركّز كثيرا عليه. وقد يصل في بعض الأحيان إلى تقديم محمد
في صورة سياسي مُحنك، ومكيافلّي خالص، لا همّ له إلاّ تحقيق مشروعه
السياسي: كلّ شيء يبرّر قيام الدّولة حتى ولو أدّى إلى تفعيل مبدأ "الغاية
تبرّر الوسيلة". فكَسره لليهود في بعض غزواته ومجزرة بني قريظة، كما سردها
المؤرخون القدامى، يُعيد سردها مجدّدا ولكنه يلقيها على كاهل العقل
والعقلانية (يدعوها مجزرة عقلانية، كما لو أن العقل هكذا في المطلق، وليس
الناس أصحاب العقل، هو المسؤول الأساسي عن ذلك) : "فالدّولة الإسلامية
الآخذة في التكوّن تنزع، أكثر من أي وقت مضى، إلى أن تصبح دولة أنفال
وغنائم، متقيّدة بشرائع الحرب وقوانينها في شبه الجزيرة، ولكن مع حزم
وانتظام لم يستعملا في الحروب بين القبائل. وبشكل خاصّ فإن حادثة المجزرة
الباردة والعقلانية لبني قريظة ستُدشّن عنف دولة حقيقية وحرب حقيقية، لم
يظهر له مثيل إطلاقا في الجزيرة العربية، وهو عنف مشتقّ من ممارسة الشرق
العتيق: ذبح الرّجال كافة، استرقاق النساء والأطفال(9)".

أودّ أن أسأل هل أن أقوالا من هذا القبيل قد تتعارض مع أقوال
المستشرقين الذين ركّزوا على الجانب العملي للدعوة المحمدية؟ حسب ما أورده
المؤرّخ، بكلّ برودة، في هذا المقطع وفي مواضع أخرى من كتابه، أرى أنه لم
يفعل إلاّ أن دعّم آراءهم وجرّ القارئ إلى الحيطة والشك في إمكانية أن
تكون رسالة محمد رسالة روحية أخلاقية خالصة لله وحده. أنا لا أحكم، ولا
أقيّم، وإنما أجمّع المعطيات، أسرد وأقارن وأضع الأطروحات جنبا لجنب،
التقييم يأتي في مرحلة تالية.

لقد غابت الدعوة الدينية واضمحلّ مفهوم التوحيد النقيّ الخالص الذي
ركّز عليه في البداية، ولم يَبق ـ بعد إدماج العقل في لعبة القتل ـ إلاّ
المشروع القوميّ المُبيّت والمبَرمج له مسبقا: أي توحيد الجزيرة العربية،
ومشروع حربي هجومي لإدخال الناس تحت مظلّة الدعوة الجديدة، سواء بالقوّة
أو بسياسة الترغيب المادّي: "منذ مرحلة الحديبية، يكتب جعيّط، توضّح هذا
الهدف: فالمقصود هو توحيد العرب أوّلا، ودفعهم من ثمّ نحو فتح
الشمال(10)"؛ ليس هذا فقط بل إن السلطة النبوية الجديدة "تلتزم بجدليّةٍ
تطرح أعداءً وتُجرّدهم من ممتلكاتهم، وتغذّي الولاءات انطلاقا من هذا
التجريد للممتلكات، إنها بالذات جدلية الدّولة المحاربة المنظّمة،
المبرّرة والمدعّمة هنا بالدّين(11)".

لقد أنّب المستشرقين على تساؤلهم عن صدق محمد، وقال بأن هذه التساؤلات
هي من موروثات القرون الوسطى، لكن الصورة التي رسمها للنبيّ ولدولته
الصاعدة، التي تفرّق بين الصديق والعدوّ، ثم تُجرّد الناس من ممتلكاتهم،
لكي تمنحها آخرين وذلك لكسب ولائهم، لا تبعد كثيرا عمّا رسمه أهل
الإستشراق.

ومن حق الدارس الحديث أن يطرح بكل تجرّد وموضوعية جميع أصناف التساؤلات
على التاريخ القديم وعلى مصداقية الروايات. ألا تنتابنا الحيرة من تصرفات
من هذا القبيل؟ من انقلابات فجئية، ومما سماه جعيط نفسه جدلية طرح أعداء
وتجريدهم من ممتلكاتهم؟ لا، بالنسبة لمؤرخنا ليس لدينا الحق في التساؤل،
وممنوع علينا الحيرة، الأمر هكذا وكفى. إنّ مَثل جعيط كمَثل مؤرخينا
القدامى، من حيث إمعانهم في تقديم محمّد نبيّ الإسلام على صورة قائد حربي
لا يُثنيه عن تحقيق مشروعه السياسي الدنيوي أي مبدإ أخلاقي، وأية قيمة
إنسانية، ولو أدّى ذلك إلى نقض العهود وتمزيقها واستعمال الخدعة السياسية
في جميع أشكالها إلى درجة امّحاء أيّ أثر للدين والأخلاق. هذا كلام جعيّط
نفسه: "عندما حاصر النبيّ مكّة … قاطعا هدنة العشر سنوات، فقط بعد سنتين
من إعلانها، تراءى بمظهر قائد حربي فاتح حقيقي، لم تشهد الجزيرة العربية
مثيلا له (…) كان الجيش منظما على أكمل وجه، مع أجنحة وقلب (…) دخلت قريش
في الإسلام وجيش النبيّ، الذي سيصطدم عمّا قريب بعشرين ألف رجل من قبيلة
هوازن، سيهزمهم ويستولي على غنائم عظيمة سيجري توزيعها وفقا لحسابات
سياسية ترمي إلى تعزيز الولاء الجديد لدى زعماء قريش. الأمر الذي أدّى إلى
توتّرات مع الأنصار، القاعدة الموالية للمنظومة، والتي أبعدت أو أخذت
المرتبة الثانية. لقد استعدّ القرشيّون… للاضطلاع بالدّور الأوّل في
الدولة الجديدة، لأنهم قبيلة النبي ولأن أواصر الدم ستفوق الولاء الديني
البحت(12) ".

