شكّلت حضارة بلاد ما بين النهرين مبحثا أركيولوجيا وتاريخيا وانتروبولوجيا
متميّزا منذ بدايات الاحتكاك الغربي الحديث بالمنطقة، ليتأكّد بالاحتلال
البريطانيّ للبلاد ثمّ باستقلال العراق الحديث واهتمام حكوماته المتعاقبة
بالحفريات والأبحاث والآثار، وتشييد المتاحف وتمويل البعثات والدراسات
بأنواعها..وشدّت الحضارات التي تعاقبت على المنطقة أو تقاسمتها فضول
الباحثين وحتى عامّة الناس لما انكشف لهم من تطوّر لتلك الحضارات مقارنة
بحضارات زامنتها في مناطق أخرى من العالم، بما لم يدع مجالا للشكّ بأنّ
مهد التمدّن الإنساني هو بلا جدل بلاد الرافدين، بلاد ما بين النهرين،
العراق بالتسمية العربية وبالتقسيم الجغرافي الذي أقرّ بعد إنشاء الدولة
في بدايات القرن العشرين.
وكانت حرب 2003 وما أعقبها من احتلال أمريكي للعراق، وما صاحب الأيام
الأولى من سقوط النظام من عمليات نهب غير مسبوقة، والصور والأحاديث
المتلفزة التي تظهر أركيولوجي العراق ومؤرخيه ومتحفييه في حالة صدمة
تقاسمها معهم على امتداد العالم الملايين حتى من عامة الناس، كان ذلك كلّه
مدعاة إلى تسليط الأضواء مجدّدا على خصوصيات العراق وثرواته المميزة أثريا
ومتحفيا وتاريخيا، والاهتمام بدراسة ما الذي جعل هذه المنطقة من العالم
مهدا لحضاراته التالية وصولا إلى عصرنا.
وفي العدد الأخير- أفريل /ماي2010- من المجلّة الفرنسية الجادّة(كراسات
العلم والحياة)، كان الملفّ هذه المرّة بعنوان "من سومر إلى بابل : بلاد
الرافدين، مهد حضارتنا"، وكانت المادّة غزيرة متنوّعة تناولت جوانب شتّى
من مظاهر التطوّر الحضاري في العراق القديم وإسهام الحضارات التي عمّرت
المنطقة في مختلف الجوانب التشريعية والمعمارية والصناعات اليدوية
والفلاحة والكتابة والحرب وحوار الحضارات..
وقد استضافت المجلّة البروفسير "جون ماري دوران Jean-Marie Durand " أحد
أهمّ الباحثين المختصّين في بلاد الرافدين، وهو مدير البحوث بالمدرسة
التطبيقية للدراسات العليا، وأستاذ كرسيّ الدراسات الآشورية بـ"كوليج دي
فرانس"، وقد صدر له مؤخّرا كتاب بعنوان" الشرق الأدنى الاسيويّ" كما سبق
له إصدار كتاب بعنوان" الوثائق الترسّلية لقصر ماري". وأجرت معه حوارا
اخترنا أن نقدّمه إلى القارئ العربي خاصة وأنّه بقدر ما يغوص في تاريخ
يكاد يكون غابرا، فإنّه لا يهمل قضيّة الساعة في فرنسا وفي عدد من دول
العالم، ألا وهي قضيّة الهويّة والتعاطي مع الآخر/المختلف. وفيما يلي نصّه:
الكتابة، الزّراعة، المدن… تبدو بلاد الرّافدين مصدرا لعديد الإضافات الحاسمة لفائدة لإنسانيّة، كيف تفسّرون ذلك؟ تجدر الإشارة في البدء إلى أنّه إذا كانت بلاد الرّافدين أعطت الكثير
للعالم فإنّها -في المقابل- قد تلقّت الكثير من جيرانها. ولكن بما أنّنا
لم نعرف عالم تلك الفترة إلا انطلاقا من نصوص وصلتنا من سومر وبابل وماري
وآشور، فإنّ الميل إلى اعتبار جميع ما وصفته لنا تلك النّصوص نابعا من
بلاد الرّافدين، يبدو لا محيد منه. وفي الحقيقة فإنّ هذه المنطقة لم تكن
على اتّصال بعدد كبير من الحضارات فحسب، بل احتضنت أيضا تنوّعا كبيرا
للثّقافات، يمكن أن نذكر منها ثقافة بلاد سومر في الجنوب، وبلاد أكاد في
الوسط، وبلاد السّاميّين في الشّمال، والعيلاميّين في منطقة الجبال، وهو
ما يعطينا في الجملة أربع حضارات مختلفة. ولهذا، فإنّ مفهوم الفترة/العصر
يفرض نفسه بقوّة : لم يكن الجميع ينتمون إلى بلاد الرّافدين على نفس
الشاكلة على مرّ التّاريخ.
