العلاقة بين الشرق والغرب..حوار أم صراع؟* د. علي عبدالهادي المرهج
- مَن هو الشرق؟
الشرق بالنسبة لنا ذلك المكان الذي يعيش فيه أغلب العرب والمسلمين، فيه
أجزاء كبيرة من آسيا وأجزاء أخرى من أفريقيا، متمثل بدول مثل الهند
وباكستان وإيران وأندونيسيا وماليزيا والمشرق العربي ودول المغرب العربي
وبعض دول أفريقيا السوداء.
الشرق: ذلك المكان الذي يمثل بالنسبة للغرب، بلاد السحر والفن، ومسكن
الروح، منبع الخيرات، بلدان الشرق، بلدان الثراء والكنوز، متمثلة بآثاره،
لاسيما آثار بلاد الرافدين وبلاد النيل. إذن الشرق يمثل في ذهن الغربي تلك
الأرض التي تحتاج إلى مستثمر، ولا يوجد مستثمر غيره، فهو من يمتلك العقل
والتقنية متمثلة بالعلم، بينما الشرق جاهل يعيش عوالم السحر والشعوذة، ولا
بد من معين يعينه على أن يعي أهمية المكان الذي يعيش فيه، ولتنشيط هذا
الوعي مقابل، هذا المقابل هو استثمار الأرض واستغلال البشر. وهذا لا يتم
الا عن طريق الاستعمار، تلك الكلمة التي تحمل دلالة الاستغلال وفي الوقت
نفسه دلالة الإعمار.
- مَن هو الشرقي؟
الشرقي ابن بيئته، ذلك المنسجم مع الطبيعة الروحية للمكان، الشرقي الذي
يشكل الدين جوهر حياته والذي يجعل العقل في خدمة الإيمان، ذلك هو تصور
الغربي له، الذي تجاوزه الغرب بسبب حركات الإصلاح الديني على يد مارتن
لوثر، الذي مهد لقبول فكرة الفصل بين الديني والمدني، تلك الفكرة التي جعلت
التصور الغربي للمجتمع الشرقي على أنه مجتمع يغلب العاطفة على العقل.
وبالتالي، فهو مجتمع جاهل لا يستطيع أن يدير نفسه بنفسه. إذاً فصورة الشرقي
في ذهن الغربي تحمل هذه الرؤى والتي ملخصها:
1. ان الشرقي يغلب الإيمان على العقل. وبالتالي، يغلب الدين على العلم، يعيش حالة متأصلة من حالات التخلف والجهل.
2. يعد السحر والشعوذة مكونين أساسيين من مكونات العقل الشرقي.
3. ليس لديه القدرة على استثمار الأرض والخيرات نتيجة لهذه العقلية الخرافية.
4. تداخل الاسطورة مع الدين، مما يجعل هذا العقل بعيدا عن الإيمان بالسببية
والضرورة، بمعنى ان العقل الشرقي عقل عرفاني في مقابل العقل الغربي الذي
هو بطبيعته عقل برهاني استدلالي، وذلك ما ذهب إليه أغلب المستشرقين، لاسيما
«رينان» المستشرق الفرنسي الذي بنى نظريته في ضوء الاعتقاد القائم على
القول بوجود عقلين: عقل «سامي» بطبيعته عقل سحري غنوصي باطني يمثله اليوم
العرب والمسلمون، وعقل «آري» بطبيعته استدلالي برهاني يمثله اليوم الغرب
متمثلا بأوربا.
5. في المقابل، هناك صورة أخرى تحمل في طياتها انطباعا إيجابيا عن الشرق،
وإن كانت لا تخلو من بعض الرؤى آنفة الذكر. هذه الصورة هي: أن الشرق يمثل
الملاذ الآمن الذي يجسد الفردوس الأرضي، لذلك نجد الكثير من المستشرقين
يكتبون عن سحر الشرق لصفاء سمائه، ونقاء هوائه، وهو مهبط الأنبياء والرسل.
6. تصوير الشعب المسلم على أنه يمثل تهديدا حقيقيا للعالم المسيحي، وقد
تصورت أوربا في مطلع العصور الوسطى أن هناك شعبا هائجا اسمه «العرب» أو
«السراسنة» نسبة إلى سارة زوج النبي إبراهيم. صورتهم هذه «الأسطورة» على
أنهم «برابرة» يغزون إسبانيا وإيطاليا.