وفي سياق كلامه، هذا يعود الرجل أدراجه مُتفكرا النتائج السلبية التي
قد تؤدي إليها أطروحاته، والتناقضات التي تكمن بين الدعوة الخالصة وبين
إمكانية تحقيقها أو عدمها، ولكن لا يفعل ذلك لكي يُصحّح من آرائه بل لكي
يُثني على تلك السياسة الحربية وليُعلي من شأنها ويزكّيها. فعلا، وحسب
الطرح النفعي المكيافلّي، نقائصها الأخلاقية وإخلالها بالقيم الإنسانية
السلميّة عُوِّضت بالنجاح على أرض الواقع وكُتب لها التواصل في الزمن
والرسوخ في التاريخ، ويكفي هذا النجاح الفعلي لكي تُضفى عليها هالة من
الحقيقة والقداسة "وبإظهار النبي بوادر عودة كثيفة إلى الوطن وروابط الدم،
فإنه أفقد الرسالة الإسلامية هالة الصمود والصفاء، لكنه مَنحها، من جرّاء
ذلك الفعل بالذات، الشروط السياسية للنجاح في هذا العالم(13)".

لقد رسم جعيّط للنبي صورة قائد حربي محنك ومتمرّس بفن القتال بل
مُجدّدا حتى في لوجيستيقا الحرب، إلى درجة أنه يصف، ببهجة وانبهار، تقنيته
الجديدة التي فاقت حتى السائد من المعارك في العصر الجاهلي: "فقد كان
النبي، على الصعيد العسكري، مجدّدا في الجزيرة العربية. كان مُدخِل صفوف
القتال المتراتبة على غرار صفوف الصلاة، فقد هيكل الجيش في قلب وأجنحة.
وبشكل خاص بث روح صمود ومقاومة خارقة، مستبعدا كل فكرة تراجع وفرار،
مشبّها إياها بكبيرة تجاه الله، في حين كانت المعارك القبلية في الجاهلية
تعتمد الكرّ والفرّ، الهجمات والانسحابات. وبالتالي كانت الآلة القتالية
التي خلفها النبي للمدينة، آلة مرموقة(14)".

ودائما، لأجل أسباب مادّية اقتصادية بحت، غدت مقولة الفتح السّمة
المميزة للدولة الإسلامية منذ بدايتها، والفتح هو عبارة إسلامية تعني
ماديا الحرب الهجومية، والسّطو على أملاك الناس وتجريدهم منها بالقوّة.

لقد صوّر المسلمين الأوائل ـ مُتّبعا في ذلك حرفيا ما جاء في كتب
السيرة القديمة ـ على شكل لصوص وقطّاع طرق لأن همّهم الوحيد ليس التعبّد
والعناية بالفضيلة، أو التمسك بتعاليم الدين الجديد وإقامة شعائره، بل
الهدف الأوحد لأعمالهم هو إشعال نيران الحرب والبحث المستمرّ عن الغنائم
والاستحواذ على ممتلكات الناس ونهبها. وهذا التوجّه الحربي لم يكن جديدا
بل قد أرساه، حسب المؤرّخين القدامى وحسب جعيّط، مؤسس الإسلام نفسه، نظرا
لأن الفتح، طبقا لتعبير جعيّط، هو ملازم جوهري لوجود الدولة الإسلامية.
فعلا، فمنذ الوهلة الأولى: "تتضمّن السلطة النبوية، وهي تُكوّن ذاتها،
فكرة فتح الخارج في بذرتها. إن اختلال نظام التجارة الكبرى، واستحالة
تقديم غنائم في جزيرة عربية متأسلمة، وضرورة استناد هذه السلطة إلى نجاحات
مادّيّة ملموسة، كلّ هذا لعب دورا كبيرا في جعل الدولة الإسلامية دولة
موجّهة نحو الفتح. والحقيقة، نظرا لأن الأمر يتعلّق بدولة مُحاربة، منذ
ولادتها في فترة الهجرة، فإن الفتح لم يعد عرضا بالنسبة إليه. إنه ملازم
جوهري لوجودها. فقد كانت الطريقة الوحيدة لجمع القبائل في اتحاد، تكمن في
تقديم هدف مألوف لديها، هدف البحث عن الغنائم، المتكرّر دائما وأبدا … لم
تقم الدولة النبوية بغير متابعة الهدف نفسه: نقل عادات العالم البدوي مع
وسائل أكبر ومطمح منتظم إلى البيئة المتحضّرة، وإخضاع هذه المسيرة الحربية
المتواصلة إلى التعالي الإلهي(15)".

