[size=10]302[/size]
مقدمة:
ربما قد تخوننا حواسنا البسيطة وحتى الواسعة في مساءلة الطبيعة وإرغامها على أن تنكشف، لكن لن تخوننا لا حواسنا ولا عقولنا في الحكم على عصرنا هذا بأنه عصر الغياب التام للمعنى[1]، عصر الإنسان الذي أصبح يعرف كل شيء ولا يعرف أي شيء، وعصر الفرد الذي يجد نفسه حائرا بين أن يكون مع اليمين أو اليسار، وبين أن يكون مع أنصار الحق أو الغارقين في الخطأ، والذي خلق كل هذه الأسباب هو المقدس أيا كانت تجلياته. فباسم المقدس يفرض الإنسان على أخيه الإنسان نظاما سياسيا يصنعه بنفسه ويختلق معه أفكارا على أساس مصالحه، فلا ينظر لاختلافات وحاجيات الباقين، باسم المقدس يدعو الإنسان أخاه بحمل السيف المادي إراقة دم كل من كان مخالفا هرطوقيا في رأيه لا يسايرهم. فإذا أراد الفرد أن يفكر في المقدس يقابل بالتهديد باللعنة الإلهية الخراب في حياته، إذا أراد أن يناقش مسألة ما في ذلك النظام الذي يختلقه الإنسان يهدد بالقتل الفوري، في كلتا الحالتين يكون منزوع الحرية الاختيار، فلا يستطيع أن يبني فكرة ما لا حتى أن يتصرف في جسده كما يشاء.
إن المقدس يرجعنا - نحن في ق 21 - مع الأسف إلى ق 16، حيث نلاحظ نفس الخطابات الاتهامات الحوارات التي كانت في عصر الإصلاح نفسها تتكرر في عصرنا، الأمر الذي يدفعنا إلى التساؤل عن سبب استمرار المقدس مشاكله إلى حدود الآن[2]، كأن كالفن لا زال حيا يحاور الطبيب الإسباني ميشال سرفيه، بل كأننا لا زلنا أجمعين في القرن 16 ولم نتقدم خطوات ولا زمانا لكي نصل إلى عصرنا هذا. وعليه، فإن سبب استمرار هذا المقدّس إلى حدود الآن هو ما دفعنا للبحث عن طبيعة المقدس لنرى ما إن كان في جوهره ما يفوق أو يقوى على الإنسان مقاومته أو العكس، كذلك البحث عن طبيعة الإنسان لنقف عند سؤال الجوهر، نرى ما إن كان هذا الإنسان هو الذي يصنع ما لا يقوى على مقاومته أم أن جوهره بعيد كل البعد عن هذه الصناعة. و إذا كان السحر الأكثر تكيفا وحفاظا على بقاء الجنس البشري، فإن العلم أصبح الآن هو الأكثر حفاظا له[3]، وبالتالي إذا اخترنا أن نغير هذا الواقع المليء بالمشاكل باللجوء إلى المقدس، فإننا لن نزيد إلا الطين بلة، ولكن إذا اخترنا وجهة العلم، فإننا نكون قد وضعنا عقولنا في المسار الصحيح، والذي لن يؤدي بنا إلا بقبولنا تقبلنا للآخر، بالسعي جميعا نحو إيجاد بيئة تعايشية يحيا فيها الكل في سلام وئام بدل البحث عن زمان واحد مكان واحد كجماعة واحدة. لقد اخترنا في هذه الوجهة فيلسوفا إنسانيا اسمه لودفيج فيورباخ Ludwig Feuerbach لينيرنا وينير المناطق المظلمة للدين[4] حتى لا نقع ضحية للقوى المعادية التي تستفيد من غموض الدين لتقهر به الجنس البشري. أولا: طبيعة المقدس
