زكي طاهر محمد العليوفي التعامل مع الحريةمقدمة
يرى الكاتب أن للحرية أهمية كبيرة على مستوى المجتمع العربي الإسلامي
المعاصر ، إلا أنها ليست السبب الوحيد فيما يعانيه هذا المجتمع من تخلف و
تأخر ، فمتى ما حُلت إشكاليتها تقدم هذا المجتمع ، و لكننا نرى أنه إذا
حُلت إشكاليتها فسوف يتقدم المجتمع العربي الإسلامي المعاصر خطوات سريعة و
كبيرة للأمام ، و ليس كما يظن البعض بأن إعلان حالات الطوارئ كما هو حاصل
في بعض الدول العربية المعاصرة لسنين طويلة يساهم في حل المشاكل التي
تواجهها هذه الدول ، أو كما يقوم به البعض الآخر من الدول العربية المعاصرة
بفرض قيود على الحريات لسبب أو لآخر .
و سوف نتناول هنا وجهة نظر إسلامية للحرية ، تحاول دراسة واقع الحرية ، ، و
الإشكالية التي يقع فيها الإسلاميون في تعاملهم مع الحرية .
مفهوم الحرية
الحرية كما جاءت في معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية " القدرة على الاختيار
بين عدة أشياء أي حرية التصرف و العيش و السلوك حسب توجيه الإرادة العاقلة
دون الإضرار بالغير أو دون الخضوع لأي ضغط إلا ما فرضته القوانين العادلة
الضرورية و واجبات الحياة الاجتماعية " ( 1 ) .
لماذا الحديث عن الحرية
نظراً لأن اللحظة الراهنة تعيش حديثاً غير منقطع عن الديمقراطية و حقوق
الإنسان ، فان الحديث عن الحرية له ما يبرره هنا ، و ذلك لعدم إمكانية
تحقيق الديمقراطية بدون حضور الحرية ، و كذلك لعدم إمكانية إعطاء الإنسان
حقوقه من دون إعطاءه حق الحرية بمختلف أوجهها ، فالديمقراطية و حقوق
الإنسان مرتكزتان على الحرية . فالمجتمعات الغربية مثلاً أسهمت فيها بصورة
مباشرة كما هي في صيغتها الحالية ، حيث ساهمت الديمقراطية و حقوق الإنسان
في تقدم هذه المجتمعات ، يتجاوز هذا الحديث المجتمعات التي صاغتها إلى
المجتمعات التي لا تنتمي إليها جغرافياً أو فكرياً كالعالم الثالث أو
المجتمعات العربية و الإسلامية المعاصرة ، حيث الحديث عن الديمقراطية و
حقوق الإنسان ليل نهار بصورة مستمرة سواء مدحاً كما هو غالباً أو ذماً ،
فأفراد هذه المجتمعات يشعرون بأنهم ليسوا مواطنون لهم حقوق كما عليهم
واجبات بل رعايا عند حكوماتهم .
و لذا في مجتمعات كالمجتمعات العربية الإسلامية نحتاج للديمقراطية و حقوق
الإنسان و من ثم لا بد من الحديث عن الحرية و بصورة مكثفة قدر المستطاع
لعلنا نخرج من أزمات التأخر و التخلف . مما يستدعي أن نقوم بعملية تشخيص
للحرية و كيفية التعامل معها . يتضمن هذا التشخيص عملية شرح و نقد ، يتضمن
الشرح إبراز وجهة نظر إسلامية للحرية فليس كل الفكر الإسلامي نقاط ضعف بل
لديه نقاط قوة ، و نقد لكيفية التعامل مع الحرية ، و لا سيما أن الفكر
الإسلامي متهم من تيارات الفكر الموجودة في المجتمع العربي بأنه فكر ضد
حرية الإنسان بصورة عامة ، و ضد حرية المرأة و التعبير و الإبداع و تغيير
الإنسان المسلم لمعتقده ، و لعل في هذا أن يساهم في تعريف الاخر وجهة النظر
و أن يقلل بعض منه إستعداءه للتيار الإسلامي .
الحرية عبر التاريخ .
و لأن إنعدام الحرية هو الحالة غير الطبيعية و إن الحالة الطبيعية و
السليمة و الإيجابية هو توافر الحرية . و من ثم عندما نتحدث عن الحرية فنحن
نروم من ذلك إيجادها لكي تضفي على الحياة الاجتماعية و السياسية جواً
صافياً من الإستقرار لكي تتقدم المجتمعات العربية و الإسلامية و تستطيع هذه
المجتمعات من بناء أفرادها ، فانعدام الحرية لا يحقق تقدماً للمجتمعات لا
يبني أجيال باعتباره جو غير صحي و لربما أنتج وضع عكسي .
و بعيداً عن ارتباط الحرية بالقضايا الأخرى ، أن الحرية قضية و قيمة كبرى
لا بد من النقاش و الحوار حولها و فيها ، فهي ليست قضية جزئية في حياة
الإنسان قد لا يكون من الضروري تقديمها على غيرها من القضايا الكبرى ،
فبقدر ما نضع لهذه الحرية من قيمة يكون تعاملنا معها وفق ذلك .
و لعل د. قسطنطين زريق أجاد في تبيين أهمية الحرية للإنسان العربي المعاصر "
و نؤكد أننا لسنا نعني الحرية المطلقة - تلك الحرية التي تسمح للذئب
بافتراس الحمل . و لا ينكر أن في البلاد العربية ذئاباً كثيرة تفترس
ضحاياها أو تعد نفسها للانقضاض و الافتراس . و إنما نعني الحرية التي تتيح
للمواطنين أن يكتشفوا الذئاب فلا ينخدعوا عنها ، و أن يشددوا عزائمهم
الفردية و المشتركة لتطويقها و اقتلاع أنيابها ، و لتنمية مناعاتهم و مصادر
قواهم فلا يكونوا فرائس سائبة أو ضحايا هينة " ( 2 ) .
الحرية عبر التاريخ
بصورة موجزة جداً سوف نعرض لنظرة التيارات و الأفكار المختلفة لمسألة الحرية .
لنبدأ أولاً في النظر تاريخياً لعلاقة الإنسان بالحرية ، الحرية قضية
قديمة ، ارتبطت به منذ وجد ، فهي مرتبطة بأصل طبيعته و فطرته ، فهل يملك
الإنسان حرية إرادة لكي يستطيع من اختيار أفعاله " إن مسألة القضاء و
القدر و كون الإنسان مخيراً أو مسيراً ليست من المسائل التي طرحتها
المعتزلة بل من المسائل القديمة التي كانت مطروحة عند جميع الأمم " ( 3 ) .
عاش الإنسان صراع طويلاً من أجل الحرية وكان الصراع على نوعين بين الإنسان و الإنسان و بين الإنسان و الطبيعة .
ففي الصراع الأول يرفض الإنسان دائماً أن يسيطر عليه أحد أي كان ، و يرى
في ذلك سلب لأهم مقومات حياته ، فحتى لو كان الإنسان عبداً فإنه يحاول أن
يتحرر من هذه العبودية و إن لم يستطع نيل حريته ، فالحرية موجودة في أعماق
نفسه لا يستطيع أن يتنازل عنها إلا مرغما .