هكذا أصبحت مسيرة الحرب والغنائم تخضع للتعالي الإلهي، نظرا لأنها
بالأساس مشروع روحاني: "يندرج الفتح في بنية الدولة المحمدية، لكنه يرتسم
أكثر في الإسلام ذاته، لأنه مشروع روحاني أوّلا(16)". لكن ـ كما يرى
القارئ ـ الكاتب قدّم لنا قليلا من الروح وكثيرا من المادّة. كيف لا وقد
عجّز محمدا عن إبلاغ رسالته بالطرق السلمية، وعجّز الإله أيضا عن إدخاله
الإيمان في قلوب الناس. فهُما مغلوبان على أمرهما، إن صحّ التعبير، لأنهما
حتى وإن أرادا ذلك فإن الواقع التاريخي يمنعهما منه: إنهما محكومان بأسباب
مادية قاهرة، أعني حسب زعمه، اختلال نظام التجارة في تلك الفترة التاريخية
الشيء الذي جعل من توفير الغنائم وتأمين السّلب والنهب في رقعة أرضية
اعتنقت الدين الجديد أمرا مستحيلا. الحل الوحيد والممكن أمام مؤسس هذا
الدين هو الانصياع إلى تلك الحتميات، وتسريح عادات الجاهلية (البحث عن
الغنائم، المتكرّر دائما وأبدا) إلى الخارج، هذا كل ما في الأمر. لكن، وفي
نظرة مابعدية لفلسفة التاريخ ليس هو بالحل الوحيد والأقوم لنشر دين ما،
هذا إن كان فعلا مَن يقوم بهذا العمل يحاول نشر الدين، لأن التلازم
الجوهري للدعوة المحمدية بالفتح -حسب جعيّط- أزاح البعد الديني، الذي كان
هو المحرك الأول لصنع الأحداث، وتصدّر واجهة الأهداف الأولى للدعوة
الجديدة.

إنني أركّز على هذه النقطة وأحاول ربط المقدمات التي طرحها جعيط
بالنتائج المتوصَّل إليها. أنا أودّ أن أعتقد بأن محمدا لم يحارب ولم يَغز
ولم يَغنم، وأنه نشر دينه بالحكمة والموعظة الحسنة؛ المؤرخون القدامى
كذابون لأنهم لفقوا على كاهل إنسان متزهّد ذي خُلق عظيم أشياء منافية
لطبعه. لكن أول المثقفين العرب الذي يمنعني من اعتقادي هذا هو المؤرخ
الحديث هشام جعيّط، ذلك لأنه انساق مع روايات المحدّثين واختلاقاتهم
وتلفيقاتهم، وردّدها أحيانا على حرفيتها.

لكن عند هذا الحدّ قد يسألني جعيّط: أنت ماذا تريد؟ أتريد تاريخا علميا
موضوعيا وسردا للوقائع الثابتة أم تاريخا طوباويا مُنمّقا بشتى أنواع
القصص المثيرة للوجدان والمستجيبة لرغباتك الرومنطيقية؟ طبعا نحن نريد
التاريخ العلمي الموضوعي حتى وإن جرح إحساسنا أو رجّ قناعاتنا، هذا هو
المنهج الصحيح الذي ينبغي أن يُعتمد في كتابة التاريخ. إلاّ أنه حتى من
هذه الزاوية لن نحصل على مبتغانا. لقد بيّنتُ أن عمله لا يخلو من الهموم
التبريرية، الشيء الذي أوقعه في تناقضات حادة، مثل قوله بأن الفتح كحرب
هجومية هو ملازم جوهري للإسلام منذ بدايته ثم في نفس الوقت هو عمل يَكتسي
بعدا روحانيا؛ أنّب المستشرقين حينما افترضوا وجود هموم دنيوية قد تكون هي
العامل الأساسي في تحريك الدعوة، ثم قال بأن هناك منذ البداية مشروعا
قوميا وحدويا.