إن الحديث عن طبيعة شيء ما هو حديث يجرنا بالأساس إلى حصر مجال القول في الفيزيقا، والذي يحصرنا بدوره داخل مبحث الجوهر، فعندما نتساءل عن طبيعة شيء ما، فإننا نسعى إلى تحديد جوهره. وبالتالي فما جوهر هذا المقدس؟ وهل يمكن تعريفه بذاته أم فقط بالعلاقة مع مفاهيم أخرى منافسة ومعارضة له، من مثل المحرم والمدنس العجيب الطاهر النجس؟ هل يوحي المقدس بالإلهي أم أنه مكون سيكولوجي للذات الإنسانية يتخذ شكل استيهامات وأوهام إسقاطية؟ وهل يعيش المقدس تقهقر قوته انطفاء شعلته من جراء تأثير الحضارة العلمية التقنية، أم أنه يتعرض لتشوهات يعرف تحولات؟[5] أ- المقدس: مقولة إحساس / معارضته للدنيوي / فكرة
إذا اخترنا أن نفكر على طريقة الإنسان المتدين، فإننا سنقول إن أية محاولة من شأنها رسم حدود مفهوم المقدس هي إبطال لمفعول قدسيته، بل إنه شكل من أشكال انتهاك المحرم بالفعل، ذلك أن البحث فيه يحوله إلى موضوع يشبه جميع موضوعات الفكر، موضوع يقال باللغة ويفكر بها وفيها، مما يخضعه لمنطقها وعقلانيتها الداخلية، فيدخل المقدس ما هو غريب عنه متعارض معه. إنه ما لا يمكن الإمساك به لا تعريفه بالنسبة إلى المؤمن. وعليه، فإن تعريفا كهذا يجعلنا نقف عند أهم التحديدات التي أعطاها روجيه كايوا Caillois Roger للمقدس، باعتباره يشكل إحدى مقولات الإحساس sensibilité، المقولة التي ينبني عليها السلوك الديني، فتمنحه خاصته النوعية تفرض على المؤمن شعورا مميزا بالاحترام يحصن إيمانه ضد روح النقد، كما تجعله بمنأى عن الجدل العقيم، بوضعها إياه خارج نطاق العقل وما وراءه[6]. إن حساسية المقدس حسب روجيه كايوا بمثابة طاقة أو قوة داخلية في الإنسان تجعل من الوقوف على جوهره أمرا في غاية الصعوبة، لأنه غامض ومنحصر داخل جوانيته. لكننا الحالة هذه، لا نريد طرق مبحث المقدس من باب اللاهوت، بل إن مسعانا مرمانا هو طرقه من باب العلم لكي نقف عند ماهيته الحقيقية نتجاوز الحدود التي يضعها أولئك الذين يزعمون بامتلاك الحقيقة الدينية وبكونهم وحدهم القادرون على تفسيرها، كأن معناه وجوهره دلالته تتحدد في اللفظ فقط. فما يدعونا اللاهوت الإنسان المتدين لعدم الحديث فيه سنتهجم عليه بالسؤال نقتحم مجاله بالفلسفة العلم معا، عليه فإن وجهتنا الآن ستكون هي السوسيولوجيا. يحدد إميل دوركهايم قدسية المقدس بما يعارضها بشكل كامل عن مجال المدنس؛ فالمقدس لا يلتقي بالمدنس إلا لكي ينتفي أحدهما ويظل الآخر قائما، وبذلك يتشكل كل طرف بوصفه نظاما خالصا متجانسا مختلفا معارضا موازيا للطرف الآخر، بقدر ما يحيل المقدس داخل سياقه بتعارضه مع المدنس إلى ما هو طاهر خالص، فإن المدنس يحيل إلى ما هو نجس رجس. إن المقدس في تصور دوركهايم متماثل مع الإلهي، الإلهي ابتكار جمعي، لذلك مميز بالتعالي عن حياة الأفراد.[7] لأنه كذلك فهو مجال محفوف بالمخاطر، يخافه الإنسان يرغب فيه، يصاب بالشلل الارتباك بمجرد الدخول فيه، لأنه بمنزلة السائر على شفير الهاوية مهدد بالهلاك لدى أقل انحراف. أما المدنس، فيرتبط بكل ما هو دنيوي، يتحرك فيه الإنسان بعيدا عن كل قلق ورعدة، يمارس أعماله نشاطاته بحرية.