هذا الكتاب فريق العمـــــل *****
عدد الرسائل : 1296
الموقع : لب الكلمة تاريخ التسجيل : 16/06/2009 وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 3
| | محاولة في فهم الأسباب النفسية التي كانت وراء التصويت الكبير لحركة النهضة في انتخابات 23 اكتوبر بتونس | |
هل إقتربَتْ فيدرالية - [b]"ارث الدكتاتور والمكبوت السياسي"
ماذا وقع في "الخُلوة" يوم 23 أكتوبر؟ كان ذلك التاريخ المنتظر بمثابة يوم موعود يختبر فيه التونسيون حريّة نالوها بعد نضالات وتضحيات كبيرة تمخضت عنها ثورة 14 جانفي 2011. لقد اتّفق الشعب التونسي على الثمن الباهظ الذي دفعه من دماء أبناءه وبناته لأجل أن يعيش تلك "اللحظة التاريخية", التي تأجلت مرّة أولى بعد أن كانت مقررة يوم 24 جويلية وكادت أن تتأجل مرة ثانية, ولكن شاءت إرادة الشعب أن يصير يوم 23 أكتوبر يوما يشهد فيه التونسيون أول انتخابات تأسيسية حُرّة ونزيهة بعد الاستقلال. يوم الاقتراع كان يوما مشهودا, عرف إقبالا على مكاتب الاقتراع بشكل منقطع النظير. كل شيء كان يُنبئ بنجاح انتخابي باهر حتى أن الرئيس الأمريكي "أوباما" كان أوّل من غازل الشعب التونسي, وقال "إنه غير مسار التاريخ." بعد سكرة يوم 23 أكتوبر الانتخابية, والأصداء العالمية الواسعة التي شهدتها انتخابات المجلس التأسيسي, أفاقت شريحة كبيرة من التونسيين على "صداع رأس" يوم 24 أكتوبر, تلا الإعلان عن النتائج الأولية للانتخابات, التي أفرزت فوزا ساحقا لحركة النهضة الإسلامية, ليتساءل البعض وسط حالة من الذهول والصدمة: ماذا حصل في "الخُلوة" يوم 23 أكتوبر؟ لا أحد يُنكر أن حركة النهضة كانت المُرشح الأوفر حظا في هذه الانتخابات وذلك لأسباب عديدة. ولكن التوقعات كانت لا تتجاوز حصولها على %30 من أصوات الناخبين في أقصى الحالات وهو ما يُعد نسبة مئوية فائقة. أما أن تتحصل على %45 –حسب ما أفرزته النتائج الأولية عند كتابة هذا المقال- يُعدّ زلزالا انتخابيا بكل المقاييس. لقد حاولنا في هذا المقال الوقوف على أحد الأسباب النفسية التي ربما جعلت التصويت للنهضة يكون بهذا الشكل, مدركين حتما أن هناك أسبابا أخرى اقتصادية وثقافية واجتماعية وسياسية لن نستطيع أن نُلمّ بها جميعا. إننا لن نفهم سرّ الإقبال الكبير على التصويت لحركة النهضة الإسلامية ما لم نفهم ماذا كانت ترمزُ إليه هذه الحركة في العهد النوفمبري المُباد, ولكننا لن نفهم خيبات العهد النوفمبري دون التعريج كذلك على الحقبة البورقيبية. لن نكون مُغالين حين نقول إن زين العابدين بن علي, الرئيس المخلوع, كان رمزا "للأب السّيئ" للتونسيين. فرض عليهم أُبوّة قسريّة وغير شرعية حين انقضّ على السّلطة في 7 نوفمبر 1987, وأزاح "الأب الحديث" -الحبيب بورقيبة- "الأب الشرعي" لتونس الحديثة, الذي استمد شرعيّته من تاريخه النضالي في الحركة الوطنية, وعبر ما أرساه من دعائم