و في الصراع الثاني نرى الإنسان يرفض أن تتحكم به الطبيعة كأن تجبره في
البقاء في الأرض لا يستطيع التحليق ، أو لا يستطيع عبور البحار و الأنهار ،
أو ترهبه و تخوفه كما يحدث في الفيضانات و الأوبئة و الكوارث ، فهو يسعى
للسيطرة عليها أو مقاومتها ، فهو إلى هذا اليوم لا يستطيع أن يمشي على
الماء لأنه لم يستطع أن يتغلب على قوانين الطبيعة فهي لا تسمح له بذلك ، و
لم يستطع الوصول إلى اختراع أو كيفية تمكنه من المشي على الماء ، و كذلك لا
يستطيع القفز إلى ارتفاعات عالية ، لكنه استطاع أن يستخدم التكنولوجيا
للتغلب أو الالتفاف عليها فهو يستخدم السفن لعبور المياه و الطائرات
للطيران ، و لا زال يحاول أن يسيطر أكثر و أكثر ، و لعل أبرز مثال يوضح
لنا ذلك هو الموت ، أن الإنسان لن يستطيع أن يقهر الموت ، صحيح استطاع أن
يؤخر الموت - برحمة الله و تحت إرادته - و لكنه لن يستطيع القضاء عليه .
ففي اليونان و الرومان اقتصرت ممارسة الحرية على شريحة معينة من المجتمع و
لم تصل إلى جميعه ، فالطبقات العليا كانت تتمتع بالحرية بينما نجد النساء
والعبيد لا ينالون أي حريات . كذلك في مصر الفرعونية نجد أن هنالك فرعون
واحد و حاشية قليلة و كثير من العبيد ، فلم تقم مظاهر هذه الحضارة إلا على
أكتاف العبيد و خير دليل الأهرام أبرز معالم الحضارة المصرية الفرعونية قام
العبيد بنقل الحجارة الضخمة من أجل بناء مقابر للفراعنة . فخلاصة هذه
الحضارات في نظرتها للحرية أن من يملك له الحق في التمتع بالحرية .
و عندما جاء الإسلام في الجزيرة العربية و تحديداً في المجتمع الجاهلي ،
طرح الإسلام وجهة نظره تجاه الحرية ، حيث كان متمماً للأديان السماوية
السابقة التي كرمت الإنسان و أعلت من قدره ، غير أن مشروع الإسلام للحرية -
كما المشاريع الإسلامية الأخرى - لم يتحقق بسبب المشاكل التي عاشها
المسلمون .
و في العصور الوسطى و تحديداً في أوروبا كانت الحرية في أزمة ، و ذلك
نتيجة الصراع بين الكنيسة و من يخالفها في المجتمع الأوروبي و الذي أدى
لوجود محاكم التفتيش .
و جاء عصر العقل و تحرر المجتمع الأوروبي أكثر و ذلك نتيجة الصراع بين
الكنيسة و من يخالفها ، و كذلك لقدرة عدد من المفكرين الأوروبيين التغلغل
في الوسط الأوروبي على حساب الكنيسة ، و حيث توافرت وجهات نظر متقدمة
للحرية .
و تفجر وضع الحرية مع الثورة الفرنسية التي عملت على تغيير أوضاع أوروبا
الاجتماعية و السياسية و الفكرية و الاقتصادية ، و التي كان شعارها حرية -
مساواة - أخوة مما قضى على النظم الملكية " و أدت الثورة الفرنسية و
كذلك حروبها و حروب نابليون إلى تقويض بناء أوروبا القديم و مهدت الطريق
للمذاهب الحرة في القرن التاسع عشر و عجلت بظهور القومية و أرست في المجتمع
الأسس الشكلية لمبادئ الحرية و الإخاء و المساواة و نشرت بذور ثورة
اشتراكية و عمالية لاحقة ، و فتحت الطريق أمام القضاء على الإقطاعيين و
أمام التطور الرأسمالي البورجوازي الذي كانت له نتائجه الهامة على مجرى
التاريخ . كما أنها كانت تهديداً صريحاً و مباشراً للأنظمة الملكية
الأوروبية على اختلاف أنواعها مما حدا بهذه الأنظمة إلى التوحد و التكتل
ضدها حتى لا تشكل سابقة خطيرة في القارة الأوروبية " ( 4 ) .
و كذلك ظهور الوجودية في القرن العشرين و التي كان لها تأثير في الفكر
الأوروبي الحديث فأصبحت جزء مهم منه ، و هي التي ركزت كثيراً في فكرها على
موضوع الحرية ، و أبرزت الجانب الفردي على حساب الجانب الاجتماعي .
و لا ننسى الفكر الليبرالي و الذي يعتبر التيار الأقوى عالمياً و ذلك لوجود
عدة أسباب منها تبني الدول الكبرى له ، فهذا الفكر يعتبر امتداد
للرأسمالية و مقدمة للعولمة ، نراه في فكرته الأساسية يعتمد على الحرية
السياسية و الحرية الاقتصادية المطلقة ، و أيضاً على تقبل أفكار و آراء
الآخرين حتى و لو كانت لا تتفق معه .
سنوجز هنا كيف دخل الإسلام بفكرته حول الحرية مع الواقع الجاهلي .
كل مجتمع يكون ضعيف إنما بسبب وجود بعض المشاكل يعاني منها ، و المجتمع
الجاهلي نموذجنا هنا كان يعاني من مشاكل منها الرق و الاستعباد و النظرة
غير الإنسانية للعبيد ، و كل هذه الأمور لا تنسجم مع فكرة الإسلام
و لكن ثمة تسأول يتمثل في أن مصطلح الحرية ، مصطلح حديث جاء من الفكر
الأوروبي الحديث فكيف تعامل معها الإسلام قبل أربعة عشر قرن أولاً ثمة آيات
قرآنية كريمة صريحة حول ذلك توضح وجهة نظر الإسلام في الحرية ، و ثانياً "
و لأجل ذلك وردت كلمة " الحرية " بمفهومها العام في نصوص إسلامية أصيلة ،
فلا يمكن أن تتهم بالتأثر بمفاهيم الحضارة الغربية . فقد جاء عن أمير
المؤمنين علي عليه السلام : " لا تكن عبداً لغيرك و قد خلقك الله حراً " .
