عجائب النحلالله.. (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (طه/ 50).
يقول ابن القيم – رحمه الله -: "وأمر النحل في هدايتها من أعجب العجب، وذلك
أنّ لها أميراً ومدبِّراً وهو اليعسوب، وهو أكبر جسماً من جميع النحل،
وأحسن لوناً وشكلاً. وإناث النحل تلد في إقبال الربيع، وأكثر أولادها يكون
إناثاً، وإذا وقع فيها ذَكَرٌ لم تدعه بينها، بل إما أن تطرده وإما أن
تقتله، إلا طائفة يسيرة منها تكون حول الملك، وذلك أنّ الذكور منها لا تعمل
شيئاً ولا تكسب. ثمّ تجمع الأُمّهات وفراخها عند الملك فيخرج بها إلى
المرعى من المروج والرياض والبساتين والمراتع في أقصر الطرق وأقربها، فتجني
منها كفايتها فيرجع بها الملك، فإذا انتهوا إلى الخلايا وقف على بابها ولم
يدع ذكراً ولا نحلة غريبة تدخلها، فإذا تكامل دخولها دخل بعدها ووجدت
النحل مقاعدها وأماكنها، فيبتدئ الملك بالعمل كأنّه يعلمها إياه، فيأخذ
النحل في العمل ويتسارع إليه، ويترك الملك العمل ويجلس ناحية حيث يشاهد
النحل، فيأخذ النحل في إيجاد الشمع من لزوجات الأوراق والأنوار، ثمّ تقتسم
النحل فرقاً فمنها فرقة تلزم الملك ولا تفارقه ولا تعمل ولا تكسب، وهم
حاشية الملك من الذكورة، ومنها فرقة تهيئ الشمع وتصنعه، والشمع هو ثقل
العسل، وفيه حلاوة كحلاوة التين، وللنحل فيه عناية شديدة فوق عنايتها
بالعسل، فينظفه النحل ويصفيه ويخلصه من أبوالها وغيرها، وفرقة تبني البيوت،
وفرقة تسقي الماء وتحمله على متونها، وفرقة تكنس الخلايا وتنظفها من
الأوساخ والجيف والزبل، وإذا رأت بينها نحلة مهينة بطالة قطعتها وقتلتها
حتى لا تفسد عليهم بقية العمل وتعديهن ببطالتها ومهانتها.
وأوّل ما يبنى في الخلية مقعد الملك وبيته، فيبنى له بيتاً مربعاً يشبه
السرير والتخت، فيجلس عليه ويستدير حوله طائفة من النحل يشبه الأمراء
والخدم والخواص لا يفارقنه، ويجعل النحل بين يديه شيئاً يشبه الحوض يصب فيه
من العسل أصفى ما يقدر عليه ويملأ منه الحوض يكون ذلك طعاماً للملك
وخواصه، ثمّ يأخذن في ابتناء البيوت على خطوط متساوية وكأنّها سكك ومحال،
وتبني بيوتها مسدسة متساوية الأضلاع كأنّها قرأت كتاب إقليدس حتى عرفت أوفق
الأشكال لبيوتها؛ لأنّ المطلوب من بناء الدور هو الوثاقة والسعة. والشكل
المسدس دون سائر الأشكال إذا انضمت بعض أشكاله إلى بعض صار شكلاً مستديراً
كاستدارة الرحى، ولا يبقى فيه فروج ولا خلل، ويشد بعضه بعضاً حتى يصير
طبقاً واحداً محكماً لا يدخل بين بيوته رؤوس الإبر، فتبارك الذي ألهمها أن
تبني بيوتها هذا البناء المحكم الذي يعجز البشر عن صنع مثله، فعلمت أنّها
محتاجة إلى أن تبني بيوتها من أشكال موصوفة بصفتين:
إحداهما: أن لا تكون زواياها ضيقة حتى لا يبقى الموضع الضيق معطلاً.
والثانية: أن تكون تلك البيوت مشكلة بأشكال إذا انضم بعضها إلى بعض امتلأت
العرصة منها فلا يبقى منها شيء ضائعاً. ثمّ إنها علمت أنّ الشكل الموصوف
بهاتين الصفتين هو المسدس فقط، فإنّ المثلثات والمربعات وإن أمكن امتلاء
العرصة منها إلا أن زواياها ضيقة، وأما سائر الأشكال وإن كانت زواياها
واسعة إلا أنها لا تمتلئ العرصة منها، بل لا يبقى فيما بينها فروج خالية
ضائعة. وأمّا المسدس فهو موصوف بهاتين الصفتين، فهداها سبحانه إلى بناء
بيوتها على هذا الشكل من غير مسطرة ولا آلة ولا مثال يحتذى عليه. وأصنع بني
آدم لا يقدر على بناء البيت المسدس إلا بالآلآت الكبيرة، فتبارك الذي
هداها أن تسلك سبل مراعيها إلى قوتها وتأتيها ذللاً لا تستعصي عليها ولا
تضل عنها، وأن تجتني أطيب ما في المرعى وألطفه، وأن تعود إلى بيوتها
الخالية فتصب فيها: (.. شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ
لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل/ 69).