الدولة الحديثة ومكاسب مُتعددة ليس هذا مجال ذكرها. الكل يشهد أن بورقيبة الثاني-على عكس الأول- كان دكتاتورا. انفرد بالسّلطة بعد عمليّة إقصاء وإخصاء مُنظَّم لمعارضيه, ضانا منه أنّه "الرّجل" الوحيد الأحق "بممارسة" السّلطة والقادر على إدارة شؤون البلاد. ضُربت الحركة اليوسفية وغيرها من التنظيمات السياسية المُعارضة لتصبح السّلطة السياسية في تونس حِكرا على "الأب المؤسس", ومتعة مُحرّمة على الآخرين لا يُمارسها إلا هو. لقد صارت السّلطة السياسية في تونس مع تتالي العشريات في الحقبة البورقيبية ضربا من الطابو-المحرّم, مُمارسة ممنوعة ومتعة مقصورة على "الأب المؤسس". وبقدر ما تمتّع "الأب المؤسس" بالسّلطة بقدر ما تنامى صرح المكبوت السياسي لدى الآخرين الراغبين في ممارسة السّلطة, والمشاركة في مُتعة "الأب" الحصرية. لم يقطع بورقيبة رغم حداثته المشهودة مع تاريخ طويل من الاستبداد السياسي الذي يعود إلى أوائل التاريخ الإسلامي. لقد "تزوّج" بورقيبة السلطة فعلا يوم عّيّنَ نفسه رئيسا مدى الحياة, جاعلا من "أبنائه" الطامعين في الحكم لا ينظرون إلى السّلطة إلا بعين الشذوذ الرهقويّة, ليكتمل طابو-المُحرّم والمكبوت الجنسياسي. لطالما كان المُعارضون زمان بورقيبة يوصفون بالاّوطنيين والجاحدين, وبلغ الأمر أحيانا حدّ تخوينهم لأنهم تجرؤوا ورغبوا في "مُتعة الأب المُحرّمة". ليأتي انقلاب 7 نوفمبر 1987 ليطيح "بالأب الشرعي" فيستفرد الجنرال بن علي بكل مُتعة "الشجرة المحرّمة" ويستولي على الإرث الممنوع الذي ظلّ يتشوّق إليه وعمل للحصول عليه طوال الفترات الأخيرة لحكم بورقيبة. بن علي هو أحد "الأطفال الأخيرين" لبورقية. ابن "بورقيبة الثاني"-الدكتاتور- وأثقل التركات التي تركها للتونسيين بعد أفول عصره الذهبي وفشل تجربة التعاضد. يمكن أن نقول أن بن علي هو كل ما هو سيّء في بورقيبة, الدكتاتور, النّرجسي, المُستبد, صاحب "الزوجة الجشعة", الدّموي... يبقى الإرث الدكتاتوري الثاني الذي أورثَنَاه بورقيبة وهو أخطر من بن علي, والذي يكمن في فهم سيّء للسلطة ولعلاقة الحاكم بالمحكوم. لقد أصبحت السلطة ضربا من "المُتعة المطلقة" في يد من يملكها, وشيئا لا يرْقبُه الآخرون إلا "بعين الإثم" والشذوذ. لقد صارت الرّغبة الشّرعية في الحكم, التي ينص عليها الدستور, ضربا من الإثم الذي يعاقَبُ عليه. استفرد بن علي بالسلطة في انقلاب 7 نوفمبر 1987 ليصير "الرّجل" الوحيد و"المْعلِّمْ" الجديد الذي "تزوّج" بدوره السّلطة ليحرّمها على الآخرين بعد أن خالها البعض صارت "حلالا" "يخطب" الجميع ودّها عبر الانتخاب "الشّرعي". هذا هو درس السّلطة الذي استبطنه بن علي من التجربة البورقيبية, وترسّخ لدى التونسيين في ما بعد. إن إقصاء وإخصاء الآخر هما مُلخّص ما أسفرت عنه التجربة التونسية الأولى في ممارسة السّلطة إبّان الحقبة البورقيبية. علاقة