جون ماري دوران عالم
أشوريات ، أستاذ في الكوليج دو فرانس و مدير بحوث في المدرسة العليا
للدراسات التطبيقية ( الأشوريات و الأكاديات القديمة ) من إصداراته "وثائق
مراسلات قصر ماري". ظهرت أول النصوص في الشرق الأوسط الناطق بالسومرية أولا ثم السامية و
ذلك بفضل الكتابة المسمارية ومن ثمة تم الحفاظ على أقدم أساطير الإنسانية.
تتحدث النصوص عن خروج آلهة من الكاوس الأول لتنتهي بخلق الإنسان. و يؤدي كل
ما تمر به الآلهة من مغامرات إلى تنظيم العالم في النهاية حيث سيعيش
الإنسان ليخدمها و يقوم بإرساء شعائرها.
أصل العالمخلق العالم يفترض وصف الكاوس، وغالبا ما كان يمثل في
سومر بمشهد سلبي طويل، هو المجتمع الإنساني مقلوبا : " في ذلك الزمن ، لم
يكن موجودا بعد …" وإلا كانت تتم الإحالة إلى تلك الأيام البعيدة حيث لا
شيء كان موجودا. في المراثي السومرية، نعثر على إحصاء لِما لم يعد موجودا
جراء التدمير و الخراب. وهكذا فُهمت الحضارة على أنها نشاط بين سَدِيمَين.
سلالات الآلهة لقد خلقت علوم السلالات (الجينيالوجيا) الخطاب التاريخي الإنساني. أما
بالنسبة للآلهة فيتمثل معادل ذلك في لائحة تشمل جميع الآلهة المعروفة مرتبة
حسب تدرج النسب و المقارنات و المحيط المباشر. وهي جداول فائقة الحد تتكون
من عدة لوحات طينية مرتبة ترتيبا لغويا أكثر مما هي مصنفة حسب الدين أو
القداسة إذ في طبيعتها تعتمد الميثولوجيا أكثر على تسلسلات السلالة. من
زوج منجب (’أن’ السماء و ’كي’ الأرض) تفرعت أجيال من
الآلهة: ’إنليل’ المشرف على الهواء والسلطة السياسية،
و إنكي أو إنقي على المياه الجوفية و مختلف مظاهر السحر.
الإنسان يخرج الآلهة من الكاوس و معهم تنجلي مسألة أصل البشرية إذ يقدم العالم
كله للإنسان من لدن إله ليس هو بالمخترع و لا المنظم. لا يوجد في الحقيقة
خالق واحد للإنسان وإنما زوج إلهي: من جهة أنثى متلاعبة مهيمنة ومن جهة
أخرى رب ذكرٌ يحدد مكان ما خلقت. نحن هنا بطبيعة الحال أمام دور الأم و
الأب في بلاد ما بين النهرين. هي في الحقيقة مجموعة من النماذج الأولية
للإنسانية والمجتمع، نماذج مخلوقة لمكونات مجتمع ما بين النهرين و هكذا نجد
الأسطورة السومرية إنكي و: "كان الكائن الثاني الذي صنعت نينماخ ضريرا غير
مبصر، ففرضت عليه إنكي فن الغناء قدرا …" تلجأ تقنية صنع الكائن الإنساني
إلى قولبة الطين وحده أو ممزوجا بدم إله، وهو ما يعطي للإنسان روحه. و لكن
نعرف أيضا تقليد " أولائك الذين زُرعوا" حسب الأسطورة اليونانية وحيث تنبت
الإنسانية من التراب كالحصاد.
حكايات أسطورية و ممارسات شعائرية لا يضمن استعمال ’النصوص الميثولوجية’ ولا معناها شيئا باستثناء تلك
القصيدة الشعرية المتعلقة بذلك الرب الجهنمي إيرا و الذي كان يعتقد أن
التعويذات التي تذكره تحفظ من مرض الطاعون. تسرد حكايات عن الآلهة و كذلك
عن تاريخ البشر البدائي؟ الآلهة سابقة الوجود بالنسبة للبشر وهم من صنعها:
لا بشر بدون آلهة قط و إن وجد ت آلهة دون وجود بشر. و لكن من الآن فصاعدا
فلا أحد منهم يستطيع الاستغناء عن الآخر. ولئن كانت نهاية الكاوس (أو
السديم) بداية لإرساء الطقوس، فإنه من الصعوبة أن نحدد صلة ثابتة بين
’الأساطير’ و ’الطقوس’. و هي غير قابلة لأن تكون ملحقة لا بكهنوت معين و لا
بمعبد ما. يُظهر نص جديد من إيحاء قديم مثل ’أسطورة (دنو) الخاصة بأصل
الإلهة ’ أن أكثر من مدينة كان ينبغي أن يكون لها تقاليد حول نشأة العالم،
بينما في هذه الحكاية حول الأصول، كان الانتباه موجها نحو الشهور التي وقعت
فيها الأحداث و هو ما يمكن أن يفسر وجود طقس كان قائما على امتداد
السنة. في بداية السنة كانت تُنشد قصة الخلق البابلية (إينوما إيليش)
بكاملها وهي تبدأ من أصول العالم حتى ظهور الإنسان و تمجيد إله بابليون
العظيم مردوك (مردوخ ). و للملحمة في جانبها التمجيدي لبابليون علاقة واضحة
بطقوس رأس السنة بيد أنها لم تؤلف لهذا الغرض و إنما هي مجرد لحظة من هذا
اليوم فقط. تعود التعاويذ حتى إلى المنابع لتتحدث عن خلق الشرور ومقدمة
الوسائل لتفاديها، وما حكاياتها القصيرة سوى مناورات سحرية.
طبيعة النصوص الميثولوجية يتناقض الطابع التكراري للنص السومري و الطابع السردي للنص الأكادي. و
كثيرا ما ينتهك النص المغالي في الفجاجة حرمة الطابوهات و كثيرا ما تُحتم
ندرة الكائنات البدائية نكاح المحارم. تقول اسطورة (دنو) السابقة الذكر: " و
الحالة هذه التفتت الأرض نحو اماكاندو، ابنها و له قالت : تعال ! لأمارس
معك الحب! و هكذا اتخذ اماكاندو من أمه زوجا، وقتل أباه (خاين). تلك مؤلفات
مجهولة الكاتب: تم الحفاظ على نسخ قليلة منها للألفية الثالثة. و في غالب
الأحيان لا يمكن إدراك في هذه الحكايات سوى البعد السببي المفسر أو المبرر
لشكل من أشكال الفعل أو الوجود و تنسب هذه المبادرات إلى القدرة الإلهية.
تحتل الأشعار الدرامية التي يكون فيها البطل ربا أو إنسانا مكانا معتبرا، و
يتجلى ذلك في مثال مكتمل أبرز ألا و هو ’ملحمة غلغامش’، ابن إلهة و ملك
محتمل عاش في أقدم العهود، و هو هكذا منقسم بين النوعين : الإنساني و
الإلهي. يسرد قصة البحث عن الخلود المستحيل من لدن إنسان هو منذور في كل
الأحوال إلى لقاء حتفه. يصلح هذا النص لأن يكون مثالا لأفعال البشر
الفانين، و يمكن أن يكون بمثابة فلسفة، نمط من ’أخلاق السلوك’ في مرحلة
أحدث. و علاوة على وحدة النَفَس و رحابته، و تجاوزه للتقاليد المحلية تنحو
النصوص إلى مستوى وطني أوسع كــ"قصة الخلق" أو تتحول إلى أثر
’كلاسيكي’ للإنسانية جمعاء كما هو الحال بالنسبة لملحمة غلغامش.
أخلاق البدايات: موت و عمل تقدم هذه النصوص فلسفة للوجود الإنساني إذ في ملحمة غلغامش، موت رفيقه
إنكيدو هو الذي يثبت للبطل أن الجسد لا يخلد سوى بفضل تذكار الأفعال. وفي
تلك الأجواء قدمت له امرأة نوعا من فلسفة ’ عِش اللحظة ’ : " إلى أين تمضي
يا غلغامش؟ الحياة التي تبحث عنها أبدا لن تجدها. حينما خلقت الآلهة البشر،
كتبت عليهم الموت مصيرا". و مجّدت له متعة الجسد و حياة المرح، و لكن على
الخصوص عظّمت زوجة ولودا و ذرية من الذكور لا تحصى. في قصيدة ’الحكيم
الأعظم’ (في إشارة إلى حكمة(
إيا) ، ذلك الإله الذي جاءته
فكرة خلق البشر)، صنع الإنسان من أجل التخفيف عن الآلهة. كان مطلع القصيدة:
"حينما كانت الآلهة هي البشر". وفي الحقيقة فبلاد ما بين النهرين بقعة شبه
قاحلة حيث كل شيء ممكن إذا ما تمت تهيئة الطبيعة: لا جنة طبيعية يجد فيها
الآلهة كل ما يرغبون في متناولهم. و من هنا و أمام غضب الآلهة و تمردها خلق
الإنسان ليقوم بالعمل بدلها.
ندم الآلهة على خطيئة خلق الإنسان تلك الآلهة التي رسخت النظام في العالم ليست غير طيبة فحسب بل هي أيضا
ناكرة للجميل إلى حد كبير: في الإنسانية جوانب مزعجة، هي كطفل مشاغب تجاه
والديه. إنها معربدة. وغواية الآلهة هي إنزال الآفات والكوارث (كالطوفان)
لتقضي على هذه السفالة المُكتسِحة. غير أن مبدأ العمل هو الذي يقود العالم:
فما لن يقوم به الإنسان، كان ينبغي أن تقوم به الآلهة أو تموت جوعا. و
هكذا انتهت الآلهة إذن إلى الاعتراف بحكمة أحد منهم هو ذلك الإله الذي وقف
ببراغماتية أمام القضاء الكلي على الإنسان