فإذا فرغت من بناء البيوت خرجت خماصاً تسيح سهلاً وجبالاً فأكلت من
الحلاوات المرتفعة على رؤوس الأزهار وورق الأشجار فترجع بطاناً، وجعل
سبحانه في أفواهها حرارة منضجة، تنضج ما جنته فتعيده حلاوة ونضجاً، ثمّ
تمجه في البيوت حتى إذا امتلأت ختمتها وسدت رؤوسها بالشمع المصفى، فإذا
امتلأت تلك البيوت عمدت إلى مكان آخر إن صادفته فاتخذت فيه بيوتاً، وفعلت
كما فعلت في البيوت الأولى، فإذا برد الهواء وأخلفت المرعى حيل بينها وبين
الكسب لزمت بيوتها وتغذت بما ادخرته من العسل. وهي في أيام الكسب والسعي
تخرج بكرة وتسيح في المراتع وتستعمل كل فرقة منها بما يخصها من العمل، فإذا
أمست رجعت إلى بيوتها، فإذا كان وقت رجوعها وقف على باب الخلية بواب منها
ومعها أعوان، فكل نحلة تريد الدخول يشمها البواب ويتفقدها، فإن وجد منها
رائحة منكرة أو رأى بها لطخة من قذر منعها من الدخول وعزلها ناحية إلى أن
يدخل الجميع فيرجع إلى المعزولات الممنوعات من الدخول فيتفقدهنّ ويكشف
أحوالهنّ مرّة أخرى، فمن وجده قد وقع على شيء منتن أو نجس قده نصفين، ومن
كانت جنايته خفيفة تركه خارج الخلية، هذا دأب البواب كل عشية. وأمّا الملك
فلا يكثر الخروج من الخلية إلا نادراً إذا اشتهى التنزه، فيخرج ومعه أمراء
النحل والخدم فيطوف في المروج والرياض والبساتين ساعة من النهار ثمّ يعود
إلى مكانه.
ومن عجيب أمره أنّه ربّما لحقه أذى من النحل أو من صاحب الخلية أو من خدمه
فيغضب ويخرج من الخلية ويتباعد عنها ويتبعه جميع النحل وتبقى الخلية خالية،
فإذا رأى صاحبها ذلك وخاف أن يأخذ النحل ويذهب بها إلى مكان آخر احتال
لإسترجاعه وطلب رضاه، فيتعرف موضعه الذي صار إليه النحل فيعرفه باجتماع
النحل إليه فإنّها لا تفارقه وتجتمع عليه حتى تصير عليه عنقوداً، وهو إذا
خرج غضباً جلس على مكان مرتفع من الشجرة وطافت به النحل وانضمت إليه حتى
يصير كالكرة فيأخذ صاحب النحل رمحاً أو قصبة طويلة ويشد على رأسه حزمة من
النبات الطيب الرائحة العطر النظيف ويدنيه إلى محل الملك، ويكون معه إما
مزهر أو يراع أو شيء من آلات الطرب فيحركه وقد أدنى إليه ذلك الحشيش فلا
يزال كذلك إلى أن يرضى الملك، فإذا رضي وزال غضبه طفر ووقع على الضغث وتبعه
خدمه وسائر النحل، فيحمله صاحبه إلى الخلية فينزل ويدخلها هو وجنوده ولا
يقع النحل على جيفة ولا حيوان ولا طعام.
ومن عجيب أمرها أنّها تقتل الملوك الظلمة المفسدة، ولا تدين لطاعتها.