إذن ، كيف تفسّرون طول عمر هذه الحضارة الممتدّ على مدى 3.000 سنة؟ من المؤكّد أنّ هذه الحضارة عمّرت طويلا، لكنّ الزّمن لم يكن خلالها
ثابتا. لقد تعرّضت على مدى 3.000 سنة إلى سلسلة من التّغيّرات العميقة،
ولا ينبغي أن نغترّ هنا بالركود الظّاهريّ -الذي تشير إليه عديد العروض
الحديثة - في حضارة بلاد ما بين النّهرين. لقد عرف هذا التجمّع الهائل
حقّا كيف يعيش في تناغم في إطار ما يجدر تسميته الحضارة المسماريّة لا
الحضارة الرّافدينيّة. ولعلّ ما يؤكّد ذلك، أنّ الرّافدينيّين جميعا كانوا
يستعملون نفس الكتابة المسماريّة، كما كان الكتّاب المتمّرنون في المدارس
ينقلون نفس النّصوص ويعتنقون نفس المعتقدات؛ وكذلك الشّأن في مجالات
الصّناعات اليدويّة والفنون. ويمكننا أن نرى في هذه القدرة على تقاسم
ثقافة واحدة مفتاح نجاح الحضارة الرّافيدينيّة، وهو ما يسري على مجمل
الحضارات الأخرى.
كيف
أمكن لبلاد الرّافدين أن تتماسك في ظلّ الهجرات الكبرى التي توالت عليها
من الخارج : العموريّون والكوشيّون والآراميّون وغيرهم؟ كانت الحضارة تستوعب وتتغيّر.. فالسّومريون مثلا قد ذابوا في الأكاديّين.
وعندما أنهى الكوشيّون حكم سلالة حمّورابي في بابل حوالي سنة 1.500 ق.م
فإنّهم احتفظوا بنفس العبادات واللّغة والتّقاليد التي كانت سائدة هناك.
ويبدو أنّ إرادة تشكيل جماعة موحّدة كانت وراء تلك القدرة على الاستيعاب،
إذ كان على كلّ ملك جديد تمثًّلَ التّقاليد الملكيّة السّابقة والانتساب
إلى نفس الأسلاف. فحين استولى ملك العمّوريّين "شمشي أدد" على مدينة آشور،
فإنّه سجّل أسلافه البدو على القائمة الرّسميّة لملوك آشور، بما يعني أنّ
الغزو لم يكن عملا عسكريّا بقدر ما كان ذا طابع نفسيّ ودينيّ.
الأمثلة التي تذكرونها شاهدة على إستراتيجيّات تقترحها النّخب الحاكمة في سبيل التّأقلم. فماذا عن التّأقلم على مستوى الشّعب؟ من الصّعب التّعبير عن ذلك. فعندما توفّرت لدينا أولى النّصوص العائدة إلى
الألفيّة الثّالثة قبل الميلاد، كانت آنذاك منغلقة على الأفهام إلى درجة
لم تسمح لنا بتكوين فكرة محدّدة عن الحضارة التي أنتجتها. بعد ذلك، ومع
إنتاج نصوص كثيرة ومتنوّعة خلال الألفيّة الثّانية، غدا الأمر أكثر وضوحا،
ولكنّها نصوص لا تهتمّ في الغالب الأعمّ إلاّ بشؤون النّخبة الحاكمة. ومع
ذلك، سمح تنوّع المواضيع التي تتحدّث عنها بتوضيح عدّة أمور كانت غائبة عن
النّصوص المسماريّة الأقدم، على غرار عالم المرأة والنّاس الموجودين على
هامش الطّبقة الحاكمة.
هل توجد حضارات تعاملت مع مسألة التعدّد بشكل مختلف؟ إنّ الكيفيّة التي تتقبّل بها إحدى الحضارات إنسانا غريبا عنها تكشف عن
مدى قدرتها على تحديد هويّتها، فيمكن لأيّ حضارة أن تكون إمّا إقصائية أو
استيعابيّة. وقد برهنت بلاد الرّافدين أنّها كانت من النّوع الثّاني بدرجة
كبيرة حين طرحت شرطا للاندماج يتمثّل في تخلّي الوافد عن أسلافه وتبنّي
أسلاف آخرين، ومن يرفض تغيير نسبه كان عليه الرّحيل. أمّا الإمبراطوريّة
الرّومانيّة، فقد كان لها نمط مختلف من الاستيعاب نجده في تعبير[سائد
وقتها] بأنّه "يمكن للعبد أن يكون عظيما من النّاحية الرّوحيّة، بما لا
يتوفّر لشخص نبيل". وقد كان سرّ القوّة العظيمة للإمبراطوريّة الرّومانيّة
متمثّلا في تحقيق الوحدة السّياسية انطلاقا من تنوّع إثنيّ واسع. وهكذا،
نرى أنّ المجتمعات الإنسانيّة قد تردّدت على مرّ التاريخ بين الانغلاق
والانفتاح. ففي أوروبّا في عصر النهضة، كان أحد المبادئ الأساسيّة المعمول
بها أن يكون النّاس على دين ملوكهم، فكان يشترط أن يكون الناس بصفة حصريّة
مسيحيّين أو كاثوليكا بحسب مذهب الملك. أمّا اليوم في فرنسا، وبشكل أعمّ
في كامل الغرب، فإنّنا نحيا في حضارة يمكننا فيها تأكيد اختلافنا، بل يمكن
لتّأكيد الاختلاف، هذا إذا ما تعلّق بالدين مثلا أو بالجنسانيّة أو
بالثقافة، أن يبعث مشاعر الارتياح..