[8] إن تعريف المقدس بتعارضه مع المدنس يطرح إشكالا في تعريفه، حيث تقول الباحثة ماكريوس: "حينما نتحدث عن المقدس في الإثنولوجيا، فإن تعريف ما يناقض هذا المفهوم ينقصنا، فيظل مبهما ما لم نحدد نعرف ما يناقضه يعارضه بالذات[9]، بالتالي فعندما نعارض المقدس بالمدنس ينبغي أن نتساءل عن المدنس السائد في مجتمع من المجتمعات؟". وإذا كان المقدس الدنيوي بمثابة عالمين متضادين متعارضين، فإننا نجد كل واحد منهما على الرغم من ذلك يميل إلى الطرف الآخر؛ فالمقدس من حيث قابليته للتفشي يقوده الانصباب الفوري على الدنيوي حتى ليهدد بتدميره سفح ذاته بلا جدوى. أما الدنيوي من حيث حاجته إلى المقدس تحذوه إلى الاستيلاء عليه حتى لينذر بتجريده من قدسيته الانحلال هو نفسه في العدم.[10] بالتالي يصبح تنظيم علاقات هذين العالمين أمرا أساسيا، تلك هي تحديدا وظيفة الطقوس التي نميز فيها بين نوعين من الوظائف؛ أحدهما إيجابي يتولى مهمة تحويل طبيعة كل من الدنيوي المقدس بحسب حاجات كل مجتمع، يتضمن طقوس التقديس التي تدخل كائنا أو شيئا ما إلى العالم المقدس، طقوس إبطال التقديس désacralisation أو التكفير expiation التي تعيد، بالعكس شخصا، أو شيئا طاهرا أو نجسا إلى العالم الدنيوي، بينما الثاني سلبي يهدف إلى إبقاء كل من العالم المقدس العالم الدنيوي ضمن نطاق كينونته الخاصة مخافة أن ينشأ بينهما احتكاك غير مناسب، يؤول بهما إلى التلاغي، يشتمل على التحريمات prohibition التي تنصب بين العالمين المذكورين حاجزا عازلا يقيهما شر الكارثة المحتملة.[11] وإذا حددنا مفهوم المقدس بتعارضه مع الدنيوي الذي يتضمن كل ما هو دنس ورجس، فهل هذا الأخير هو من يمنحه قداسته؟ إن سؤالا كهذا يجيبنا عنهروجيه كايوا كاشفا من خلال إجابته عن طبيعة المقدس الحقيقية، فهو خاصية عابرة لبعض الأشياء (أدوات العبادة) أو الكائنات (الملك الكاهن) أو الأمكنة (يوم الأحد، عيد الصفح)، وليس هناك ما لا يصلح ألا يكون مقرا أو محلا للمقدس يخلع عليه سحرا لا يضاهى في نظر الفرد الجماعة ولا هناك ما يتعذر نزعه منه، فليس المقدس صفة تملكها الأشياء في حد ذاتها، بل عطية سرية متى فاضت على الأشياء أو الكائنات أصبغت عليها تلك الصفة.[12] بالتالي، فكل من الملك والإله ليسا مقدسين في ذاتهما بل نحن من يمنحهما القداسة، ولأنهما يصبحان مكرسين، فإن طريقة التصرف تتغير تجاههما، حيث يستحيل التعامل مع الإله مثلا بحرية نظرا لما يبعثه في النفس من مشاعر الرهبة الإجلال، إنه يبرز كمحظور محفوف بالمخاطر، كل من أراد دخول عالمه في ألفة تهدد بأن تجر عليه الوبال، لاسيما أن عدوى المقدس تنقض انقضاض الصاعقة لا تقل عنها فتكا وهولا، إلا أنه على الرغم من خطورته، فإنه يظل مجالا مرغوبا فيه، يسعى من خلاله الإنسان التقرب إلى هذه القوة الخفية التي يمتلكها المقدس عبر تزهده لكي يضمن لنفسه هامشا موازيا من الإمكانات الفائقة الطبيعة[13]، يحقق النجاح في مشاريعه. وإذا كان التقديس بمثابة عطية تمنح، فليس هناك في الوجود سوى الإنسان الذي في إمكانه أن يمنح هذه الخاصة العابرة لشيء ما، كما في إمكانه أن ينزعها منه متى شاء. إنه بهذا المعنى يصنع وينتج المقدس، لكن ليس الأشياء والأماكن الأزمان، بل إنه ينتج فكرة التقديس[14]، وهي التي تظل ثابتة لا عابرة، فالشيء أو الكائن أو الزمن يقدس في حين وتنتزع منه قداسته في حين آخر، بينما تبقى فكرة التقديس هي الثابتة. ب- المقدس قتل للحرية الإنسانية:
كيف يقتل المقدس حرية الإنسان؟ من الذي يجعله خطرا على استقرار وحفظ نظام العالم؟ هل في ماهيته ما يدفعه إلى ذلك؟ إذا كان الإنسان من يمنح القداسة للشيء أو للكائن، فكيف يشعر بعدم الاطمئنان، وهو خالقه؟
إن العالم المقدس يتحدد منذ البداية حسب روجيه كايوا باعتباره عالما محفوفا بالمخاطر، يصاب فيه الإنسان بالشلل والارتباك يعيش مهددا بالهلاك لدى أقل انحراف ممكن، لكي يقي نفسه من رعب وشر هذا المقدس يحفظ النظام الكوني، فإن عليه إلزام نفسه بالتحريمات كمجموعة نواهي ينبغي عليه بالضرورة أن يتفاداها حتى لا يكون الكون فريسة للكوارث والنكبات، غير أن هذا الإلزام لوحده لا يكفي الإنسان ليظفر بحياة سعيدة ومطمئنة، بل عليه أن يتقيد بمجموعة ممارسات طقسية أخرى أساسها فصل الذات عن العالم الدنيوي، بمعنى أنه ينبغي عليه أن يتخلى عن كل ما هو إنساني قبل الولوج إلى ما هو إلهي دونما خطر أو أذية، مما يجعل من شعائر التطهير هاته بالدرجة الأولى ممارسات سلبية تصنف في خانة الإمساك الامتناع، التي تتمثل في الإعراض عن كل ما يميز الوضع الدنيوي من نشاطات كالطعام النوم مجالسة الآخرين العلاقات الجنسية... باختصار فعلى هذا الإنسان أن يتنهد فيحرم نفسه من كل ملذات الحياة لكي يضمن لنفسه إمكانات فائقة الطبيعة.
إن هذا المقدس بتحريماته ممارساته الطقوسية تجعل من الإنسان لا إنسانا، بمعنى آخر شيئا كباقي الأشياء، فإذا أراد أن يضمن العون التوفيق من المقدس يجد نفسه مرغما كي يحرم ذاته من كل ملذات الحياة، إذا أراد أن يتفادى خطورة هذا المقدس عليه كما أشرنا أن يلتزم بمجموعة من التحريمات التي تحد من سلوكياته أفعاله. إنه في كلتا الحالتين منزوع الحرية الاختيار، ففي كل وضع يجد نفسه مجبرا على أن يؤدي شيئا أو يتخلص منه، في جملة واحدة يجبر على قتل إنسانيته حتى يحيا حياة من نوع آخر.
ثانيا: طبيعة الإنسان
عندما نكتشف أن الإنسان هو الذي يصنع المقدس يضع حواجز موانع لحريته، يحمل نفسه على الموت رمزيا عن الحياة البشرية لكي يولد إلها من جديد، نحتار في تحديد طبيعة هذا الكائن، فإذا كان الإنسان عاقلا العقل من خاصته الحرية، فكيف لهذا الكائن المفكر أن يضع حدا لحريته؟ هل هذا الحد بمثابة حرية؟ إذا كان الإنسان كائنا رغوبا يلتذ بالأشياء التي يحبها، فكيف لهذا الكائن الراغب أن يجتث يقتلع رغباته من جذورها؟ إن أسئلة كهذه لا تزيدنا إلا قلقا حيرة، تناقضا، توحي لنا بأن هناك حقيقة ما غائبة. إننا في مشكلة إذن، ما دمنا نعيشها، فإن البحث عن أصلها أو تفكيكها يشكل مسعانا في نفس الوقت سعادتنا. فيا ترى من سيمد لنا يد العون في مسعانا يحقق لنا سعادتنا.
