وأنا
أُشيح بنظري عن مشهد القذافي الأخير، تساءلت: ترى هل سنرى في يوم غير بعيد
احتفالاً شعبيا قوميا حاشدا بالتخلّص من آخر طاغية عربي، ونشيعه بالقسم
والعهد، ووضع كل القوانين التي تضمن أن لا يظهر شبيه له ولأسلافه..من جديد،
في كل بلاد العرب من المحيط إلى الخليج؟!
هل سيأتي ذلك اليوم بتحقق
الأمل المنشود بالتخلّص من آخر طاغية عربي، لتحتفل الأمة بملايينها باليوم
التاريخي القومي المشهود، كما تحتفل الشعوب بالتخلّص من الأميّة، والأمراض
المستعصية؟!
لم أحدّق مطولاً في مشهد القذافي البائس، الذي فقد غروره
وادعاءه، وفي لحظات صار مخلوقا خائفا، مرتجفاـ اللهم لا شماتة ـ وهو ما لم
يخطر بباله يوما، حين كان يصعّر خده للناس، ويمشي في الأرض مرحا، يأمر
بالقتل، والسجن، ويقرر الناس ما يأكلون، وما يلبسون، وما يتعلمون!
يزعل
القذافي من بريطانيا فيعاقب شكسبير..نعم يعاقب شكسبير شخصيا بحرمان تلاميذ
ليبيا من تعلّم اللغة الإنكليزية!..في حين يتزلف للمجرم توني بلير، قاتل
العراقيين ومدمّر العراق مع بوش، المتآمر على شعب فلسطين، والمنحاز للكيان
الصهيوني.. ويضخ لحسابه ملايين الدولارات بحجة أنه مستشار سياسي واقتصادي!
القذافي جعل من ليبيا سجنا كبيرا خانقا، يحرم فيه الإنسان من ابسط
الحقوق..فالفوضى تغرق الحياة بالتعاسة حد الجنون، والخوف يفصم شخصية
الإنسان المضطر للمجاملة على حساب كرامته، بل والنفاق للطاغية وزبانيته، أو
الصمت والانطواء على النفس، وكتم عذاباته في داخله.
في جماهيرية
القذافي عاني الليبيون من الشعور بالخجل من هكذا حاكم، وبالقهر وفقدان
الأمل، لأن الكابوس أزمن، وبات التخلّص منه في علم الغيب، فكل من يتحرّك،
ويرفع الصوت محتجا يغيّب في الظلام، وينطوي ذكره، حيث لا محاكم، ولا قضاة،
ولا قانون، ولا دولة!
الطاغية العربي الواحد المتعدد بألقاب مختلفة، في
بلاد العرب..تنطوي شخصيته على نفس الأمراض الموحدة: فهو جاهل، أناني، لا
يؤمن بشيء، لا بعروبة، ولا إسلام، ولا أهمية لديه بمصير فلسطين والقدس،
والعراق لا يعنيه، وخراب أي قُطر عربي لا يقلقه..فالمهم هو..ونسله من بعده!
الطاغية العربي: سمج، منفّر، دعي، ولذا يحقد على كل متعلم، مثقف، مستنير، متميز...
الطاغية
العربي نابذ، لذا يهرب، أو يهاجر، أو يصمت.. المتميزون..الذين قد تطاردهم
أجهزته لتصفيتهم حتى وهم في المنافي لما يتسببونه من إحراج لمجرّد مطالبتهم
بالحريّة لشعبهم!
الطاغية العربي يعيش بالنفاق، فمشروعه لديمومة حكمه
لا ينتعش إلاّ بالنفاق، ومع الوقت يصدّق حفلات النفاق التي تعيد إنتاجها
أجهزته الإعلامية، والأمنية، ويروجها بعض (كتبته)..أي مرتزقته!.
الطاغية
العربي ليس فيه طرافة وأسطورية وغرابة أطوار الديكتاتور في أمريكا
اللاتينية ـ الذي انقرض بالثورات هناك ـ ولذا لا يصلح أن يكون شخصية
روائية، أو مسرحية، فلا طرافة في شخصيته، فهو شخصية البعد الواحد ليس إلاّ!
الطاغية
العربي لا مبادئ له، فهو يكره الأفكار، والشعارات، والأحزاب، والشعراء،
والفنانين..يكرههم، ويحسدهم على شهرتهم لأنه يدرك كم أنه وضيع، ودون!