استحواذية مع الحكم وشكل استبدادي للسلطة استبطنه التونسيون ليصير "موديلهم" الوحيد الذي لم "يَرضعوا" غيره طوال الحقبة البورقيبية الطويلة, والذي عرف أوج شذوذه مع الدولة البوليسية في الحقبة النوفمبرية. لقد صار الاستبدادُ عبر الدولة البوليسية كل المُمكن السياسي, وبات التصوّر أو التمثّل الوحيد لشكل للسلطة. ولو سألت المواطن التونسي البسيط قبل أشهر من اندلاع الثورة عمّا يتمثّله في ذهنه حين يسمع كلمة "سُلطة" فستكون حتما كلمات من قبيل: فساد, استبداد, ظلم, دكتاتورية...يهمس لك بها بصوت خفيض إن كان يثق في أنّك لست من البوليس. إن بن علي الذي انقضّ على السّلطة في نوفمبر الأسود ما كان بأي حال من الأحوال أن يكون ديمقراطيا –فاقد الشيء لا يُعطيه- لأن التقليد السّلطوي الذي أنجبه هو كل ما في بورقيبة من "أب سيّء". إن الابن الذي ورث دكتاتورية لا يمكن إلا أن يكون دكتاتورا. قتل "الابن الرّهيب" "الأب المُؤسس" إذا, ليستولي على "شجرة السّلطة المُحرُمة" فيتمَتع بثمارها مُتعة مطلقة, ويجعل من عيدانها سياطا يجلد بها كل من سوُلت له نفسه الاقتراب. وهنا يظهر الإسلاميون في المشهد مُعلنين هم كذلك عن رغبتهم في التمتع و"الزواج" بسلطة كانت بعد شيخوخة "الأب المؤسس", شيئا في المتناول خططوا للاستيلاء عليه قبل أن يخطفها منهم بن علي "الرّجل" الجديد. لقد وقع إخصاء الإسلاميين وإقصاؤهم زمن بورقيبة وتواصل الأمر مع بن علي الذي جعل منهم غُرماءه الأساسيين واستمد شرعيته من مقاومته لهم "كإرهابيين", ليحافظ بدوره على "طقس الشجرة المُحرّمة". وخاب الرجاء في الحقبة النوفمبرية التي زادت من حدّة المكبوت السياسي لدى جميع أطياف الشعب. صارت السّلطة زمن بن علي "المُحرّم بامتياز" وصار "رهط الإخوان", إسلاميو النهضة, في الذهنية الشعبية, مرادفا لكل ما هو مُعاد لنظام بن علي, مما دفع الناس إلى التعاطف معهم كشكل من أشكال الانتقام من بن علي, "الأب السيئ". بن علي "الرّجل" الوحيد الذي يتمتع بالسّلطة, والإخوان "خصيان". ومن ورائهم شريحة كبيرة من الشعب التونسي تتطلع إلى السلطة "بعيُونهم", وتقاسمهم نقمتهم وحقدهم على الحقبة النوفمبرية. علينا أن نشهد للإسلاميين بأنهم أكبر من دفع ثمنا باهظا جرّاء "شوقهم السّلطوي المُحرّم", مما جعلهم في الذهنية الشعبية وبطريقة لاشعورية, الأحق بنيل السّلطة بعد رحيل بن علي. لقد سُجِنوا وعُذِبوا وقُتِلوا أو هُجّروا و تعرّضوا لمُضايقات عِدّة. ولكن قمعهم وكبتهم وصدّهم عن السّلطة خلق لديهم ردّ فعل عكسي. فكلما كُبِتوا ازدادوا ولعا "باللّذة المُحرّمة". كما صارت السّلطة: "الممنوع" الذي يتوق لممارسته الجميع, لتصير حركة النهضة لدى شريحة كبيرة من الشعب التونسي "ممنوعا" آخر, ومُرادفا لكل من يحمل "رغبة ممنوعة" يُحرّمها النظام. لقد اختزلَت حركة النهضة الإسلامية واختزنت غيظ ورغبة شريحة كبيرة من