يجيبنا فيورباخ بأن الطبيعة الجوهرية للإنسان هي الدين، هي سبب كل هذه المشاكل والتناقضات الحاصلة، هي التي دفعت فيورباخ إلى أن يهتم بالدين، حيث نجد أن كل أبحاثه كتاباته تهدف إلى دراسته تحليله تحريره من قبضة اللاهوت، هو ما يظهر حقا حينما يقول: "لقد كان شغلي دائما قبل كل شيء أن أنير المناطق المظلمة للدين بمصابيح العلم، حتى يمكن للإنسان أن لا يقع ضحية للقوى المعادية التي تستفيد من غموض الدين لتقهر الجنس البشري"[15]، ما دام أنه يقترح علينا مقاربة الدين من زاوية العلم، فإنه يستبعد الأفكار التي يقوم عليها الدين عند اللاهوت، حيث يجعلون من جوهره الألم العذاب جحيم الحياة الأخرى[16]، فيقهرون به الجنس البشري، يحولون بصرهم بالمطلق من الأرض نحو السماء، تصبح الحياة في نظرهم هناك لا هنا، يصبح "الهنا" كل شيء فيه مشوها ناقصا زائلا. إن اللاهوتيين إذن هم سبب المشاكل التناقضات لذلك يستعيد فيورباخ مسلكهم يلجأ إلى العلم الذي يضع كل شيء موضع تساؤل، فيأزمه ويختبره ليرى إن كان حقا ما يقولونه أولئك اللاهوتيون بصحيح أم بخطأ. بالتالي فما هو جوهر الدين الذي يقدمه لنا فيورباخ نتيجة لمقاربته العلمية؟ ما هو أساسه؟ ما غايته؟ أ- الله صورة الإنسان:
إن الله كما يتصوره الدين الموضوعي (اللاهوت) هو كائن متعال على الإنسان ومختلف عنه، حاكم للطبيعة خاضعة له، لكنه من وجهة نظر الدين الذاتي فلا يمكن أن يكون هذا الكائن متعاليا خارج الوعي الإنساني، فهو غير موجود وغير حي إلا في هذا الإنسان. إن مثل هذا الدين الموضوعي يتصدى له فريدريش هيجل بالنقد، فيدعو إلى أن يكون الدين عبارة عن قوة حية تزدهر في الحياة الواقعية للأفراد لا أن يكون لاهوتيا متعلقا بفكرة الآخرة فقط، كما أنه يدعو إلى أن يكون الدين دنيويا إنسانيا يمجد الفرح الحياة الأرضية لا الألم والعذاب جحيم الدار الآخرة، عليه فإن الدين الحق هو الدين الذاتي لأنه يتعلق بالقلب ويتصل بالعواطف المشاعر يتحول إلى أفعال أعمال. في نفس الطرح سيذهب فيورباخ ليعتبر الدين بمثابة سلوك الإنسان تجاه ذاته، هذا السلوك يبدو كأنه موجه صوب جوهر آخر خارجه (الله) الذي ليس إلا الجوهر الإنساني نفسه أو بعبارة أخرى جوهر الإنسان منفصلا عن حدوده الفردية؛ أي منفصلا عن الوجود الإنساني المادي الذي ينظر إليه بالتبجيل كجوهر فردي مميز عن من يراه[17]، من ثم فإن كل صفات الجوهر الإلهي هي صفات جوهر الإنسان في أقصى درجات كمالها، بمعنى آخر أن الله ليس سوى الإنسان نفسه، هذا ما لم يذهب فيه هيجل، حيث نظر إلى صلة الله بالإنسان على أنها المشكلة الأساسية في الدين في حين نجد لدى فيورباخ محاولة أخرى مختلفة عن سابقه تقوم على رد الروح المطلق نفسه إلى الروح البشرية. لكن كيف ينتج الإنسان هذا الكائن المسمى بـ "الله" أو من أين يأتينا؟ إن الله بحسب فيورباخ هو نتيجة لتجريد الإنسان من سمات الطبيعة البشرية خاصة، من مميزات الجنس البشري وذلك بجعلها كينونة حقيقية، فقد حاول البشر في نظره تحقيق مثلهم العليا صفات الكمال فيهم، إلا أنهم لم يستطيعوا تحقيقها فيهم، فتوجهوا مباشرة إلى خلق الله متناسين أن هذه الصفات والمثل ممكنة التحقق في الجنس البشري ككل وليست في كائن منفصل بعيد عن البشر أنفسهم.