كان
القذافي قد أمر في واحدة من لحظات تجلياته (الفكرية) انسجاما مع نظريته
العالمية الثالثة،أن يمنح لاعبي كرة القدم أرقاما، لأنه لا يجوز أن يشتهروا
بينما الشعب محروم من هذه الشهرة! ..أترون روعة عدالة، ومساواة القذافي؟!
فقط عندما رغب ابنه الساعدي أن يلعب كرة القدم سمح بذكر أسماء
اللاعبين..وأمده بالملايين ليرشو ناديا إيطاليا ..فقط ليقبل به لاعبا في
الاحتياط، ولتلتقط له صورة وهو بزي ذلك الفريق!
الطاغية العربي لأنه
أعمى البصيرة، فإنه لا يتوقع أن الدور قادم عليه، وأن مصيره إمّا هاربا
كزين العابدين بن علي، أو متماوتا على السرير وهو ينقل إلى المحكمة كحسني
مبارك، أو ..خاتمة وميتة شنيعة كالقذافي!
الطاغية العربي يتوهم أنه
محبوب الجماهير، وأنه خالد أبدي..وأن الشعب سيبقى يتيما بدونه. ترى: من
أدخل هكذا يقين في رأس ونفس الطاغية العربي؟!
لو لم يعش في هذا الوهم..فماذا سيبقى له؟!
هل
يمكن أن يستيقظ الطاغية العربي من غفلته، ويخرج من وهمه، ليقول لنفسه: أنا
بشر..لست خالدا، الشعب والوطن هما الباقيان..والله هو الخالد، فأنا لست
إلها..فليبق ذكري وعملي الصالح..ولأعد الحكم لأصحابه، ولأعيش كباقي الناس
في بلد محترم، حياة محترمة!
ونحن نتابع نهاية القذافي، أشاحت زوجتي نظرها عن شاشة التلفزيون، وسمعتها تتساءل: لماذا فعل هذا بنفسه، وبأولاده وأسرته..و..بليبيا؟!
أما أنا فكنت أكرر السؤال نفسه، وإن بكلمات مختلفة، وأنا أبعد عيني عن المشهد الأخير للطاغية.
يقول لمن أسروه: أنا أبوكم..أنتم أولادي!
يا رجل: ولكنك وصفتهم بأنهم جرذان!
وأنت من أمر بملاحقتهم، ومطاردتهم زنقة زنقة.
ذكرني هذا المشهد البائس للقائد الأممي بكلمات سجعية كنّا نرددها بمرح، ونحن صغار:
أنا أبوهم بوكلهم
فترد أصوات:
أنا أمهم باحميهم
الطاغية
العربي يأكل من يدعي أنهم أبناؤه..وهو في (زنقته)، ولحظة ضعفه وهوانه
وانكشافه يطلب ممن ظلمهم، وأهانهم، وحرمهم من خيرات بلدهم.. أن يتذكروا
بأنهم أبناؤه..وأنه والدهم!
الطاغية العربي المتحكم يعيش بعقلية أنه
الأب، وأن الشعب أبناء له، وأنه من يقرر مصير هؤلاء الأبناء، وهو يبرر
لنفسه..اضطهادهم، وقهرهم، و (تربيتهم) بعنف، ويقمعهم، ليمشوا وفقا
لمشيئته..فهو الأب كلي القدرة والمعرفة، وعلى الأبناء أن يخضعوا ويخنعوا
ويكونوا مُلكا له!
الطاغية العربي يعيش خارج الزمان، والعصر، وهو مرض
مستعص، ولذا فعلاجه النهائي أن ينتهي عصر (الأب) القائد..فالوطن هو الأب
والأم ..والشعب هو الباقي، ولا كرامة للإنسان العربي في وطن يملكه شخص
وعائلته.
الطاغية العربي مكانه اللائق به حفرة يوارى بها، وإلاّ فإن
الحفرة ستتسع لتبتلع الأمة كلها..احفروا لهم، وعمقوا الحفرة، ورصوهم فوق
بعضهم، وأنتم تُنشدون مع تركه لكم الشاعر الكبير خليل حاوي:
عمق الحفرة يا حفار
عمقها لقاع لا قرار
الطاغية العربي المستنسخ هو يا أيها العرب مشرقا ومغربا: واحد واحد واحد...