ومن جهة أخرى، حتى السبيل إلى الطوباوية أو تمني ما كان ينبغي أن يكون
عليه التاريخ، وشخصية محمد، مسدود أمامنا. فكتّاب السيرة، وعلى رأسهم ابن
هشام، تعتور شهاداتهم وروايتهم الشكوك، يكفي أنه قد دوّنها بعد وفاة
الرسول بأكثر من قرن من الزمن، ويكفي أنه أظهر سفاهة، كما أقرّ جعيّط
نفسه، لتصويره الرسول في المدينة وهو يتلهّف على الجنس(17). ما العمل إذن؟
أنا لا أقبل تاريخ من يبتدع أخبارا ويختلق أفعالا من محض خياله وبحسب
مزاجه الشخصي، ويُسقط، على شخص لم يره ولم يُصاحبه، أوهامه وخيالاته.
المؤلفات التاريخية التي تُحشى ولو بِنَزر قليل من السفاهة تنطبق عليها
قولة المؤرخ اليوناني بوليبيوس: "مثل خزان الماء، تكفي قطرة واحدة لكي
نعرف هل أن مُحتواه صالح أم فاسد(18)". لكن المؤرخ الحديث، في الوقت الذي
ينبغي فيه أن تنتابه الشكوك، يبدي على العكس من ذلك قسطا كبيرا من اليقين:
غزوات، حروب، تقتيل، سبي، ضرورة تسريح العنف للخارج بسبب استنفاد المغانم
في الداخل…إلخ، كلها يقينيات كما لو كانت مُبرهن عليها منطقيا ووقائعيّا.
حيثما ولّينا وجوهنا واخترنا أحد الطريقين، نجد أمامنا سدّا منيعا: إذا
اتجهنا نحو التاريخ الوقائعي وطالبناه بعمل مُعقّم من أيّ عدوى
إيديولوجية، وبنظرة متعالية عن الهموم الإيمانية فلن نجدها؛ وإن اخترنا
تمنيّا بأن تكون الشخصية المحمدية منزهة عما لفقه عليها المحدّثون والرواة
القدامى، حتى في هذا المجال فهو يعيد على مسامعنا كل تلك الحكايات الكريهة
التي رواها أولئك الرجال. قد يكون جعيط أراد أن يُرضي الفريقين: فريق
المؤمنين وفريق العلماء الكافرين. إلاّ أن هذا الفعل لا يستقيم من وجهة
نظر عقلانية: إنه تربيع للدائرة، خلف منطقي، محال على الإطلاق.

3- الحرب والقداسة:

لا يمكننا أن نقرأ السيرة النبوية دون المغازي، لأنها فعلا عامل جوهري
إذا بُترت فربما لن يُفهم تسلسل الأحداث بل لن يبقى منها شيء. هذا صحيح
إذا صدقنا كل ما جاءت به السيرة الكلاسيكية، ولكن المؤرخ الحديث مع تطوّر
تقنيات السبر التاريخي والفيلولوجيا يُجري الروايات على محكّ العقل ولا
يقبل بها دون وجود وثائق وأدلة ثابتة. لقد استوقفني التركيز المكثف في
كتاب جعيّط على البعد المادي الحربي من الدعوة المحمدية، وكيفية وصفه
للمسلمين الأوائل على أنهم أشداء غلاظ همومهم الوحيدة هي بطونهم وفروجهم.
انظر مثلا كيف يصوّر وحشية الفاتحين الأوائل الذين وصلوا إفريقية في كتاب
"تأسيس الغرب الإسلامي" حيث توسّع طوال صفحات عديدة في وصف معارك وغزوات
ونهب وسلب: "بعد انتصارهم لم يتوان العرب عن القيام بعمليات النهب، إذ
كنست فصائلهم بلاد مزاق (Byzacène) وطالت حدود واحات الجريد الثرية.
وتَوجّب أخيرا على القادة البيزنطيين أن يقدّموا ثمنا لخروج الغازي العربي
تمثل في غرامة حربية ثقيلة قدّرت بـ 2500000 دينار أي 300 قنطار من
الذهب(19)". وفي موضع آخر يواصل وكأني به يتلذذ بالعنف، ويثني على هذه
الأعمال ومن قام بها زاعما أن الإنسان الحربي له رؤية واضحة للأشياء:
"ولهذا أشار الإخباريون العرب والبيزنطيون معا إلى المذابح التي أُحدثت في
صلب المسيحيين ـ وخاصة دون شك في صلب الأفارقة ـ وذكر لنا أن البربر، من
شدّة ما أصابهم من الرعب اعتنق أغلبهم الدين الجديد. كان كل شيء، يدل إذن
على أن قدوم عقبة تزامن مع نوع من التشدّد في الأساليب العربية التي
يفسّرها بسهولة عنف الرجل ووضوح الرؤية التي كانت لديه عن مهمّته
ودوره(20)". النهب والسلب والمجازر متواصلة على كامل طريق الفاتحين، إلى
درجة أن البربر سلّموا أمرهم لله وتركوهم يعيثون في أرضهم فسادا "لتوضيح
مشكل المقاومة، لا بدّ من ملاحظة أن العرب ما داموا ينحصرون في غزوهم على
النهب وعلى إخماد الفتن بمنطقة طرابلس وإفريقية بحصر المعنى، لم تكن توجد
تقريبا قلاقل من الجانب البربري. فقبائل الجنوب كلواتة وهوّارة ونفوسة، لم
تحرّك ساكنا بالرغم من نهب بلاد الجريد، ورغم فرض جباية ثقيلة على
لواتة(21)". حسب جعيط، فقد شنّ القائد عقبة بن نافع "معارك عنيفة أمام
أذنة، المدينة البربرية الموجودة في الزاب، دون أن ينجح في اقتحامها، فقام
فيها بعدة مجازر وجمّع غنيمة عظيمة من الخيول…ثم اتجه في مرحلة أخيرة إلى
السّوس الأقصى وهو بلد قبائل معهودة التي أسر منها عددا كبيرا من
النساء(22)".