التونسيين الراغبين بدورهم في قتل "الأب السيئ", ومُمارسة "اللذة المحرّمة". لتصير هذه الحركة مع الوقت "الممنوع" القادر على إشباع الكبت السياسي. إنهم الإخوان, أو "عصابة الإخوان" بعبارة فرويد, القادرون على قتل "الأب السيئ". ورغم أنهم لم يقتلوه وإنما أطاحت به ثورة شعبية عارمة, فإن انتخابات 23 أكتوبر جعلت من "عصابة الإخوان" إلى حدّ الآن –زمن كتابة هذا المقال- الورثة المُنتخبين لبن علي. إن الخطر كل الخطر في أن يكون الإخوان قد "استبطنوا" بن علي لشدة احتكاكهم به. لقد حملوا آثاره على أجسادهم, و في ذاكرتهم. إنّ فيهم, رغما عنهم, الكثير منه, هو حاصل لعبة المرآة التي لا مفرّ منها. الخشية أيضا في أن يكون مفهُومُهم للسّلطة, "مُتعة مُحرّمة" يستفردون بها, وهو شكل السّلطة الوحيد الذي عرفوه منذ الاستقلال. إن ما حصل يوم 23 أكتوبر يمكن أن يُقرأ كانتقام من بن علي وأزلامه في الحكومات الانتقالية, جاء في شكل تصويت ساحق ضدّ كل بقايا الدكتاتور كعملية تطهير أخيرة. التونسيون صوتوا لكل من كان ممنوعا في حقبة بن علي, أجل صوتوا "ليمارسوا لذة ممنوعة" أكثر من تصويتهم للنهضة أو لحزب ما. لقد "مُورس" الاقتراع في "الخُلوة" كشيء "مُحرّم" بات ممكنا. "الخلوة" بكل إيحاءاتها الجنسية, وبكل ما يمكن أن تثيره تلك اللحظة الحميمية من رغبات مقموعة طوال سنين وسنين من الكبت السياسي. عودة المكبوت السياسي وقد بات ممكنا بعد موت "الأب السيئ". لقد كان الأمر أشبه ما يكون بالممارسة الجنسية الشاذة, أفرغت فيها شريحة كبيرة من التونسيين سنوات من القمع والكبت السياسي. إن الخروج المنتشي من "الخلوة" بإصبع عليه حبر أزرق, هو دم بكارة السلطة السياسية الجديدة, التي جعلتها الثورة في متناول الجميع, حمل في ما حمل نشوة قضيبية لا تخلو من شماتة ونكاية بالعهد المُباد. إنهم يشيرون بأصابعهم الملطّخة ويقولون "أخيرا فعلناها", خرقنا المُحرّم, ليصير الإخوان "رجالا" بعد أن لبثوا لزمن طويل, "خصيان" سياسيين رغم "فحولتهم" السياسية التي استعرضوها بشكل مفرط طوال الحملة الانتخابية. أليست الجموع التي صوّتت للنهضة بشكل رهيب إنما "مارست" في آخر الأمر شكلا من أشكال "الرّهق السياسي", أي ضربا من ضروب "الاستمتاع بالأم" بعد مقتل "الأب السيئ؟" وإلى أي حدّ يُمكن القول بأن الذين صوتوا للعريضة الشعبية إنما صوتوا في آخر الأمر للذي وعدهم بتحقيق "اللذة المُحرّمة" –التمتع بخيرات الوطن الأم- التي لم يذوقوا منها اليوم غير الرشاوى والوعود الخيالية؟ هل "تتزوج" النّهضة السّلطة كسابقيها وتُنصّب نفسها "الرّجل" الوحيد القادر على الاستمتاع بالسّلطة, أم أنها قادرة على القطع مع تاريخ الإخصاء والإقصاء -الموروث السياسي الثقيل- وتؤسس مع "البقيّة" لعلاقة جديدة بين الحاكم والمحكوم, قائمة على مبدأ "التداول" على السّلطة وعدم التفرّد بها؟ السُنة - ؟[/b] | |
|