و ورد عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام أنه قال : " خمس خصال من
لم يكن فيه شيء منها لم يكن فيه كثير مستمتع : أولها - الوفاء ، و الثانية
- التدبير ، و الثالثة - الحياء ، و الرابعة - حسن الخلق ، و الخامسة و هي
تجمع هذه الخصال - ( الحرية ) " ( 5 ) و آخر يرى أن ثمة مصطلح آخر كان
هو الغالب في الاستخدام " فالمصطلح الذي غلب استعماله للدلالة على معنى "
الحرية " في الفكر الإسلامي ، و الذي التزم استعماله مفكرو المعتزلة ،
الذين كانوا هم فرسان هذا الميدان ، كان هو مصطلح " الاختيار " لا مصطلح "
الحرية " ، و هم قد استعملوه في مقابل مصطلح " الجبر" الذي يدل على معنى
انتفاء الحرية الخاصة بالمجتمع و الإنسان " ( 6 ) و من هنا نجد أن هناك
أتفاق بين السيد محمد باقر الصدر و د. محمد عمارة حول عدم تأثر الحرية في
تراثنا بالتجارب الأخرى بما فيها التجربة اليونانية
سوف نضرب أكثر من مثال لكيفية تعامل الإسلام مع الحرية :
1 - في موضوع الحرية ذكرنا أن ثمة علاقتان هما علاقة الإنسان بالإنسان ، و
علاقة الإنسان بالطبيعة ، فجاء الإسلام و أضاف بعداً ثالثاً لا يقل أهمية و
هو علاقة الإنسان بنفسه فالنفس البشرية كما يراها الإسلام معرضة لأن تصبح
خيرة أو شريرة ، و هذا راجع لمدى قدرة هذا الإنسان على تطويع و تهذيب
نفسه باستخدام عقله و ألا يترك لها مجال في أن تسيطر عليه ، من هنا أعطى
الإسلام توجيهات بإلا يكون الإنسان عبداً لشهواته و هو التحرير الحقيقي و
المنطلق الذي ينطلق في إبداعاته و نشاطاته الاجتماعية ، فمتى ما أصبح عبداً
لشهواته لم يكن حراً بل عبداً .
2 - كان الرق في العصر الجاهلي عصب للحياة ، فلم تكن تسير الحياة بدون
رقيق ، و الإسلام كان ينظر للعبودية كما هي في العصر الجاهلي بأنها تحرم
العبيد من إنسانيتهم فلم يكن هناك إحترام للعبيد بل الموجود قهر لهم ، و
كذلك لكي يقر مبدأ المساواة التي ينادي بها الإسلام بين جميع أفراد المجتمع
عبداً كان أم سيداً ، فكان يدعو لتحرير العبيد ، حيث شرع بعض الإجراءات
لذلك ، فثمة أخطاء يقع فيها الإنسان تستلزم لكي يكفر عن خطأه أن يحرر رقبة
، و كذلك عندما تتزوج الأمة من سيدها و تلد له فإنها تحرر نفسها من
العبودية ... إلى آخره لذلك نجد أن الفقه الإسلامي آنذاك أنشغل بمسألة
العبيد للوضعية التي كان عليها المجتمع العربي آنذاك ، فتحرير الإنسان
يعني نقله من العبودية إلى الحرية .
3 - باعتبار عالمية الدين الإسلامي ، ففي دعوته للناس إلى إعتناقه لم يعمل
الإسلام على إكراه الناس بالدخول فيه ( لا إكراه في الدين ) ، و نرى ذلك
واضحاً فيما بعد ففي المجتمعات الإسلامية التي كانت تحكمها دولاً مسلمة لم
يجبر اليهود أو المسيحيين أو اللادينيين على اعتناق الإسلام ، بل تركهم
وشأنهم إن أرادوا الدخول في الإسلام فأهلاً بهم و إن أرادوا البقاء في
دينهم فلهم الحرية في ذلك ، لذلك نرى الكثير منهم شارك في الحضارة
الإسلامية دون أن يسلموا ، فقمة الحرية عندما تمارس مع الآخر - المقصود هنا
تحديداً غير المسلم - بحيث لا يجبر على إعتناق الدين الإسلامي و لا سيما
أن التجربة التاريخية توضح ذلك ، فكان يعيش غير المسلمين في المجتمع
الإسلامي بحرية في عباداتهم و معتقداتهم فلم يفرض عليهم أن يعتنقوا الدين
الإسلامي و لكن كان عليهم واجب عدم الدعوة لدينهم احترام لدين المجتمع الذي
قدرهم و إحتضنهم ، أو أن يقول لهم أنه ليس لكم حق في هذا المجتمع
باعتباركم غير مسلمين ، و كذلك عدم قيامهم بهدم النظام العام للمجتمع وهذا
كما أنه ينطبق عليهم ينطبق على كل أفراد المجتمع بغض النظر عن دينه أو وضعه
أو امتيازه ، و أما مسألة الإرتداد فتوجد آراء لا تحكم على إنسان غير
معتقده بالإرتداد ، فثمة حالات لا يكون فيها إرتداد و لكن الإسلام يطلب
من يعتنقه أن يكون ملتزماً بما إعتنقه باختياره و بمحض إرادته .
غير أن الظروف التي عاشها المجتمع الإسلامي منذ عهد الرسول صلى الله عليه و
آله و سلم إلى ما بعده بقرون أربعة كانت فترة صراعات و حروب ، فبعد وفاته
ظهرت قضية الخلافة ثم جاءت فتنة عثمان بن عفان و حروب المسلمين في عهد
الإمام علي ( ع ) و من ثم حكم الأمويين و العباسيين المسلمين بالنار و
الحديد و التي أتسمت بالإستبداد مما أظهر المعارضات بوضوح و حدوث الحروب مع
بعضها ، و طول تلك الفترة لم يعش المسلمين حالة مستقرة فكانوا في حالات
غير طبيعية مما أخر تحقيق المشروع الإسلامي للحرية .
و يمكننا القول أن هذا الصراع لم يكن شراً محضاً فلقد أنتجت التيارات الإسلامية أفكارها مما جعل الفكر الإسلامي يتقدم .
و لكن للأسف حدث أحياناً محاولا ت واضحة للتلاعب بتفسير النصوص الدينية و
قراءتها و لا سيما آيات القرآن الكريم ، حيث أن من يتعامل مع القرآن الكريم
لا يمكنه أن يستبعد ثقافته التي تؤثر عليه في كيفية قراءته و دراسته
للنصوص القرآنية ، فلا يمكن لنا تجاوز هذه الثقافة ، وبالتالي فلا بد من
التدقيق في قراءة المفاهيم القرآنية ، و حدث هذا فعلاً في التاريخ
الإسلامي فمثلاً شخص كالجهم وظف ثقافته من أجل إثبات دعوة القرآن الكريم
للجبر ، بينما يستطيع آخر أن يثبت دعوة القرآن الكريم للقدرية ، و لكن
بالتمعن و الدراسة لآيات القرآن الكريم المتعلقة بحرية الإنسان بموضوعية
توضح لنا بسهولة المفهوم القرآني للحرية " لقدالتف حول الأمويين رهط كبير
من رجال الفكر و الشعر و العلماء و الولاة و ذلك بغية ترسيخ فكرة " الجبر "
في أذهان العامة من المسلمين . هذه الفكرة التي اشتقها من القرآن و السنة
كانت الركيزة القوية التي تمكنوا من خلالها في تثبيتهم على الخلافة " ( 7 )
.
الحرية في المفهوم الإسلامي
نعتقد أن الدين الإسلامي أعطى للإنسان حرية لا يجدها في كل المذاهب و
التيارات الوضعية ، لأن هذا الدين جاء من عند الله و ليس من عند البشر حيث
تشوب اجتهاداتهم القصور ، و هنا لا يمكن أن يحتج أي أحد بأن الإسلاميين أو
شارحي أو مفسري أو دارسي القرآن الكريم فهموا ذلك عن الإسلام ، لأن ثمة
آيات قرآنية كريمة صريحة و واضحة بهذا الخصوص و أبرز آية " لا إكراه في
الدين " ( 8 ) و " و قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر " ( 9
) فهذه الآيات تفيد عدم إجبار إنسان ما على إعتناق الدين الإسلامي بل له
الحرية في إختيار الدين الذي يراه و من هنا كما قلنا أن قمة الحرية عندما
تمارسها مع الآخر المختلف معك في الدين أو الرأي فيجري عليك ما يجري عليه .
و من ثم فآيات القرآن الكريم واضحة في ذلك ، و من جهة آخرى أن الإسلام
مبني على الاقتناع لا الفرض و من هنا نجد أن الإيمان بأصول الدين الإسلامي "
التوحيد و النبوة و المعاد " لا تقليد فيها بل يفترض في الإنسان المسلم أن
يصل إليها عن طريق الدليل و الذي يقوم على الإقناع ، و هذا لا يتم من دون
وجود حرية تفكير ، و بينما يتم التقليد في الأحكام الشرعية .
عندما قرر الإسلام الحرية للإنسان لم يضعها تحت شرط العقيدة بأن لا يستطيع
الإنسان أن ينال حريته إلا إذا كان مسلماً . بل العكس في ذلك نظر الإسلام
للحرية على إنها حق للإنسان سواء كان كافراً أو مؤمناً ، يهودياً أو
مسيحياً أو مسلماً ، و لكنه قيدها بضوابط ، و كذلك عندما قررها على هذا
النحو نجده لم يقل أو ينادي بأن للطبقات المتميزة مادياً أو اجتماعياً أو
منصبياً أن تتمتع بالحرية دون بقية الناس فالكل له الحق في أن يمارس الحرية
.
أعطى الإسلام للإنسان الحرية لكي يستطيع أن يمارس حياته بطريقته ، فالإسلام
أعطى للإنسان مبادئ و قيم معينة عليه أن يعمل في ظلها ليقوم بتنظيم شئون
حياته الدنيوية ، و لم يفرض عليه طريق واحد عليه أن يتبعه و لهذا الإنسان
الحرية أيضاً في الأستفادة من تجارب الآخرين في ذلك بشرط عدم تعارضها مع
الإسلام . و نرى ذلك واضحاً في مسألة الدولة ، فالإسلام أعطى للإنسان
المسلم قيم مثل العدل و المساواة و الشورى يجسدها في هذه الدولة ، و ترك له
الحرية في كيفية أدارته لهذه الدولة و لنظامها و لكيفية أختيار الحاكم و
كذا تنظيم العلاقة بين الحكومة و المواطنيين في ظل القيم التي يدعو لها
الإسلام .
ليس هناك حرية مطلقة للإنسان في واقعه " أن الحرية ليست ممارسة ذاتية تتم
في دائرة مقفلة داخل الكينونة الإنسانية ، و أنما هي تفاعل يتم بين الإنسان
و الأنظمة الكونية المحيطة به . فحريته ملجمة إذن بقيود تلك الأنظمة و
أحكامها " ( 10 ) فالإنسان لا يعيش في مجتمع أو كون لوحده بل يعيش مع
آخرين ، فالطبيعة تفرض عليه قيود فهو لا يزال كلما قهر ( سيطر ) على جانب
ظهر له جانب آخر، و لعل أبسط دليل على أن حرية الإنسان غير مطلقة ، هو
أفعاله غير الإرادية فهل يستطيع إنسان ما أن يوقف نبض قلبه بمحض إرادته أو
أن يستطيع عندما يتناول الطعام أن يمنع معدته من هضم هذا الطعام ، فعندما
يقرر الإسلام أن حرية الإنسان مقيدة فإن في ذلك اتساق واضح مع السنن
الطبيعية التي تحيط به ، فثمة أمور خارج إرادته لا يستطيع أن يتحكم بها رغم
أنها ملك له و ليست لغيره ، و كذلك المجتمع يفرض عليه أمور فهو لا يستطيع
أن يفرض إرادته الشخصية على المجتمع لأنه سوف يواجه من لا يستطيع فرض
إرادته عليهم ، و هذا أمر طبيعي لكونه يعيش مع آخرين و ليس لوحده ، فيوجد
أفراد قليلون في المجتمع لهم تأثير على حركة هذا المجتمع و ذلك من أجل
تحقيق مصالحهم الشخصية فتتاح لهم أحياناً إخضاع جزء من المجتمع تحت
تصرفهم بسبب وصولهم لسلطة أو منصب أو لحصولهم على عوامل مساعدة لذلك - مال
مثلاً - ، و هذه الأمور لا تدوم أبداً و إن بقيت زمناً طويلاً ، و من هنا
فقد تتضارب أو تتصادم مصالح أفراد المجتمع بعضهم ببعض ، و من هنا نعرف سر
تقييد الإسلام لحرية الإنسان لأنه سوف يحدث تصادم بين الإرادات المختلفة
لأفراد المجتمع مما قد يسبب زعزعة لإستقرار المجتمع و يضر به ، لأن
الاصطدام في كثير من الأحيان غير مفيد ، الذي يؤدي إلى عدم أخذ بعض
الأفراد حقوقهم في ممارسة حرياتهم ، فالإسلام يدع للإنسان بأن يأخذ حريته و
لا يمنع الآخرين من حرياتهم و ذلك بالاحتكام إلى المعايير القيمية و
الأخلاقية حيث تستطيع إذا عملت معاً بصورة متكاملة تنظيم حريات الأفراد لكي
يعيش المجتمع بأمان . لذا نقول الإسلام لم يأتي من أجل فرد واحد أو
مجموعة قليلة من الناس و أنما جاء من أجل المجتمع كله ، و من هنا فلا يمكن
لشخص واحد أن يمتلك حرية دون غيره لأن هذا يتنافى مع قيم الإسلام مثل العدل
و المساواة التي يفتخر الإسلام باعتباره راعياً لهما ، فليس عبثاً أن يقيد
الأسلام الحريات المرتبطة بعلاقات مع الناس من أجل الصالح العام .
ارتبطت الحرية في الإسلام بمسائل عدة يستطيع من خلالها تنظيم الحرية منها :
1 - الحرام
لم يعطي الإسلام للإنسان الحق في إرتكاب المحرمات و ذلك لحكمة إرتأها
المشرع الحكيم ، و نحن نستطيع أن نستنتج بعض من هذه الحكم بالنظر للنتائج
التي تظهر بعد فعلها ، فالسرقة و الزنا و شرب الخمر وقتل النفس المحترمة
كلها محرمات نص الشارع الحكيم و يعاقب على فعلها مثلها مثل المحرمات الأقل
حرمة ، لأن كل المحرمات بطريق أو بآخر تحدث ضررا بالنفس أو الغير . و من
هنا لم يسمح الإسلام للإنسان بفعل ما يضر به أو بغيره فأوقف حريته عند فعل
المحرمات ، علماً أن المحرمات في الإسلام قليلة إذا ما قورنت بالمباح .
2 - التكليف
بما أن الإنسان المسلم مكلف بأن يقوم بأعمال محددة ، و يترك أخرى فيثاب على
التزامه بالقيام بهذه الأعمال و يعاقب إن عمل ما يجب تركه ، فلابد من
إعطاؤه الحرية في الاختيار ، فكيف يجبر على فعل ما ثم يعاقب عليه أو يجبر
على فعل آخر ثم يعاقب عليه ، فهو يحاسب على فعل لا دور له فيه ، فالتكليف
مرتبط بإعطاء الإنسان الحرية .
3 - المسئولية
لكي يستطيع الإنسان نيل حقه من الحرية عليه مقابل ذلك واجب ، و يتمثل هذا
الواجب في كونه مسئولاً ، فقيامه بعمل ما بحرية يترتب عليه أن يكون هو
صاحب المسئولية الوحيد دون غيره ، فلا أحد يتحمل مسئولية الخطأ في اختياره ،
و أن أصاب فهو المستحق أن ينال نتيجة اختياره .. و يرتبط موضوع المسئولية
بأن على الإنسان مسئولية تحقيق العدل و الخير للإنسانية و عليه أن يوظف هذه
الحرية من أجل تحقيق هذه القضايا .
4 - التعقل
عندما يستخدم الإنسان عقله و بطريقة منهجية وفق أسس سليمة فأنه يبتعد في
تصرفاته عن الفوضى أو الخطأ ، بينما عندما يستخدم الإنسان فقط مشاعره و
عواطفه دون أن تتعقلن هذه المشاعر و العواطف ، فأنه سوف يقع في فوضى أو
تخبط أو خطأ ، فالفوضى و التخبط و الخطأ يكونان في كثير من الأحيان ضد
الممارسة الصحيحة للحرية .
فإذ اً يحتاج الممارس لحريته حداً معقولاً من التعقل في تصرفاته ، فمثلاً
حرية التعبير لا تعطى لجاهل بحيث يسيء استخدامها كما أن يعطى لإنسان ما
موقعاً ليعبر عن إرادته فيقوم بشتم هذا و سب ذاك و التهجم على ثالث من دون
وجه حق ، هذا الفعل لا يسمى حرية تعبير ، و يضرب د. زكي نجيب محمود مثلاً
في هذا الموضوع يقول " قارن طفلاً أمامه ورقة و في يده قلم ، ظفر بهما بعد
بكاء عنيد ، قارنه بفنان أمامه لوحة و ألوان و في يده الفرشاة ، فالطفل "
حر " في أن يخط بالقلم ما شاء أن يخطه على الورقة ، و الفنان " حر " في
إقامة بنائه اللوني على اللوحة ، لكن ما أبعد الفرق بين حرية و حرية
لقد أزيلت الموانع التي كانت تحول دون حصول الطفل على ورقة و قلم ،
فلما بلغ مراده و كان حراً ، انطلقت تلك الحرية المجنونة " تشخبط " الخطوط
على الورقة بلا هدف ، و أما الفنان العارف بأسرار فنه ، فقد استطاع بحريته
" المقيدة " بقواعد الفن و أصوله ، أن يبدع ما قد يضاف إلى كنوز الجمال " (
11 ) .
في ماذا أعطى الإسلام الحرية للإنسان ؟
لم يحدد الإسلام الحرية للإنسان في جانب دون جانب آخر ، فهو جاء لينظم
حياته في جميع جوانبها ، فهو مثلاً يدعو الإنسان الملتزم به للمشاركة في
جميع مناحي الحياة السياسية و الاجتماعية و الثقافية و الاقتصادية ، فله
الحرية السياسية المتضمنة في اختيار حاكمه و له الحق في إبداء آراءه
السياسية بإبراز الإيجابي و نقد السلبي منها ، و كذلك له الحق في المشاركة
في اتخاذ القرارات المؤثرة سياسياً فيها . و كذلك له الحرية الاقتصادية فله
الحق في إقامة الأعمال التجارية التي تعود إليه بالأرباح .. الخ من
الحريات الأخرى كالحرية الفكرية و الاجتماعية .
في التعامل مع الحرية
يجدر بنا القول إن التزام الإنسان المسلم بعدم فعل المحرمات و تحمل
المسئولية و التعقل و إعطاء الإسلام له كافة الحقوق المختلفة في ممارسة
حرياته شروط ضرورية و مهمة لممارسة حرياته بطريقة لا تتعارض مع دينه ، و
لكنها في نفس الوقت غير كافية لكي تتحقق الحرية المنشودة ، فثمة مسائل أخرى
لابد من التعامل معها بإيجابية ، فمثلاً مجتمعنا العربي الإسلامي المعاصر
يعاني من وجود بعض الإشكاليات فيه ، هذه الإشكاليات لها تأثيرات واضحة
في كيفية ممارسته للحرية ، فضلاً عن حصوله عليها ، لذا من الأهمية بمكان
معالجة هذه الإشكاليات لكي نستطيع التوصل إلى فهم جيد يمهد المطالبة
بالحرية على أسس سليمة و صلبة ، هذه المسائل ليست هي الأسباب المباشرة
لفقدان الحرية في مجتمعاتنا كغياب الديمقراطية ، و إنما لها تأثيرات مهمة
على الأسباب الأساسية لغياب الحرية في مجتمعاتنا .
إشكاليات الحرية التي يقع فيها الإسلاميون على نوعين ، الأول منها يختصون
به و أقصد تحديداً أنها تكثر مع الإسلاميين بوضوح ، و الآخر يشتركون فيه مع
غيرهم و لكنها أقل من الحالات السابقة باعتبار المجتمع واحد يتأثر الكل
بنفس المشاكل .
لعله نستطيع القول فكرتنا بصورة عامة أن يلزم الإسلاميون مراجعة بعض
مواقفهم تجاه تطبيق الإسلام و تعاليمه ، و من ثم هم بحاجة لفهم دينهم قبل
أي شيء و بصورة أدق ، حيث أن فهم الإسلام غير الدقيق يؤدي إلى ضرر كبير .
لا يمكننا أن نفهم الحرية في المنظور الإسلامي بدون فهم المسائل الكبرى
المرتبطة بها من قبيل الإنسان و العدل و المساواة ، حيث قدم الإسلام وجهة
نظر حيالها ، و هذا نابع من اعتقاد الإنسان المسلم أن الإسلام جاء كنظام
شامل لكل مناحي الحياة ، فلا يمكن أن يوجد تناقض بين الجوانب المختلفة التي
جاء ليعالجها بل لا بد من تكاملها لكي تتحقق بنجاح ، و من ثم فإن ثمة
تكامل في ما بينها ، و من هنا فالبحث عن مشروع للحرية يستلزم معه البحث عن
مشاريع عدة للإنسان و للعدل و للمساواة ...الخ و من هنا نرى أن ليس مشروع
الحرية فقط ناقص ، بل أغلب المشاريع المرتبطة بالحرية ناقصة ، فلا يوجد
لدينا عدل و مساواة و احترام للإنسان فلا يمكن أن تتحقق الحرية دون أن
يتحقق و لو جزء بسيط كافي من العدل أو المساواة أو احترام الإنسان .
أنه لا زال يوجد اختلاف واضح بين التيارات الإسلامية في كيفية قراءة الحرية
، فكل تيار لديه قراءة للإسلام تختلف عن التيارات الأخرى التي يصل أحياناً
حد التناقض ، مثلاً قد يتفقون في النظر إلى الحرية كقيمة كبرى و لكنهم
يختلفون في كيفية التعامل معها من ناحية التفاصيل ، و ذلك راجع لاعتبارات
فكرية و سياسية و فقهية، و هذا في رأينا يسبب في كثير من الأحيان اختلاف في
وجهة النظر ، و الذي قد يصل أحياناً إلى خلاف حاد، و من ثم يؤثر في
كيفية التعاطي مع الحرية ، و خير دليل على ذلك هو وجود تيارات متشددة و
عنفيه و تيارات أخرى تقابلها في وجهة النظر تتسم بالاعتدال و التحضر ،
فاختلاف القراءة بهذه الطريقة يؤخر تحقيق هذه القيمة ، فلكل تيار قراءة
يتأثر بها جمهوره ، فللتيار المتشدد جمهور و للتيار المعتدل جمهور ، و لم
يستطع أي من هذين التيارين امتلاك الساحة كلياً ، و من هنا فكل تيار
يزاحمه التيار الآخر فيعمل على تأخير تحقيق مفهومه ، و هذا طبيعي عندما
يتسم المجتمع بالاختلاف ، نضرب مثالان لاختلاف القراءة ، و هو النقاش
الدائر بين الفقهاء حول التعامل مع حفظ كتب الضلال - حسب تعبير الفقهاء -
فرأي يرى أن حفظها محرم في ذاته ، و رأي آخر يرى بعدم الحرمة مطلقاً ، و
رأي ثالث يرى أن حرمة حفظها إذا أدت إلى اضلال . و كذلك في إتاحة الرأي
للفكر الآخر ليعبر عن رأيه في مجتمع يرفض ذلك الفكر أو أن فكره السائد لا
يتوافق مع هذا الفكر ، فرأي يرى أنه ينبغي لهذا الفكر أن يعبر عن نفسه لكي
لا يتحول من ضعف إلى قوة نتيجة عدم إتاحة الفرصة له و يضعف الفكر القوي
لأنه لا يستطيع مواجهة الفكر المخالف أو الرأي المعارض له ، و آخر يرى
عدم ترك المجال للفكر الآخر ليعبر عن آرائه .
في رأينا أن النظام الذي لديه نقاط ضعف في جانب ما من جوانبه من الأفضل له
معالجة هذه النقاط بدلاً من صب الأخطاء على الرأي المعارض أو الفكر المخالف
، فالنظام أو الفكر الذي يملك حداً كافياًَ من القوة لا تؤثر عليه معارضة
فرد أو مجموعة لبرنامج له أو رأي مخالف له ، فالفزاعة أن وجود معارضة ما
أو رأي مخالف يعتبر خطراً على الإسلام كلام غير دقيق لأسباب عدة منها سبب
بسيط أنه ليست كل معارضة تمثل قوة تهدد أو أن أي رأي مخالف قوي يهدد ،
ثانياً أن، الإسلام قوي لا يخشى عليه .
يوجد اتفاق واضح بين الإسلاميين على أهمية حفظ الدين من الطعن فيه أو في
أحد مقدساته من قبيل الذات الإلهية و الرسول صلى الله عليه و آله و سلم ، و
القرآن الكريم و الكعبة على سبيل المثال ، فلم نجد من الإسلاميين من يقول
أنه من الحرية الطعن في هذه المقدسات ، فالطعن يستهدف الأنتقاص من الدين و
هذا غير جائز البته . و نحن هنا لا نقصد إضفاء القدسية على غير المقدس كأن
يعطى فهم عالم من علماء الدين لآية أو لفكرة أو لعمل ما قدسية لا يستحقها ،
نعم يحترم ما يقوله العالم لكن لا يضفى عليه لبوس التقديس ، و لا سيما أن
بين علماء المسلمين اختلافات في النظر لمختلف القضايا و الذي أريد قوله هنا
أنه أحياناً نتجاوز الأحترام إلى التقديس و هذا أمر مبالغ فيه و لا ينبغي
أن يتم .
تميز الفكر الإسلامي بتوازنه ، فهو يوازن بين متطلبات الإنسان المختلفة
سواء كانت مادية أم معنوية ، و كذلك سواء كانت اجتماعية أم سياسية أم
اقتصادية ، فهو لا يرى أن يطغى جانب على آخر . و لكن بعض الإسلاميون
أحياناً أغرقوا في هذا التوازن من حيث أن لكل مرحلة تاريخية ظروف تحكمها ،
و بالتالي لا بد من تحديد أولويات هذه المرحلة بكيفية لا تتعارض مع هذا
التوازن .
و لنحدد فكرتنا السابقة في إطار موضوعنا ، فمثلاً التيار الليبرالي في
مجتمعنا العربي المعاصر ركز كثيراً في رؤيته لحل أزمة الحرية في مجتمعاتنا
على الحرية السياسية و ذلك بإنشاء الأحزاب و تشكيل النقابات و توفير
التعددية الحزبية و الحريات الصحافية و لكنه في الوقت ذاته لا يهتم بالحرية
الاجتماعية ، بينما ركز التيار الماركسي في حل الأزمة ذاتها على الحرية
الاجتماعية و ذلك بتوفير متطلبات الإنسان الأساسية من ملبس و مسكن و مأكل و
تعليم و علاج ، بينما تقتصر الحرية السياسية على الحزب / الفئة الحاكمة و
لا تترك للشعب المشاركة السياسية ، و من هنا في وجهة نظرنا لا يبدي التيار
الإسلامي أو لنقل رموزه الإسلامية وجهة نظرواضحة في أولويات الحرية هل هي
سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو فكرية ، و من هنا نرى أهمية تحديد
الأولوية التي عليهم أن ينطلقوا منها لحل أزمة الحرية في مجتمعاتنا .
أجواء العزلة تفرض على الإنسان حالة معينة عندما يتعامل مع الحرية بعكس ما
إذا كان الإنسان يعيش حالة طبيعية مع المجتمع و العالم ، ففي كل حالة يكون
التعامل مع الحرية مختلف ، ففي حالة العزلة يتعامل مثلاً مع الرأي المختلف
والمخالف بحساسية بينما في الحالة الطبيعية يعتبر ذلك أمراً طبيعيا .
فالمرحلة التاريخية الراهنة شهدت تعامل مختلف من الإسلاميين مع المجتمع و
العالم ، ففي السابق وجدناهم يعيشون حالة عزلة ما عن مجتمعهم والمجتمع
العالمي بينما الآن الوضع أخذ منحى آخر فعلى مستوى الدولة و السياسية بدا
لهم ظهور مختلف ، و على المستوى الفكر كذلك ، و من هنا أن مضمون الحرية في
هذه المرحلة قد يأخذ مضامين أخرى تختلف عن المراحل التاريخية السابقة فلا
بد من الألتفات لذلك .
الحرية في فترة ازدهار و تطور المجتمع تختلف عنها في فترة تخلف و تأخر المجتمع
، و منها نحن نطالب عدم محاكمة الإسلام في موضوع الحرية ، لأن الإسلام
مرتبط بمن يقوم بتطبيقه ، فإذا كان من يطبقه متخلف فإن فهمه لمفهوم الحرية
الإسلامي سوف يكون متخلف و العكس ، لأنه لا يمكن أن ينتج الوعي المتخلف
فكراً مستنير ، و هنا لو أننا نعيش حالة تقدم لأصبحت كثير من مشاكل الحريات
في مجتمعنا مفروغاً منها .
يتم التعامل مع الحرية بجانبها السلبي فعندما تذكر الحرية يترادف معها
مفهوم التحرر من القيم و المثل و كذا الإباحية الجنسية ، و ذاك في رأيي
ناتج إما من سوء فهم واضح للإسلام أو ناتح عن تجربة خاطئة منقولة من
مجتمعات أخرى ، بينما في الأساس يلزم عند الحديث عن الحرية أن نذكر جانبها
الإيجابي ، كأن يعطى اهتمام واضح للإبداع و التعبير عن الرأي بدون مضايقات
و توفير جو صحي لمثل هذه القضايا .
و هذا يبدو لي لا يتعلق بالفكر الإسلامي وحده بل هي متوفرة في أغلب الفكر
العربي ، الذي أري بأنه ليس واحد أو لنقل بأنه غير متجانس ، فلدينا فكر
عربي و لكنه متأثر بنزعات . فلدينا فكر عربي يوصف بأنه ذا نزعة قومية و
آخر ذا نزعة دينية و ثالث ذا نزعة ماركسية و رابع ذا نزعة ليبرالية ، هذه
النزعات قد تلتقي في بعض المسائل و قد تختلف ، و من ضمن ما تتفق فيه أن ثمة
مشاكل موجودة في الفكر العربي بأغلب نزعاته لا بد من إخراجه منها ، و سوف
نضرب أمثلة في كيفية النظر للحرية فالفكر الإسلامي مثلاً في أغلبه ، نجده
ينظر إليها في جانبها التحرري من القيم و المثل و في الإباحية الجنسية ،
بينما التيار القومي في أغلبه ينظر إليها على إنها إذا أتيحت فإنها سوف
تضيع الوحدة العربية بينما ينظر لها التيار الماركسي أن توفير الحرية
السياسية سوف يقضي على الحرية الاجتماعية .
عندما يطالب الإسلاميون بالحريات سواء كانت سياسية أو فكرية أو غيرها أو من
النظام الحاكم ، فهل لديهم أساساً استعداد لذلك باعتبار أن المطالب
بالحرية لا بد لكي يمارسها أن يكون واعياً لما يريد ، و أن يتسم بروح و
نفسية قابلة لتطبيق الحريات سواء كانت هذه الحرية له أو مطلوب منه أن
يوفرها لغيره ، و لنضرب مثالان لذلك الأول هل الإسلامي يتعامل مع أهله و
مرؤسيه بطريقة لا تتناقض مع مطالبته للحريات ، فهل يعطيهم الحرية لكي
يُعبروا عن وجهة نظرهم تجاه القضايا المشتركة ، و المثال الثاني هو كيف
سيتعامل الإسلاميون إذا وصلوا الحكم مع خصومهم و لا سيما الذين إضطهدوهم من
قبل ، هل سيوفرون حريات لغيرهم أم لا ، صحيح يوجد رموز إسلامية تمثل
الاعتدال الإسلامي معروف موقفها من مسألة تداول السلطة بين الإسلاميون و
مختلف التيارات السياسية الساعية للسلطة ، و لكنهم لا يمتلكون كل التيار
الإسلامي فيوجد تيار آخر يرى أنه عندما يصل إلى السلطة لا يمكن أن يعطي
لغيره الحرية في ممارسة نشاطاتهم ، و من هنا نرى أن هذا التيار و تيار
استئصال التيار الإسلامي سواء لا فرق بينهم في هذا .
مسألة الجماعة ( الطائفة ، القبيلة ، العائلة ، الأسرة ، التنظيم نماذج )
من المسائل التي تعطيها الحركات الاجتماعية في العالم العربي ( الحركات
الإسلامية نموذج ) مكانة مهمة على صعيد المجتمع ، و من أثر ذلك نجد أنها
تقدم مصلحة الجماعة على حرية الفرد أو مصلحته إذا تعارضتا ، و لكن يبدو أن
مسألة الجماعة أخذت أحياناً مسار غير سليم في فكر هذه الحركات فنجد أن
الحركة تعتبر نفسها جماعة و متى ما أنفرد أو أتخذ فرد ما منتسب لهذه
الجماعة بموقف أو رأي مختلف و لا أقول مخالف لها أعتبر كأنه مخالف لها و
أنه خرج منها . فلا يوجد في داخل هذه الحركات حرية الرأي و التعبير و لعل
فكرة الطاعة لا زالت هي الفكرة المسيطرة على فكر هذه الحركات فعلى الكوادر
السمع و الطاعة للرموز و للكبار .
معنى أن الغرب هو صاحب الحضارة العالمية ، هو أنه يستطيع الوصول إلى أي
مكان و يؤثر فيه ، و هذا ما هو حاصل واقعياً ، فالغرب موجود بيننا سواء في
أذهاننا باعتباره هو النموذج / المعيار الذي نرجع إليه كلما قمنا بعمل ما ،
و هذه الحالة تسمى بحالة الاستلاب فمثلاً عندما نقوم بعمل ما فإننا
تلقائياً نقوم بافتراض حدوثه في المجتمع الغربي - أمريكا مثلاً - و
نتسائل عن كيفية ردهم و من ثم أقوم بتقرير موقفي ، فالغرب حافر في
مجتمعاتنا - و هذا وضع طبيعي باعتباره صاحب الحضارة الأقوى - سواء بفكره
أو قيمه ، و من هنا فقضية كالحرية بمفهومها الغربي لا يمكن أن تغيب عن
مجتمعاتنا ، لوجود من يتبنى الفكر الغربي في مجاله النظري أو في ممارسته
العملية.
الإنسان في المجتمع الغربي حظى باحترام ، و من هنا فلا نعجب كيف نال
الإنسان الغربي حرية ، فالحرية في المجتمعات الغربية بلا ريب تتقدم على
الحرية في المجتمعات العالمثالثية - هذه أن وجدت - رغم أنه في تعامله مع
قيمة احترام الإنسان ينحو المنحى المتناقض ، فتراه يعطي احترام و ينظم
حقوقاً للحيوان ، و في نفس الوقت تراه لا يعطي احتراماً للإنسان في
المجتمعات الشرقية أو العالمثالثية أو أنه يؤمن بالديمقراطية و التعدد في
مجتمعه و ينكرها عندما يكون تعامله مع المجتمعات الأخرى . و لكن الإنسان
في المجتمعات العربية - كذلك العالم الثالث - لا يوجد له أي احترام و يبرز
ذلك في أبسط قضايا الحياة اليومية ، فكيف يحصل من لا احترام له على الحرية ،
فالاحترام سابق للحرية .
لعل الإسلاميين هم أكثرأفراد المجتمع التي تأثروا بالقمع الذي تمارسه الدول
العربية ، فكثير منهم رموا في السجن لسنين عديدة ، و منهم من فقد عضو أو
أكثر من أعضائه ، و منهم وهذا هو المهم من فقد إنسانيته فالمسجون عادة ما
تنتهك كرامته ، و لا ننسى أن الكثير منهم قد قامت الدولة العربية القمعية
بتصفيته داخل السجن أو خارجه ، و حيث قامت الدولة العربية القمعية بقتل
شخصيات إسلامية مهمة جداً ، و نحن هنا لا نحتاج للتدليل على ذلك لأن
الظاهرة أصبحت من أوضح بديهيات الصراع بين التيارات الإسلامية و الدولة
العربية القمعية .
و من هنا أقول أن تيار العنف الذي ظهر في بعض الجماعات الإسلامية المعاصرة -
الجماعة الإسلامية في مصر نموذج و ما رافق ذلك من تكفير و غلو - أحد
الأسباب لتبنيها العنف كخيار لمقاومة الأنظمة أو تغييرها أو للضغط عليها ،
هو ممارسة هذه الأنظمة القمع في حق الإسلاميين و عدم إعطائهم حق التعبير عن
الرأي مما جعلها تتجه للعنف . و أتصور لو تم فتح الباب للحوار مع هذه
التيارات لأصبح وضع المجتمع العربي في غير الصورة التي عليه ، و إلا هل حدث
في العقود الأولى من القرن العشرين ظواهر عنف كما هو موجود في العقود
الأخيرة ، فمتى ما تخلت الدولة العربية عن ممارسة العنف مع أفراد المجتمع و
منها مع التيار الإسلامي فإن وضع الحرية سيختلف بلا شك .
مشكلة التعليم في مجتمعاتنا العربية المعاصرة تطول جميع هذا المجتمع ، و من
ثم فإن أي مجتمع يعاني إشكالية في نظام تعليمه يؤثر ذلك في طريقة تعامله
مع ما يحيط به ، فالمجتمع المتعلم ليس كالمجتمع غير المتعلم ، و كذلك
المجتمع الذي يراعي نوعية التعليم يختلف عن آخر لا يهتم بنوعية التعليم ، و
من هنا فالمجتمع غير المتعلم لا يمكن له التعامل أو الاستفادة من الحرية
بصورة سليمة أو صحيحة ، فالتعليم يوفر جزء مهم من الوعي لدي الإنسان ، صحيح
توجد نماذج ممن لم ينتظموا في التعليم إلى نهايته و لم يتحصلوا على شهادات
عالية و تمكنوا من الوصول لمكانة متميزة و استطاعوا أن يعوضوا عدم
حصولهم على تلك الشهادات بالقراءة و المطالعة و النقاش و حضور المنتديات و
الكتابة و لكنهم ليسوا بالقاعدة ... عموماً فالتعليم يوفر للإنسان العربي
قاعدة مهمة للوعي و صحيح أيضاً أننا نعيش أزمة في العلاقة بين التعليم و
الثقافة باعتبارهما رافدان مهمان لتشكيل الوعي أو عدم مراعاة التعليم
الجوانب الجوهرية للإسلام أو عدم مراعاة هذا التعليم الإسلام أو في نوعية
هذا التعليم ، الذي يساعد الإنسان في معرفة حقوقه و واجباته ، و المطالبة
بحقوقه على أسس راسخة ، و من هنا عندما لا يجري المجتمع العربي إصلاحات على
نظم تعليمه فلن تتقدم مسيرة الحرية ، و لعل ظاهرة العقول العربية المهاجرة
غنية عن التعريف ، حيث أن أحد أسبابها أن العلماء و الأخصائيين و
الأكاديميين لا يجدون مناخ جيد من الحرية لكي يعبروا عن أفكارهم أو
إكتشافاتهم .
ليس لدى أفراد المجتمع العربي آلية معينة في كيفية تعامل بعضهم مع بعض ،
فكل تيار لا يريد أن ينفتح على الآخرين ،بل يريد أن يقيم سور حوله و لا
يريد أن يخرج منه و في نفس الوقت لا يريد أن يدخل عليه أحد ، و يتبين ذلك
في كيفية تعاملهم مع بعض فمثلاً لا زال الإسلامي يتوجس من الماركسي و كذلك
الماركسي يبادله الشعور لأسباب معروفة ، و كذلك لا يريد العلماني من
الإسلامي أن يحافظ على مقدساته و هذا خطأ يقوم به العلماني ، يقابل بخطأ من
الإسلامي حيث يحمل العلماني في إبداعه أكثر مما يحتمل كما يحدث في بعض
الأعمال الأدبية أو الفكرية .
السؤال المهم المطروح هنا هو : باعتبار - النقطة السابقة - نقول ما مدى
بحث و تحاور التيارات الموجودة في المجتمع العربي المعاصر و المختلفة في
وجهة نظرها نتيجة اختلاف المرجعيات ، بأن نتفق على مسائل كبرى للحرية بحيث
تعتبر متفقات - مسلمات إن صح التعبير - المجتمع حول الحرية فلا يستطيع أحد
أن يتعرض لها ، و لنضرب مثال يقرب الصورة أكثر لو تعرض مجتمع ما لعدوان أو
غزو من طرف خارجي عليه ، فإن أفراد المجتمع سيهبون و يجمعون على أهمية
مقاومة الغزو أو العدوان و سيعملون لتحرير الأرض ، فأرى أنه بالحوار و
النقاش سواء كان مباشر أو غير مباشر نستطيع الوصول إلى بعض المواقف و
الآراء التي تصوغ مفهوم معين للحرية ، لكي يتكون لدينا رأي عام موحد حيال
الحرية ، و هذا يتطلب توافر رغبة صادقة و ثقافة سليمة و احترام للإختلاف و
إنتماء صادق للمجتمع .
و لعل النقطة السابقة تدعونا للحديث عن التيار الإسلامي تحديداً ، فهل
يستطيع هذا التيار العريض و الكبير بمختلف توجهاته ، سواء كانت معتدلة أم
متشددة منفتحة أم منغلقة - لا ننسى أن نذكر هنا أن هذه التقسيمات تخضع
للنسبية ، فيمكن أن ينتقل المعتدل في قضية / موقف إلى متشدد في قضية / موقف
آخر - فهل يستطيع هذا التيار بمختلف قراءاته للإسلام أن يتوصل إلى نقاط
إتفاق فيما بينهم على أقل التقادير ، أرى أنه إذا تحقق ذلك فسوف يتغير
حالنا إلى حال أحسن