غزوات، نهب، مجازر، سبيٌ.. هذه هي الصورة التي قدمها لنا جعيّط عن
المسلمين الأوائل، والغريب في الأمر أنه يُمعن في تكرارها بصيغة تكاد تكون
شبقية. النتيجة هي هذه: مجموعة من الجيوش العرمرم المكوّنة من لصوص وقطاع
طرق هدفها الأوحد هو إشباع نهمهم المادي والجنسي، انقضّوا على أناس
مسالمين في عقر دارهم وساموهم سوء العذاب. فكما لو أن الدين الجديد لم
يبثّ فيهم أي إحساس بالرحمة والتعاطف مع الخلق، بل هي الحرب وسفك الدماء.

كل تاريخ الإسلام مسطّر بالدماء، ودون هوادة أو انقطاع منذ الوهلة
الأولى، كما ركّز على ذلك جعيط وكما برهنتُ من خلال صريح نصوصه. وعلى أساس
هذه النظرة الحربية لنشأة الإسلام فإن الرجل صوّر مشروع أبي بكر ومشروع
عمر بن الخطّاب على نفس الشاكلة، بل في فترة ما ألقى مسؤولية الفتح على
الله، طبقا لتصوّر المسلمين، جاعلا منه أول محارب: "والفتح ذاته لم يحصل
باسم الدولة، بل في سبيل الإسلام والمسلمين. التعالي كان متعلقا بالله
وحده، وليس بالدولة، وكان الله هو الذي يهب للمسلمين فتوحاتهم
وأراضيهم(23)".

لا أودّ أن أظهر بمظهر الناقد الأخلاقي، أو التركيز المفرط على هذا
الجانب للحكم على أحداث تاريخية غابرة لا ندري بالتحديد كيف طرأت بالفعل،
ولا ندري هل أن رجالها وجدوا فعلا على وجه الأرض أم أنهم محض خيال. لكن لو
صدقت الروايات بعد سبرها وتمحيصها، وتُثبّت من حدث تاريخي أو واقعة قام
بها أحد من الرجال القدامى أو مجموعة من الناس، فإنه من حقنا أن نتمعّنها
وأن نأخذ العبرة منها، ولِمَ لا أن نقيّمها حتى على الصعيد الأخلاقي. إن
أحداث التاريخ ليست بعَجِين هلامي يمكن أن يُبَرّر فيه أي عمل نظرا لأنه
انقضى نهائيا أو ساهم في إرساء نظام جديد. لقد أدّت هذه النظرة
اللامعيارية للتاريخ بالفيلسوف بندتو كروتشي (Benedetto Croce) إلى
التهكّم على كل مَن حاول مراجعة سيرة القدامى والحكم عليها وتقييمها من
الجانب الإنساني. يقول بلهجته القاطعة: "نَتَبَاكَى الآن على مجازر القديس
بارتولمي أو مَحرقة محاكم التفتيش أو طرد اليهود والعرب أو تعذيب سيرفيت
(Servet)؟". كلا. لا يجب التباكي ذلك لأنّه بمثل هذا التَبَاكي، حسب رأيه،
فإننا "نَنظم شعرا ولا نكتب تاريخا بعد (si fa poesia e non già storia)
(24). فالتاريخ، من منظوره الهيجلي، هو مَكَنة تدوس كلّ شيء، وهو صيرورة
مقدّرة منذ الأزل وكيفما سارت لا يجب علينا أن نُقيّمها ولا حتى أن نتعجب
من مسارها أو نحكم عليها طبقا لحسّنا الإنساني، أو لتصوراتنا للخير
والشرّ. فالكل يجد مكانه في مسرح التاريخ: الصالح والطالح، الرحيم
والقاسي، المهدِّم والباني. يقول كروتشي مؤكدا هذه الفكرة: "تلك الأحداث
وقعت ولا أحد يستطيع تغييرها؛ كما أن لا أحد يستطيع أن يقول ما كان سيحدث
لو أنها لم تحدث(25)". ولكن في الجهة المقابلة لهذه النظرة التبريرية
للتاريخ يقف المفكر لوتزاتي (Luzzatti)، المفكّر والسياسي الإيطالي
اليهودي، معدّدا الانتهاكات الفظيعة التي قام بها الأوروبيون في الداخل
والخارج، والمفارقة الكبرى التي سقط فيها دعاة التسامح والانفتاح في فترة
ضعفهم ثم الانقلاب عليها وخيانتها حينما استمسكوا بزمام القوّة. فزعيم
الإصلاح، مارتن لوثر، نسي مبادئ التسامح التي نادى بها في البداية، نسيها
بالمرّة حينما تكلّم في اليهود والمسلمين. لقد أظهر قسوة لا تُتخيّل
ضدّهما "إن لسانه الناري ما فتئ يرسل ضدهما تكفيراته المتواصلة(26)" كما
يقول لوتزاتي. وقد كان أقسى من الكاثوليك ضدهم، بل ضد الفرق المسيحية
النابعة من حركته الإصلاحية: "الفِرَق، أليست هي إلهاما من الشيطان، وأليس
الشيطان من طبعه مجرما؟ إذن كل أصحاب الفرق يهددون السلم العام وبالتالي
فالأمراء يمكنهم معاقبتهم". والمُصلح الآخر كالفين ألم يُعدم المسكين
ميشال سيرفيت بتهمة نكرانه للثالوث؟ "إن تاريخ الإنسانية، يقول لوتزاتي،
زاخر بالمذابح؛ لكن أن يُقتَل إنسان لأجل معتقده هو أتعس، أبشع من قتله
لأجل أي سبب آخر… استخلاص الموت من السماء، أي أعظم الجرائم من أسمى
تعابير الرحمة: هذا هو المشهد الأبشع والأشد إيلاما (27)" . جميع البلاد
الأوروبية مارست الاضطهاد الديني، فرنسا مازالت تحمل إلى الآن آثار جرائم
"ليلة القديس بارتولومي"، والإسبان "هجّروا المسلمين واليهود(28)" الذين
طوّروا العلوم والمهن في ذاك البلد . قال بأنه كان على الأجيال الحالية من
الفرنسيين والإسبان التكفير عن مجازرهم البشعة التي اقترفوها ضد الشعوب
الأخرى. هذه القولة أفقدت الفيلسوف الهيجلي، كروتشي، رصانته وسرّح مكنة
سبابه وتهكماته الجارحة واصفا أطروحة صاحب النظرة المعيارية للتاريخ بأنها
"يهودية انتقامية، يجب تركها للوعّاظ، وهي فارغة من أي معنى. لا بل أقول
إنها لاأخلاقية، لأن من صراعات الماضي تلك وُلد عالمنا الحالي هذا، الذي
يدّعي الآن الوقوف أمام والده لسبّه أو، على الأقل، لوعظه." يعني أنه يكفي
أن تكون قد نبعت من صلب تلك المجازر الوحشية الحضارة الغربية الحديثة حتى
يخرس أي تقييم نقدي لأعمال الرجال في الماضي. هذه الماكيافلية المقرونة
بتعاليم هيجل هي التي أدت بـكروتشي في فترة من حياته إلى العماء أمام
الحركة الفاشية ومهادنتها لمدّة عشرين سنة.