- مَن هو الغرب؟
الغرب هو ذلك الاسم الذي يطلقه العرب والمسلمون على أوربا وأمريكا
الشمالية، والذي تغلب عليه الديانة المسيحية كدين رسمي لشعوب هذه المنطقة.
وان كانت الديانة اليوم لا تشكل جوهرا أساسيا في حياة هذه الشعوب لاسيما
بعد حركات التنوير في القرن السابع عشر والثامن عشر والثورة الصناعية في
القرن التاسع عشر، وبالتالي، فالصورة السائدة عن هذا الغرب أنه مجتمع مادي
بمعنى مجتمع لا ديني، ذكرنا سابقا أنه حاول التخلص من سطوة الكنيسة وسلطة
رجال الدين وذلك ما مهدت له حركات الإصلاح الديني على يد البروتستانتي
«مارتن لوثر» والكالغيني «راموس» وهؤلاء رجال دين استاؤوا من سلطة الكنيسة
الكاثوليكية.
- مَن هو الغربي؟
لما جاءت الحركات التنويرية متمثلة بالفلسفة الحديثة التي جاءت متقاطعة مع
رغبة الكنيسة في الهيمنة ومع ما سارت عليه الفلسفة في العصور الوسطى والتي
جعلت من العقل أداة بيد رجل الدين أو جعلت العقل في خدمة الإيمان. فلما
ظهرت فلسفة فرنسيس بيكن التجريبية التي جعلت المصدر الأولي للمعرفة هو
التجربة، أو لما جاءت فلسفة ديكارت العقلانية التي جعلت العقل المصدر
الأولي أو الأساسي للمعرفة. لما سادت هاتان الفلسفتان، فإن مسار العقل
الغربي أخذ بالتغير، فبدلا من جعل العقل في خدمة الإيمان، أصبح العقل هو
الأساس الذي نحتكم إليه في صدق المعرفة وقيمتها، وأصبح الإنسان هو مركز
المعرفة بعد أن كانت الميتافيزيقا هي مركز المعرفة، وبالتالي تحول المجتمع
الغربي من مجتمع ديني إلى مجتمع لا ديني، بمعنى آخر أن الدين لم يصبح
المنطلق الذي تقيم من خلاله معارفنا أو علاقاتنا مع بعضنا البعض، بل أصبح
أمرا فرديا، يعود لقناعات الفرد، وللفرد حرية المعتقد بما فيه حرية
الإلحاد.
هذا الغرب العقلاني المادي العلمي، بهذه النزعات التي تنطوي على إيمانه
بأنه الأفضل والأقوى طبقا للنظرية الداروينية القائلة بالبقاء للأفضل
الأقوى، أصبح بحاجة لمناطق استثمار ومناطق تجريب لقوته، ولا يوجد غير الشرق
بوصفه المكان الافضل لتحقيق هذه النزعات. فضلا عن ذلك، فإن هذا الغرب لم
ينس في يوم من الأيام أنه الغرب المسيحي الذي جاءت الديانة الإسلامية
لتزعزع كيانه ليس في الشرق فحسب مهبط الديانة اليهودية والمسيحية، بل في
الغرب مركز الديانة المسيحية.
صورة الغرب في أذهان الشرق:
بطبيعة الحال، تختلف صورة الغرب في أذهان الشرق، لاسيما وأن الشرق يعيش
حالة مميزة من حالة التخلف والجمود بداية مع ما يسمى بالعصور المظلمة بعد
سقوط بغداد سنة 656هـ. فبعد أن كان الشرق يمثل الحضارة المزدهرة حتى سقوط
بغداد وبعد انتشار الإسلام في أغلب أصقاع العالم، وبعد ان كان هارون الرشيد
يخاطب الغمامة «أينما تمطرين فإن خراجك يعود إليّ» أصبح هذا الشرق
(المسلم) يعيش حالة واضحة من حلات التشتت والفرقة والانهزام، وأصبحت هناك
أكثر من دولة إسلامية، دولة عباسية في بغداد، وفاطمية في مصر، وأموية في
الأندلس.