[18] وإذا كان الإنسان واقفا أمام المرآة، فإنه لن يرى فيها إلا صورته، فهكذا الأمر بالنسبة إلى هذا الكائن المسمى بـ "الله" فهو بمثابة مرآة لا تعكس إلا صفات النوع البشري. بالتالي حينما يتحدث الإنسان عن نفسه، فإنه في الحقيقة لا يتحدث إلا عن نفسه. سبب آخر يقود هذا الإنسان إلى خلق "الله" هو ضعفه فقره، فعندما يحتاج إلى المطر أشعة الشمس لنمو النباتات والأشجار ويتمنى الغيث في زمن الشح ثم أشعة الشمس في وقت المطر، فإنه لا يملك الإرادة ولا السبل لتحقيق كل هذه الأماني، فيحاول تربيتها من خلال الدين؛ أي من خلال التضرع إلى الآلهة، بمعنى ما لا يستطيع الإنسان تحقيقه بجسده، يحققه بأمنيته، "فكم هو جميل ورائع حقا أن يكون هناك إله فاطر للكون ذو عناية، رؤوف، نظام أخلاقي للكون حياة ثابتة، لكن المثير للفضول فعلا أن يكون هذا كله هو بالتحديد ما يمكننا أن نتمناه لأنفسنا".[19] إن جوهر "الله" بهذا المعنى بمثابة أحلام أماني آسرة في قلب الإنسان ليس إلا. خلاصة:
ب- الله هو الطبيعة:
إذا سألت لاهوتيا عن من هو الله؟ فسيجيبك ويؤكد على جوابه بأن الله حاكم للطبيعة، وفيه تجتمع كل العناصر، أنه أصل الحياة العضوية، به نفسر كل المراحل التي اجتازتها هذه الحياة. إلا أن إجابة كهذه لن يقبلها فيلسوف إنساني ك فيورباخ، حيث يدعو إلى عدم فسح المجال لكل هذه التأويلات التي يصنعها اللاهوتيون لخداعنا وعدم السماح بهذا الخداع حتى لا نحول بصرنا من الأرض نحو السماء. بالتالي فما علينا كما يقول فيورباخ؛ إلا أن نضطلع بمهمة جمع الكنوز التي بعثرها أولئك المتدينين لحساب السماء. فإذا كانوا يزعمون بضرورة مزج العناصر الطبيعية في عنصر واحد كلي كبرهان على وجود حاكم للطبيعة مختلف عنها، فإن فيورباخ يعتبر زعمهم هذا بأنه "ناتج عن سبب جهلهم بالطبيعة، فهم لا يعرفون أن العناصر الأشياء المادية مهيأة تمام التهيؤ لأن يجتذب الواحد منها الآخر ويتحد في كل جديد"[20]، إذا كانوا يعتقدون بأن أصل الحياة غير قابل للتفسير فينسبونه إلى الله، باعتباره عملا معزولا، فإن فيورباخ يدعوهم إلى التوقف عن هذا الاعتقاد باعتبار أن أصل الحياة العضوية هو وليد العمل اللحظة التي تلتقي فيها درجة الحرارة الهواء الماء الأرض مثل هذه الصفات، حيث يدخل الأوكسجين الهيدروجين الكربون النيتروجين داخل هذه التركيبات كأشياء ضرورية لوجود الحياة العضوية، بالتالي فمن التناقض بحسب فيورباخ أن نعتبر الطبيعة نتاجا لكائن أسمى من الناحية الروحية، ذلك أنه لو كان الأمر كذلك بحسبه فإن "كينونة المخلوق ينبغي أن تأتي كصورة للخالق، أي عوض أن ينشأ الطفل في ذلك العضو المخزي الهابط، وهو الرحم ينبغي له أن ينشأ في أعلى الأماكن تنظيما وهو الرأس".[21] إن الطبيعة هي الموضوع الأصلي والأول للدين عند فيورباخ، ولما كانت كذلك فإن شعور الإنسان بتبعيته للدين ما هو في الأصل إلا شعور بتبعيته للطبيعة، التي لا يستطيع أن يحيا بدونها. وإذا كان الإنسان يؤمن بكائن مختلف مستقل عنه، والذي ليست له طبيعة بشرية ليست له صفات بشرية، فإن ذلك الكائن ليس شيئا في الحقيقة سوى الطبيعة، عليه فإن كل الأسماء التي يمنحها هذا الإنسان لكائن متخيل ما هي في الأصل إلا صفات سمات الطبيعة ذاتها، فالله كما يعتقده اللاهوتيون هو أكثر الكائنات قوة أو بالأحرى فهو القدير، يستطيع أن يفعل ما لا يستطيع الإنسان ما يتجاوز قواه المحدودة، يتضح ذلك عندما يقول الله لجوب: "أتستطيع أن تثني أشكال التأثير الجميلة لبلاديس أو تحل أحزمة أوريون؟ هل تستطيع أن ترسل البرق فترسل إليك تقول ها نحن قد أتينا؟ هل أعطيت الحصان قوة؟ هل يطير الصقر بواسطة حكمتك؟ هل لك ذراع كالإله؟ هل تستطيع أن تحدث صوتا كصوت الرعد؟ كلا الإنسان في نظر فيورباخ لا يستطيع أن يفعل هذا، فالصوت الإنساني لا يمكن مقارنته بالرعد، لكن القوة التي تظهر قدرة الحصان قوة الرعد طيران الصقر الطريق غير المستقر نحو بلاديس ما هي إلا قوة الطبيعة".[22] إذا كان الله بالنسبة إلى اللاهوتيين عبارة عن كائن خالد لا يفنى، فإنه لا يوجد في الحقيقة من كائن خالد سوى الطبيعة، حيث يموت جيل ويعقبه جيل آخر، في حين نجد أن الأرض الشمس الماء خالدين إلى الأبد.[23] كما أن الله لديهم هو الكائن الرحيم العطوف على الجميع، لأنه يجعل الشمس تشرق على الخير الشر يرسل المطر للعادل الظالم، لكن أمن جوهر رحمة هذا الكائن أن لا يميز بين الخير الشر العادل النظام؟ فمثل هذا الكائن الذي لا يميز بين الخير الشر بين العادل الظالم ليس شيئا آخر سوى الطبيعة.[24] فكرة أخرى يؤمن بها اللاهوتي، وهي أن الله كائن يحتوي على الكل، وكلي غير قابل للتغير، غير أن هذا الكائن الذي لا يتغير بحسب فيورباخ هو نفسه الشمس التي تشرق على كل الناس على كل الكائنات، هو نفسه الأرض التي تحملها كلها.[25] إذا حاولت التفكير في هذا الكائن المتخيل (الله) فإنك ستواجه بمقولة لاهوتية مفادها أن الله كائن غامض لا يمكن إدراكه البتة، لكن أليست الطبيعة كما يقول فيورباخ بالنسبة إلى الإنسان خصوصا المتدين كائن غامض لا يمكن إدراكه حسيا؟ إن الإنسان مهما حاول أن يبدع أسماء صفات في غاية الكمال يحققها في كائن سام، فإنه لا يعبر إلا عن الطبيعة التي هو جزء منها، التحليل العلمي العقلي الذي قام به فيورباخ يكشف لنا بشكل جلي تعبير أسماء الإنسان عن صفات الطبيعة، فليس هناك من شيء آخر سوى الطبيعة، فنحن كما يقول فيورباخنعيش داخل الطبيعة وعلى الطبيعة بواسطة الطبيعة، فهل يجب علينا مع ذلك أن لا نكون منها؟
خلاصة:
خاتمة:
إننا بقراءتنا لـفيورباخ نكون أمام اختيارين؛ فإما أن نقلل من قيمة أنفسنا إلى مستوى الحيوان، إما أن نرتفع بدافع وعينا كرامتنا إلى مرتبة الآلهة. لاشك أن كل منتم إلى الجنس البشري سيلجأ إلى الاختيار الثاني.
إن الارتفاع إلى مرتبة الآلهة حتى التساوي معها لا يمكن أن يتم بحسب فيورباخ إلا بمصابيح العلم الذي يحرر الإنسان لا يأسره، يسعده لا يقهره. إن العلم والمعرفة وحدهما من يستطيعان أن يكشفا لنا أن للمقدس صناعة لها شروطها وقوانينها وأهدافها الخاصة، إنها صناعة تخضعنا للقبول بالتناقض، تناقض يمكن تحديده في قضيتين اثنتين:
القضية الأولى: الإنسان هو الصانع لفكرة التقديس
القضية الثانية: الإنسان هو الخاضع للمقدس أيا كانت تجلياته.
وحتى لا يكون هناك تناقض ما كان من الواجب أن يكون هذا الإنسان حرا غير مقيد بأمر ما دام هو الصانع وليس العكس. إن مجال المقدس، باعتباره مجال الأخلاق والسياسة نشهد فيه الغياب التام للمنطق بما هو علم نظري يمد العلوم بالقوانين التي ترشدها نحو الصواب وتبعدها عن دائرة الخطأ، وهذا الغياب هو الذي يترك مجالا واسعا لحصول التناقضات على مستوى الأقوال والأفعال وينبهنا إلى أهمية التأسيس المنطقي لهذه العلوم العملية (الأخلاق والسياسية).
إن هذا التناقض الذي يحصل على مستوى صناعة المقدس يدفعنا في الأخير إلى أن نتساءل: هل الإنسان مجبول على التقديس؟ هل يستحيل عليه أن يحيا دون تقديس شيء ما؟ هل يمكن ان نتحدث بناء على هذا عن مرض التقديس؟
بقلم رشيد طالع