أعود إلى المؤرخ التونسي وإلى الإشكالية التي شغلتنا إلى الآن والتي
نطلب لها حلا أو تفسيرا معقولا أو على الأقل افتراضا قابلا للتحقق لغرض
الإجابة عن تركيزه الدؤوب، خصوصا في كتاب الفتنة الكبرى، على دور الحرب
والغزوات في تكوين الدعوة الإسلامية. لا أدعي أنني عثرتُ على حل ولكن بعض
التحسّسات يمكن أن تقودنا إلى إيضاح لهذه المعضلة، وسيجدها القارئ في
خاتمة هذه المقال.

الحرب إذن هي القاعدة الأخلاقية التي على غرارها تُقاس مكانة الفرد في
المجتمع الإسلامي الأوّل، وهي بمعنى ما، كما يُنظّر إلى ذلك الكاتب،
المسار المحتوم للعرب ومنطلقهم في التعريف بأنفسهم على الساحة العالمية في
ذاك الوقت. ومرحى بالحرب والغزوات والسطو على أملاك الغير وسبي النساء إن
كان الغرض من ورائها تكوين أمة وتأسيس امبريالية لا تقل شراسة على
امبريالية البيزنطيين والساسانيّين. لقد قلبت الحركة الجديدة حياة الناس
في الجزيرة رأسا على عقب: انقلبوا على آلهتهم، هاجروا ديارهم، ابتعدوا عن
الروابط القبلية وبالجملة "حياة جديدة كانت تتفتّح أمامهم(29)." ولكن هذه
الحياة الجديدة لم تجعل منهم أناسا متزهّدين، بل قوّت فيهم روح النزاع
والحرب وجذرت من تطلعاتهم نحو الاستيلاء على أملاك الناس بالقوة: "كان
ينفتح لهم أيضا سبيل التعبئة الدائمة، والحركة العسكرية غير المنقطعة
والتضحيات(30)". وحتى طقوس العبادة لم تبث فيهم أي روح سلمية، طقس الصلاة
الذي من المفروض أن يكون أول رادع على أعمال العنف، أصبح في نظر جعيّط هو
المثال والنموذج الأقوم لشن الحروب "حياتهم بأسرها كانت تخضع للإسلام. إن
طقس الصلاة الإسلامية يتناسب بشكل رائع مع الحياة الجماعية والجهادية. إذ
أنها كانت تروّض شعبا مسلّحا بكامله، وتجعل العشائر والقبائل المتشردة
والمتعادية بالأمس، تخضع لنظام الركوع والسجود، كافة ومعا. والقرآن كان
يضع فيها نَفَسَه القوي. ففي عشية المعارك الكبرى … كان الليل بكامله
مخصصا للصلوات وقراءة القرآن. أو كان يتقدّم القرّاء قبل الهجوم ليقرؤوا
سورة الجهاد، وسط الصمت. ثلاث عشرة سنة من المعارك معا، تحت راية الإسلام،
في مناخ من الحماس المحموم، كوّنت "أمة"(31)".

لا أريد أن أشقّ على القارئ، ولكني لن أبالغ إن قلتُ بأنّ كتاب "الفتنة
الكبرى" من أوّله إلى آخره هو عرض كلاسيكي للحروب والمغازي، أي للنهب
والسلب والإثراء والحبّ المفرط للمال. انظر بأي برودة دم يَعرض أعمال
النهب التي اقترفها عثمان وذووه في حق الناس، وتكديسهم الأموال على حساب
الصالح العامّ(32).