والنحل الصغار المجتمعة الخلق هي العسالة، وهي تحاول مقاتلة الطوال القليلة
النفع وإخراجها ونفيها عن الخلايا، وإذا فعلت ذلك جاد العسل، وتجتهد أن
تقتل ما تريد قتله خارج الخلية صيانة للخلية عن جيفته، ومنها صنف قليل
النفع كبير الجسم. وبينها وبين العسالة حرب، فهي تقصدها وتغتالها وتفتح
عليها بيوتها وتقصد هلاكها، والعسالة شديدة التيقظ والتحفظ منها، فإذا هجمت
عليها في بيوتها حاورتها وألجأتها إلى أبواب البيوت فتتلطخ بالعسل فلا
تقدر على الطيران ولا يفلت منها إلا كل طويل العمر، فإذا انقضت الحرب وبرد
القتال عادت إلى القتلى فحملتها وألقتها خارج الخلية. وقد ذكرنا أنّ الملك
لا يخرج إلا في الأحايين، وإذا خرج خرج في جموع من الفراخ والشبان، وإذا
عزم على الخروج ظل قبل ذلك اليوم أو يومين يعلم الفراخ وينزلها منازلها
ويرتبها، فيخرج ويخرجن معه على ترتيب ونظام قد دبره معهنّ لا يخرجن عنه،
وإذا تولدت عنده ذكران عرف أنهنّ يتطلبن الملك فيجعل كل واحد منهم على
طائفة من الفراخ، ولا يقتل ملك منها ملكاً آخر، لما في ذلك من فساد الرعية
وهلاكها وتفرقها. وإذا رأى صاحب الخلية الملوك قد كثرت في الخلية وخاف من
تفرق النحل بسببهم احتال عليهم وأخذ الملوك كلها إلا واحداً، ويحبس الباقي
عنده في إناء ويدع عندهم من العسل ما يكفيهم، حتى إذا حدث بالملك المنصوب
حدث مرض أو موت أو كان مفسداً فقتلته النحل أخذ من هؤلاء المحبوسين واحداً
وجعله مكانه لئلا يبقى النحل بلا ملك فيتشتت أمرها.
ومن عجيب أمرها أنّ الملك إذا خرج متنزهاً ومعه الأمراء والجنود ربّما لحقه
إعياء فتحمله الفراخ. وفي النحل كِرام عُمَّالٍ لها سعي وهمه، وإجتهاد،
وفيها لئام كسالى قليلة النفع مؤثرة للبطالة، فالكرام دائماً تطرد الكسالى
وتنفيها عن الخلية ولا تسكنها خشية أن تعدي كرامها وتفسدها. والنحل من ألطف
الحيوان وأنقاه، ولذلك لا تُلقي زَبَلَها إلا حين تطير وتكره النتن
والروائح الخبيثة، وأبكارها وفراخها أحرص وأشد إجتهاداً من الكبار، وأقل
لسعاً وأجود عسلاً، ولسعها إذا لسعت أقل ضرراً من لسع الكبار.
ولما كانت النحل من أنفع الحيوان وأبركه قد خصت من وحي الرب تعالى وهدايته
بما لم يشكرها فيه غيرها، وكان الخارج من بطونها مادة الشفاء من الأسقام،
والنور الذي يضيء في الظلام بمنزلة الهداة من الأنام، كان أكثر الحيوان
أعداءها، وكان أعداؤها من أقل الحيوان منفعة وبركة، وهذه سنة الله في خلقه،
وهو العزيز الحكيم".
يقول كريسي موريستون صاحب كتاب (الإنسان لا يقوم وحده): "إنّ العاملات من
النحل تصنع حجرات مختلفات الأحجام في المشط الذي يستخدم في التربية. وتعد
الحجرات الصغيرات للعمال، والأكبر منها لليعاسيب (ذكور النحل) وتعد غرفة
خاصة للملكات الحوامل. والنحلة الملكية تضع بيضاً غير مخصب في الخلايا
المخصصة للذكور، وبيضاً مخصباً في الحجرات الصحيحة المعدة للعاملات الإناث
والملكات المنتظرات. والعاملات اللائي هنّ إناث معدلات بعد أن انتظرن
طويلاً مجيء الجيل الجديد، تهيأ أيضاً لإعداد الغذاء للنحل الصغير بمضغ
العسل واللقح ومقدمات هضمه. ثمّ ينقطعن عن عملية المضغ ومقدمات الهضم عند
مرحلة معيّنة من تطوُّر الذكور والإناث، ولا يغذين سوى العسل واللقح.
والإناث اللاتي يعالجن على هذا الشكل يصبحن عاملات.
أمّا الإناث اللاتي في حجرات الملكة فإنّ التغذية بالمضغ ومقدمات الهضم
تستمر بالنسبة لهنّ. وهؤلاء اللاتي يعاملن هذه المعاملة الخاصة يتطورن إلى
ملكات نحل، وهنّ وحدهنّ اللائي ينتجن بيضاً مخصباً. وعملية تكرار الإنتاج
هذه تتضمن حجرات خاصة، وبيضاً خاصاً، كما تتضمن الأثر العجيب الذي يلزم
لتغيير الغذاء، وهذا يتطلب الإنتظار والتمييز وتطبيق إكتشاف أثر الغذاء!
وهذه التغيُّرات تنطبق بوجه خاص على حياة الجماعة، وتبدو ضرورية لوجودها،
ولابدّ أنّ المعرفة والمهارة اللازمتين لذلك قد تم إكتسابهما بعد إبتداء
هذه الحياة الجماعية، وليستا بالضرورة ملازمتين لتكوين النحل، ولا لبقائه
على الحياة. وعلى ذلك فيبدو أنّ النحل قد فاق الإنسان في معرفة تأثير
الغذاء تحت ظروف معيّنة!
المصدر: كتاب الله أهل الثناء والمجد