وبعد أن كان المأمون يعطي وزن الكتاب ذهبا أصبح العربي الشرقي المسلم لا
يفك الخط ولا يعلم حتى ما وصل إليه هو نفسه ولا مجال هنا لأن نخوض في أسباب
ذلك، ولكنها كثيرة، أهمها سيادة النزعة الاستبدادية في الحكم وتأصلها في
العقلية العربية والشرقية.
وفي لحظة من لحظات السبات الطويلة، دخل الغرب بآلياته وترسانته العسكرية،
لكي يستيقظ «الشرقي» على فرقة عسكرية وآلات ضخمة للاستكشاف لكي تقول له:
«جئنا محررين ولسنا فاتحين».
مع هذه اللحظة، لحظة دخول نابليون عام 1798 إلى مصر، بدأت تشكل صورة جديدة للغرب تتصف بما يلي:
1. الغرب المتقدم (المتطور) يدل على ذلك تلك التقنية والترسانة العسكرية
التي استقدمها نابليون معه، فضلا عن وجود الطاقات العلمية المرافقة له،
كالمهندسين والاداريين والجيولوجيين والآثاريين. كل هذه التوجهات العلمية
التي غابت عن العرب والمسلمين بعد سقوط بغداد، جاءت أكثر تقدما وتطورا مع
نابليون.
2. الغرب المستعمر الذي يريد استغلال خيرات هذه الشعوب وتكريس الجهل في هذه البلدان.
3. الغرب المسيحي الذي يريد ان يلغي الإسلام بنشر المسيحية في هذه البلدان
المسلمة لاسيما وان النظرة السائدة عند الغرب حول الإسلام انه فرقة هرطقية
مسيحية الأجدر إرجاعها إلى الطريق الصحيح، طريق الديانة العيسوية بكل
معتقداتها. هذا الاعتقاد بأن وجود الغرب على أراضي الشرق هو وجود مسيحي،
أيدته حركات التبشير المدعومة من دول أوربا بمؤسساتها الدينية والمنتشرة في
كل البلدان العربية، وبالتالي مجيء الاستعمار هو عودة للصراع المسيحي
الإسلامي، غايته الهيمنة.
4. الغرب القوي المتجبر الذي يحمل النزعة ذات الطابع السلطوي التي تجعل منه مركزا ومن الآخرين هوامش تابعين له.
الموقف من الغرب:
في ضوء ما سبق يمكن القول إن الفكر العربي والمجتمع العربي والشرقي في الوقت نفسه انقسم إلى عدة اتجاهات حيال الغرب:
1. اتجاه يرفض الغرب برمته ويدعو إلى العودة إلى صدر الرسالة الإسلامية
متمثلة بالقرآن الكريم والسنة النبوية وسيرة الأئمة والصحابة. وهذا الاتجاه
يرى ان المسلمين «لا يصلح آخرهم إلا بما صلح به أولهم» وأن سبب تأخر
المسلمين هو عدم معرفتهم بأمور دينهم. تمثل هذا الاتجاه بكل الحركات
السلفية والأصولية، ويمكن ان يسمى كما يقول فؤاد زكريا «المغترب زمانا».
2. اتجاه يؤمن بالتقدم الغربي ويعتقد بضرورة أن نبدأ مما انتهى إليه
الآخرون، والنتاج الغربي هو نتاج حوار حضاري، كانت الحضارة الإسلامية مكونا
أساسيا من مكوناته. لكنه في جزء منه يعتقد ان الحضارة الإسلامية اندثرت
وما عادت مقولاتها تنطبق على يومنا هذا، والأجدر ترك الماضي (التراث)
والالتفات إلى الحاضر- التقدم الذي يمثله الغرب بكل إمكانياته العلمية
والتقنية، وهنا يمكن تسمية هذا الاتجاه «بالمغترب مكانا» يمثل هذا الاتجاه
أغلب الحركات والاتجاهات العلمانية واللادينية في الفكر العربي المعاصر.