بعد وفاة النبي طُرحت مسألة الحفاظ على انجازاته من دين ودولة، فجاءت
الأحداث كما سردها المؤرخون القدامى، والمؤرخ جعيط، لم يتدخّل إلاّ لإصدار
حكم إدانة ضد الأنصار لأن تصرفاتهم في حادثة السقيفة تنمّ، حسب رأيه، عن
نزعة انفصالية لا تأخذ بِعَين الاعتبار المصلحة العامة للمسلمين(33) .
ولولا تدخّل عمر الذي كان حاسما في تلك اللحظة الحرجة لما قامت الدولة
الإسلامية ولما كُتب لها التواصل والرسوخ. لكن في حقيقة الأمر سلوك
الأنصار الانفصالي، وعدم وعيهم بشمولية الدعوة الإسلامية، الذي كان قد
استنتجه من قبل، يضمحل في موضع لاحق ويُصبح الأنصار، فقط بعد انصياعهم
للأمر المقضي "مُفعمين بفكرة وحدة الأمة الإسلامية، نظرا لكل ماضيهم
القتالي الحديث في سبيل الله، برعاية نبيّه وفي كنفه(34)". ولا يهمّ أن
يكون اعترافهم بخلافة المهاجرين وعلى رأسهم أبو بكر جاء إثر ضغوط نفسية
وتهديدات قام بها عمر حيث أنه، كما يقول جعيط طبقا لرواية الطبري "خوّف
الأنصار بثقته واطمئنانه وعنفه(35)".

الأنصار تمّ تطويعهم، الفصائل المتناحرة وقع تحييدها وآل الحكم إلى أحد
أصحاب النبي بتزكية من طرف صحابي آخر. أين أهل النبي؟ وما موقفهم من هذه
المشاحنات والتكالب على الحكم؟ من المعلوم أن المؤرخين العرب انقسموا حول
هذه النقطة إلى قسمين: المؤرخون الشيعة أو ذوو الميول الشيعية أنكروا أن
تكون الخلافة من حقّ أبي بكر ونادوا بالتواطؤ مُتّهمين خصومهم بأنهم شطبوا
نصوصا بيّنة تثبت أن النبيّ أوصى بأن تكون خلافته لابن عمه عليّ؛ أمّا
مؤرخو السنة فقد وجدوا أنفسهم في مأزق وابتدعوا ما بعديّا، للردّ على
الشيعة قاعدة عامة وهي أن خلافة الرسول لا ينبغي بالضرورة أن تكون
بالوراثة فهي من باب المصالح الدنيوية التي تشترك فيها الأمة وتتم عن طريق
المبايعة لشخص يختارونه بمحض إرادتهم. وطبقا للحل المقترح والوجهة التي
يتجه نحوها المؤرخ يمكن حدس ميولاته الإيديولوجية وخياراته وانتقاءاته
للأحداث لتدعيم تحزّبه.

لكن من وجهة نظر علمية واجب المؤرخ هو طلب الموضوعية والتمحيص الدقيق
للشهادات، وتفادي أي تحزّب أو تعصب لفرقة دون أخرى. ومن المحتمل جدّا أن
الأحداث لم تقع على النحو الذي رواه الفريقين، قد تكون مصطنعة من رأسها
إلى أساسها، ولا تعدو أن تكون مجرّد تبرير ما بعدي لوجودهم ونضالاتهم
التاريخية. ليست لدينا دلائل أثرية بينة وثابتة تقطع الشكوك، وتقرّر فعلا
وجود هؤلاء الرجال، وربما أسطورة الأنبياء وخلفائهم، وأسطورة عليّ وبنيه
هي فعلا مجرّد أسطورة توازي أسطورية آلهة هوميروس.

ثم جاءت الردة التي هي حركة انفصالية خطيرة هدّدت بتقويض المشروع
النبوي من الداخل، فكان الحل هو أيضا حل مواجهة حربية، دون أي سبيل
للتفاوض أو التنازل الجزئي. نحن لا ندري كيف سارت الأمور بالضبط،
والمؤرخون القدامى، كما هو معلوم، خلطوا بين البعد التقديسي والبعد
الدنيوي للأحداث، ولا شك في أن تعاطفهم وميولاتهم كانت موجهة إلى تبرير
فرقة ضد أخرى، أي تبرير أعمال الخليفة أبي بكر الصديق. والمؤرخ المعاصر
عليه أن يتخذ الحيطة ويلتزم الحذر أقصى جهده كي لا يُعيد رسم الصورة
القديمة للأحداث وأن تنتابه بعض الشكوك حول مسارها الفعلي. لكن بالنسبة
لجعيّط كل شيء واضح وضوح الشمس: النبي محمد ترك عند وفاته "دينا مُكتملا
ودولة مهيمنة على الجزيرة العربية كلّها، مترابطين بشكل لا يقبل
الانفكاك(36)"، أي أنه ترك دولة ثيوقراطية تجمع بين الدين والسلطة
الدنيوية بحيث أن هذا النموذج السلطوي سيكون هو النموذج الأوحد لجميع
أشكال الحكم اللاحقة. وفعلا حسب منطق تحليلات جعيط فإن هذا الأمر هو الذي
جعل كل شيء ممكنا، أعني أنه بدون الحركة النبوية ما كان للعرب "أن
يتوحّدوا ولا أن ينتظموا ويرتفعوا إلى درجة أخلاقية أرفع، وبالتالي ما كان
يمكنهم أن يدخلوا في التاريخ. وعلى هذا النحو، كانت النبوة تطرح نفسها
كأمر يمدّ العرب بأخلاقيةٍ وبوحدة وبمصير(37)".