ألا ترى أنّ التّغييرات التي تطال الهويّة مثيرة للقلق على الدّوام سواء في الغرب اليوم أو في بلاد الرّافدين في الأزمنة القديمة؟ إنّ مشاكل الهويّة الرّاهنة هي من أقدم المشاكل في التّاريخ، وما فتئ
النّاس يطرحون نفس الأسئلة وإن بتعبيرات مختلفة. ومن المؤكّد أنّه كان
يوجد في منطقة الشّرق الأوسط القديمة أرواح متذمّرة، ومن الكتابات الأولى
التي طرحت هذه المسألة نجد "التضرّع" الثّاني في (أور)، ففي هذا النصّ
"يشتكي" إله العاصمة السّومريّة إلى "إنليل" كبير الآلهة أفول زمن (سومر)،
فيجيبه (إنليل) بأنّ السّيادة لم تمنح إلى أور بشكل أبديّ. ويبدو هذا
الجواب الإلهيّ معبّرا أحسن تعبير عن فلسفة الرّافدينيّين، فقد كان وعيهم
حادّا بأنّ الزّمن دائريّ وأنّه ليس خطّيا، وأنّ جميع الأشياء خاضعة
لمبدأي التغيّر والتجدّد. لقد طوّرت الحضارة الرّافدينيّة فكرة الأطوار
المتعاقبة موزّعة عبر زمن متغيّر أبدا… فأهل الرّافدين يعطوننا الانطباع
بأنّهم كانوا يعيشون حاضرهم دون "فردوس مفقود" يسعون وراءه، وأنّ المستقبل
بالنّسبة إليهم لم يكن نتاج جهد يبذل بإرادة طيبّة تجاه الآلهة، تلك
الآلهة التي كانوا يتصوّرونها راعية لهم.
هل من روابط بين الهويّة الوطنيّة لبلد مثل فرنسا والانتماء الإثنيّ أو اللّغوي للرّافدينيّين؟ إنّ الفارق الأساسيّ مع زمننا الرّاهن هو أنّنا لم نرصد عند الرّافدينيّين
ظهور ما يشبه مفهوم الوطن، فقد كان مفهوم الجماعة هو المألوف… فملوك ذلك
العصر كانوا يقولون "شعوبنا" حين يتحدّثون عن ممالكهم، ولا يقولون فرنسا
أو غيرها كما يمكن أن نقول اليوم. كما يوجد أيضا اختلاف في السلّم
السكّاني : ففي بلاد الرّافدين كان عدد السكّان بضع مئات من الآلاف… بينما
نحن اليوم في فرنسا أكثر من 60 مليونا! وكما سبق أن أشرت، ففرنسا بلد أكثر
قدرة على الاستيعاب بما لا يقارن مع بلاد الرّافدين : نحن أقرب في هذا إلى
أن نكون ورثاء للرّومان أكثر منّا انتماء للرّافدينيّين… ولا ننس أنّ
لفرنسا تنوّعا خرافيّا لم تعرفه الحضارات الرّافدينيّة … ففرنسا اليوم
بصدد البحث عن قاسم أدنى مشترك بين الفرنسيّين من أصول أروبيّة ومغاربيّة
وإفريقيّة وآسيويّة، بحيث يمكنها الانطلاق منه لتحديد هويّتها الوطنيّة.
ولعلّ أهمّ عنصر واضح في هذه المسألة هو اللّغة : فالفرنسيّ هو من يتحدّث
الفرنسيّة، ولكنّ هذا الأمر [أي اللغة] يغدو بلا أهميّة في الولايات
المتّحدة الأمريكيّة مثلا، إذ يعيش فيها من يتحدّثون البولونيّة
والإيرلنديّة والإيطاليّة والإسبانيّة، إلاّ أنّهم يشعرون جميعا رغم كلّ
ذلك بأنهّم أمريكيّون. فما يؤكّده النّموذج الرّافدينيّ وغيره من النّماذج
الحضاريّة، هو أنّ الشّرط الأوّل لكلّ استقرار هو الرّغبة في العيش
المشترك.