3. اتجاه توفيقي، يعتقد بضرورة التوفيق بين معطيات الحضارة الغربية
المعاصرة ومعطيات الحضارة الإسلامية، ويميل إلى ان تكون البداية، هي تأسيس
المسلم في ضوء الإسلام الأول الذي لا يتعارض مع التقدم والتعقل بوصفهما من
منتجات الحاضرة الإسلامية، فالقرآن الكريم جاء ليؤيد العقل ولا يتعارض معه،
وبالتالي فكل منتجات العقل البشري التي تخدم الإنسانية هي من مقتضيات النص
الديني (القرآن والسنة النبوية) فضلا عن إيمان اصحاب هذا الاتجاه
بالاجتهاد الذي يجعل من النقل حاكما وطريقا في الحكم، أفضل من مثل هذا
الاتجاه، أصحاب التيار الديني الإصلاحي، متمثلا بالأفغاني ومحمد عبده وصولا
إلى محمد باقر الصدر.
مظاهر الحوار والصراع بين الشرق والغرب:
لقد كان الشرق، كما هو معروف، سباقا في البناء الحضاري، تمثل ذلك بحضارتي
وادي الرافدين وبلاد النيل (مصر) وهاتان الحضارتان كانتا أساس الوعي
العمراني والقانوني والإداري قبل أكثر من أربعة آلاف سنة. فضلا عن وجود
الحضارة الفينيقية التي هي حضارة سوريا وجزء من الأردن ومصر. وهي بالتالي
حضارة شرقية، كذلك فإن ازدهار الحضارة اليونانية في جزء من أجزائها كان في
مصر وتحديدا في الإسكندرية، وهناك من يروي عن قصة زيارة «فيثاغورس» إلى مصر
وهو من أوائل الفلاسفة اليونان. ويقال أنه تعلم علم العدد من الفراعنة،
فضلا عن وجود اعتقاد عن زيارة سقراط وأفلاطون وأرسطو لبلاد النيل. وهذا
نذكره ليس من باب التباهي أو الأفضلية والأسبقية الحضارية التي ينكرها
الغربيون والمستشرقون تحديدا.
فيما بعد وأثناء انتشار الديانة الإسلامية، نجد المسلمين أكثر اهتماما
بعلوم الغير، تجلى ذلك في عهد المأمون المأمون فحينما أسس بيت الحكمة كان
يهتم بعلوم اليونان وبترجمتها، وبفضل هذه الحركة العلمية (الإسلامية) أصبح
العرب والمسلمون حلقة الوصل بين علوم اليونان وأوربا، لإعطائها بعدا
تجريبيا بعد ان كانت علوما نظرية تجريدية. ومعروف لدينا اهتمام العرب بعلوم
الطب والفلك والرياضيات، والموسيقى، ومعروف فضل علمائنا الخوارزمي،
الرازي، الكندي، الفارابي، ابن سينا، جابر بن حيان، ابن الهيثم، المنصوري،
ابن النفيس، ابن باجه، ابن طفيل، ابن رشد، ابن خلدون، معروف فضلهم على
الغرب، ونشر العلوم في مدارس اللاتين وأثرهم في الحركة العلمية في عصر
التنوير الاوربي بعد ان كانت أوربا تعيش سباتا مطبقا.
انتشر الإسلام في اسبانيا، ولا نريد الخوض في إشكالات الوجود الإسلامي في
إسبانيا، لكن الذي لا ينكر هو ما قدمه المسلمون من عمران وحركة علمية ونشر
لديانة التسامح في هذا البلد، فالإسلام لم يدخل فقط كما يذكر المستشرقون
لحصد أموال الجزية كما يروج لذلك، بل كان دخول الإسلام في ضوء قبول الآخر
المضطهد للمتقدم (المسلم) في ذلك الوقت، فقد وجد الإسلام صدى عميقا في جميع
الاوساط اليهودية والمسيحية. «فالابيونيون» أي اليهود الذين لا يعتبرون
المسيح النبي الذي بشر به موسى، الابن الوحيد لله- كانوا على الأرجح مرحبين
بالإسلام: وكذلك المسيحيون القريبون جدا من الابيونيين أيضا إذ ينظر هؤلاء
إلى المسيح كرجل وكنبي. وكانوا في اتساق مع التقاليد اليهودية، ينادون
بوجوب الختان وبإطاعة الشريعة، وهؤلاء باعتقادنا مهدوا لقبول الإسلام في
الأرض المسيحية (بنظر روجيه غارودي: الإسلام في الغرب، دار الهادي، بيروت،
ط1، 1991، ص29). وإلا لماذا انتشر الإسلام بهذه السرعة، هل السيف وحده كفيل
بنشر فكرة ما؟ أنا اعتقد أن الفكر لا يمكن ان ينتشر بالسيف فقط إذا لم يكن
له مقبولية عقلية أو يشكل خلاصا من ضغط ما في زمن ما.
من جهة أخرى، كان هناك صراع بين الغرب والشرق تمثل بالصراع بين الإسلام
والمسيحية، فبعد ان انتشر الإسلام إلى الصين آسيويا، وفرنسا أوربيا، كان لا
بد من مواجهته. وكانت أولى المواجهات هي بالحروب الصليبية التي كانت تجعل
من الصليب شعارا للقضاء على الإسلام والمسلمين، ومعروف لنا كيف صد «صلاح
الدين الايوبي» القائد المستبد زمن الصليبيين. نحن لسنا في مقام التعريض
بالمسيحية ولكن شعار هذه الحملة كان الصليب، أما المسيحيون فقد كانوا ولا
زالوا يعيشون في المجتمع الإسلامي، ومعروف دورهم ومشاركتهم في بناء الحضارة
الإسلامية، فأغلب المترجمين في العصر العباسي وأهم الأطباء كانوا من
المسيحيين وكانوا يحصلون على حضوة عند الخليفة العباسي يحسدهم عليها
المسلمون أحيانا.
أيضا تمثل الصراع في العصر الحديث في الاستعمار. وقد تكلمنا آنفا عن دور
الاستعمار في تشكيل صورة الغربي في ذهن الشرقي والعربي، والذي يمثل
الاستشراق بكل ايجابياته رديفا له، الاستشراق الذي كان من أهم أهدافه
التخلص من الإسلام. مثل هذه الرؤية تبناها أغلب المستشرقين لاسيما رينان
و«كارل هنريش بيكر (1933م) وسنوك هيرفونيه (1936م). فضلا عن المدارس
والحركات التبشرية في كل من مصر ولبنان والعراق وسوريا وليبيا والمغرب
وتونس والجزائر.
ختاما، لا يفوتنا ان نذكر بالطروحات المعاصرة التي سادت في الفكر الغربي
متمثلة بأطروحة نهاية التاريخ لفوكوياما وصدام الحضارات لهنتينكتون، فضلا
عن اطروحة توفلر حول حضارة الموجة الثالثة والتي تصب كلها في خدمة فكرة
«العولمة» التي لم تبق في إطار كونها فكرة بقدر ما كان الغرب ساعيا ولا زال
إلى تطبيقها، والتي تذهب إلى تكريس المقولة السابقة المؤمنة بمركزية الغرب
وهامشية الشرق، أو التي تقسم العالم إلى بلدان شمال وبلدان جنوب، سادة
وعبيد، ضمن مفهوم«القرية الكونية» الذي يكرس مفهوم التبعية ومحاولة خلق
مجتمعات استهلاكية تدين باستهلاكها للمجتمع المنتج متمثلا بالمجتمع الغربي
والامريكي تحديدا، والذي يجعل مفهوم «الدولة الرخوة» قابلا للتطبيق، بقصد
إلغاء الهويات الوطنية وتذويبها ضمن دولة المركز، وذلك عبر نشر ثقافة
وتقاليد وحضارة هذه الدولة التي تتمحور حول محاولة المرادفة بين «العولمة»
و«الأمركة»، من خلال تقزيم أوربا وتهميشها متمثلة بفرنسا وبريطانيا
وألمانيا، وبناء رؤية عن الإسلام لا تبتعد كثيرا عن الإسلام الذي صوره
المستشرقون سابقا، وهو إسلام متطرف يلغي الآخر بوصفه يشكل خطرا على الثقافة
المسيحية، ولذلك لا بد من مواجهته كونه يشكل آخر معاقل التهديد للثقافة
الليبرالية الغربية لاسيما الأمريكية، بالخلاص منه نصل إلى نهاية التاريخ
متمثلة بتتويج الليبرالية عرش العالم، كما يقول فوكوياما.
نعتقد أخيراً أن ما ذكرناه كفيل بالإجابة على السؤال الذي طرحناه في
العنوان، وهو العلاقة بين الشرق والغرب، صراع أم حوار؟ والنتيجة أن الصراع
هو الذي أصبح أكثر حضوراً، إذا لم نقل أنه ألغى الحوار.