إذن بخصوص أهل الردة، الذين لم يثوروا ضد الدين، كما يقول جعيط "لم يكن
العنصر الديني في صفائه هو الذي يضايقهم تماما". ما الذي يضايقهم إذن؟
"كان يضايقهم البعد الدولي بشكل أشدّ، بُعدُ دفع غرامة". فعلا ما الداعي
إلى إثقال كاهل الناس بغرامات مالية وقد أذعنوا للدين الجديد ولم يظاهروا
العدو أو يتآمروا ضد أسيادهم الجدد؟ إن الدعوة المحمدية التي قال جعيط
بأنها تصبو إلى خلق حسّ قومي عربي وإلى زرع الفضيلة والرفع بأخلاقيات أهل
الجزيرة العربية، كل هذه العوامل تحتم أن يُترك الناس في شأنهم بعد أن
دخلوا الدين الجديد وانصاعوا لأوامره. لكن أبا بكر حسب جعيط له تصور آخر
للأشياء "الدولة والدين شيء واحد، والدين واحد، ويجب أن تبقى الأمور كما
تركها النبيّ(38)". ومن المتوقع أنه طبقا لهذه النظرة الثيوقراطية الصلبة
لسياسة الدولة فإن الخليفة الأول سيُجابِه القضية لا بالتفاوض بل بمنطق
القوة المعمّم، فعلا، حسب جعيط،
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

خواطر حول التاريخ المقدس :: تعاليق

هشام مزيان
رد: خواطر حول التاريخ المقدس
مُساهمة السبت أكتوبر 30, 2010 1:23 pm من طرف هشام مزيان
أفترض
أنّ القارئ مُلمّ بأسس التاريخ الإسلاميّ عموما، وله معرفة بالسيرة
النبوية وبأدبيات المغازي في خطوطها العريضة. لن أتوقّف عند التفاصيل،
وأحاول الولوج في صلب الموضوع انطلاقا من عمل تاريخيّ حديث، وأقصد كتاب
"الفتنة الكبرى" للمؤرّخ التونسيّ هشام جعيط.

1- أطروحات المستشرقين:

يستهلّ جعيط عمله بنقد أطروحات المستشرقين، ويخصّ بالذكر نظرتهم
للسيرة النبوية وللدوافع الثاوية وراء الدعوة المحمدية. جعيّط يرى أنه "من
المستحيل الاعتقاد، مثلما فعل عدد من المستشرقين، أنّ الدعوة المحمدية
طيلة 13 سنة كانت ذات أهداف سياسية أي الهيمنة على مكة"، لأنّ المسألة
التي صادفها النبيّ حسب رأيه "هي مسألة دينية وثقافية، لا علاقة لها
بالتجارة أو بالسياسة. وشيمة اتجاهه الروحي، كانت دعوته دينية أولا،
وثقافية ثانيا. كانت ثقافية من حي
احمدي نجاد
رد: خواطر حول التاريخ المقدس
مُساهمة الإثنين فبراير 14, 2011 12:59 pm من طرف احمدي نجاد
أطروحات المستشرقين:

يستهلّ جعيط عمله بنقد أطروحات المستشرقين، ويخصّ بالذكر نظرتهم
للسيرة النبوية وللدوافع الثاوية وراء الدعوة المحمدية. جعيّط يرى أنه "من
المستحيل الاعتقاد، مثلما فعل عدد من المستشرقين، أنّ الدعوة المحمدية
طيلة 13 سنة كانت ذات أهداف سياسية أي الهيمنة على مكة"، لأنّ المسألة
التي صادفها النبيّ حسب رأيه "هي مسألة دينية وثقافية، لا علاقة لها
بالتجارة أو بالسياسة. وشيمة اتجاهه الروحي، كانت دعوته دينية أولا،
وثقافية ثانيا. كانت ثقافية من حيث أنها كانت تريد بوعي أو بلا وعي … أن
تعطي للشعب العربي كتابه المقدس، نبيّه، مؤدّبه الدينيّ والأخلاقيّ الذي
يكون بإمكانه غدا، يوم القيامة، أن يقول لله: هذه أمّتي، تلك التي
اتبعتني، لقد أنذرتها وآمنت بك(1)".
 

خواطر حول التاريخ المقدس

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» نقد التاريخ المقدس عند هشام جعيط
» خواطر هائمة ـ نص : منير أختار
» نتعلم من التاريخ أن لا أحد يتعلم من التاريخ – تذكرت هذه الشذرة للفيلسوف (هيجل ) وأنا أطالع الحكم الصادرمن محكمة القاهرة للأمورالمستعجلة بأزالة أسم وصور مبارك وزوجته سوزان من الميادين والساحات والشوارع و المدارس و المكتبات والمنشآت العامة الكائنة بجميع أنح
» صناعة المقدس
»  النصب والاحتيال في الكتاب المقدس

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: