د.
وجيه كوثراني
النهار 21 إبريل 2004 يثور بين الحين والآخر في
الخطاب الثقافي العربي نقاش حاد بين انصار العلمانية وخصومها. والغالب في
هذا النقاش - باستثناء قليل منه - ان معنى العلمانية مختلف عليه، وان
المعاني المقترحة او المستبطنة للمصطلح تذهب في اتجاه التنافر لا اتجاه
التلاقي. ولعل المشكلة تكمن في رأيي في اعطاء بعد عقائدي ديني للمصطلح،
بحيث يبدو المعنى حاملا لدوغما تترجح بين ايمانين او عقيدتين تنفي الواحدة
الاخرى. ومن بين الامور التي تكرّس هذا التباعد ادبيات عربية واجنبية، تقول
ان الاسلام يتناقض مع العلمانية على عكس المسيحية التي قبلت بها بل كانت
العلمانية من اصولها. وذلك لتبرير انتصار العلمانية في الغرب المسيحي وعدم
صلاحيتها للعالم الاسلامي. وبالتالي فشلها.
في هذه المقالة نكتفي بعرض
نصّين يحملان في الظاهر وجهتي نظر، ولكنهما يلتقيان في منهج واحد من ناحية
التفكير ومقاربة الظواهر الثقافية - الاجتماعية بذهنية احادية لاغية
للتاريخ.
الاول للمستشرق برنارد لويس،
والثاني للمفكر الاسلامي محمد عمارة. والهدف من المقارنة ابراز وحدة المنهج
في النصين. وكيف يلتقي الخصوم في الخطاب الايديولوجي، على ارضية منهجية
معرفية واحدة لا ترى حركة او تطورا في التاريخ وفي الافكار وفي الثقافات،
وفي الاديان.
برنارد لويس
كتب برنارد لويس في كتابه
"اللغة السياسية للاسلام": "الاسلام الكلاسيكي لا يميز بين الكنيسة
والدولة. بينما في الكنيسة فان وجود السلطتين يعود الى مؤسسها الذي نصح
اتباعه بأن "يعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله".
فعلى امتداد تاريخ المسيحية
كان هناك دائما سلطتان: الله وقيصر (...) الكنيسة والدولة. قد تكون هاتان
السلطتان مترابطتين، قد تكونان منفصلتين، قد تعيشان بوفاق او في صراع، قد
تتداخل الاولى في شؤون الأخرى.. ولكن يبقى دائما انهما اثنتان: السلطة
الروحية والسلطة الزمنية. وكل واحدة مزودة بقوانينها الخاصة وبتشريعاتها،
ببنيتها الخاصة وبتراتبيتها". ويضيف: "اما الاسلام فانه لم يعرف قبل مرحلة
التغريب هاتين السلطتين، بل عرف سلطة واحدة. وبالتالي فان الفصل بين
الكنيسة والدولة، وهو امر متجذر بعمق في المسيحية، لا اصل له في الاسلام،
حتى انه في اللغة العربية الكلاسيكية كما في بقية اللغات التي تستخرج
مفرداتها الثقافية والسياسية من اللغة العربية، ليس هناك وجود لازدواج من
الكلمات التي تناسب معنى الروحي والعلماني Seculier. وليس قبل القرن
التاسع عشر والقرن العشرين، وتحت تأثير الافكار الغربية ومؤسساتها، ظهرت
اولا بالتركية وثانيا بالعربية، كلمات جديدة للتعبير عن معنى Seculier، بل
انه حتى في الاستخدام الحديث ليس هناك ما يوازي تعبير "كنيسة". كل الكلمات
الدالة على الجامع او المسجد تنطبق على بناء للعبادة وليس على فكرة مجردة
Abstraction او سلطة او مؤسسة. صحيح انه في المراحل المتأخرة من الاسلام
الكلاسيكي صير الى تمييز جماعة من محترفي العلم الديني تشبه تقريبا
"الاكليروس"، حيث عُبر عنهم بكلمات "علماء" او "ملاّ"، ولكن يبقى ان لا
وجود معادل لتعبير "علماني" Laique. وهو تعبير يخلو من اي معنى في سياق
الاسلام. بل انه حتى في ايامنا هذه، فان مفهوم اي تشريع او سلطة زمنية، لا
يدخل في نطاق المقدس (الشرعي) ولا يخضع لقواعد الشريعة، يعتبر معصية او
خيانة عظمى للاسلام".
ويستنتج لويس بصورة قاطعة
وحاسمة ان هذا الامر ينطبق على الاحزاب والحركات المسماة "اصولية". كما على
جميع الدول في العالمين العربي والاسلامي التي وجدت نفسها ملزمة بادراج ان
"الاسلام هو دين الدولة". الا انه يستثني التجربة التركية الكمالية من هذا
الحكم، مع استدراك لظاهرة اختراق اسلام المجتمع التركي لعلمانية الدولة،
(مع وصول احزاب اسلامية الى السلطة في تركيا).
وخلاصة رأي لويس يمكن تلخيصها
بأن ثمة قدراً اسلامياً او جبرية ملزمة للسلوك السياسي في المجتمعات
الاسلامية، وكأن قدر المجتمعات الاسلامية، ولأنها تدين بالاسلام، ان لا
تشهد الا دولة والا احزابا لا تفرق بين الدين والسياسة ولا تفصل بين ما هو
مدني وديني، وبين ما هو مقدس (لاهوتي) وما هو زمني (ناسوتي).
محمد عمارة
والمفارقة ان نجد كاتبا
اسلاميا معاديا للاستشراق والتغريب هو محمد عمارة، يكرر المصطلحات نفسها
ويستخدم المفاهيم نفسها ليصل الى الاستنتاج نفسه: غربة العلمانية عن
الاسلام والمسلمين، بل تناقضها مع مبادئ الاسلام وقواعده.
يكتب محمد عمارة - ولنلاحظ
تماثله مع برنارد لويس دون ان يعي ذلك-: "ان الاسلام لم يدع ما لقيصر
لقيصر، وما لله لله". ويضيف "نحن لسنا مواجهين بتلك الثنائية المتناقضة،
ولا بذلك الاستقطاب الحاد اللذين شهدتهما الحضارة الاوروبية وواقعها اللذين
جعلا الامور هناك: ابيض او اسود، علمانية تفصل الدين عن الدولة، او تسعى
لهدمه وانتزاع تأثيره واثره من الدولة والمجتمع معا، او كهانة وسلطة دينية
وحق بالحكم الالهي".
اذن، انها الثنائية نفسها في
المسيحية التي يتحدث عنها المستشرق برنارد لويس لينفيها عن الاسلام، والتي
يتبناها الكاتب الاسلامي ليؤكد رفض الاسلام للعلمانية، لأنه "دين توحيد"
ودين "وسطية"، ولأنه "لا مشكلة" في الاسلام حتى يكون هناك علمانية.
لنلاحظ هنا كيف يستخدم
الاسلام عند الطرفين، بديلا من التاريخ ومن المجتمعات الاسلامية. فاذا كان
هناك مشكلة ما في التاريخ وفي المجتمع، فالمشكلة تندرج في سياق "الانحراف"
او "الآفة" ولا تعبّر عن "الاسلام الصحيح" الذي يملك الكاتب وحده ناصيته
وبوصلته. يقول محمد عمارة وبعد ان يعترف ان ثمة مشكلة حصلت في الواقع:
"صحيح ان الواقع التاريخي الاسلامي قد شهد تقليد المسيحية في هذه الآفة،
فتحول بعض من علماء الدين الاسلامي الى رجال دين وزعموا لأنفسهم سلطانا في
التحليل والتحريم واحتكروا لآرائهم صلاحيات الرأي الوحيد ومن ثم الرسمي
للاسلام رغم ان اجتهاد المجتهد في الاسلام لا يلزم غيره من المجتهدين، بل
ولا يُلزم المقلدين لمجتهدين آخرين... لكن التقليد في هذه الآفة قد ظل
واقعا تاريخيا لم يعترف به الاسلام ولم يتحول الى جزء من الدين. بل ظل
واقعا مدانا من تيارات الفكر الاسلامي جميعها، ولم يصبح مقبولا الا في اطار
المذهب الشيعي وحده".
يسهل في الفكر الاحادي
والذهنية الالغائية استخدام تعابير من مثل "الآفة" و"الانحراف" - وكما
نلاحظ لدى الكاتب الاسلامي، وفي الحالة التي يتحدث عنها محمد عمارة، يسهل
في ذاكرة الانقسام السني - الشيعي، بل في ذاكرة كل انقسام في عالم الاسلام
ان تحصر تلك "الآفة" بفرقة من الفرق، وخاصة عندما يلغى التاريخ، تاريخ
الفرق وصراعاتها، وتاريخ الدول وعصبياتها وتاريخ الفقهاء وعلاقاتهم
المتعددة والمختلفة بالسلاطين، كما تُنسى حالات التأثيم والتكفير باسم
الدين، سواء عند الشيعة او عند السنّة... يسهل بعد كل هذا ان ينصّب الكاتب
نفسه ناطقا باسم "الاسلام الصحيح"، وحكما على الواقع التاريخي فيسمح لنفسه
أن يقول: "ان هذا الواقع التاريخي لم يعترف به الاسلام ولم يتحول الى جزء
من الدين".
هل لم يشهد التاريخ الاسلامي
فعلا ثنائية الصراع؟
ان التعالي على التاريخ
والواقع يسمح بانتاج خطاب اسلامي معاصر له وظيفتان: وظيفة اولى الغاء
الصراعات في التاريخ الاسلامي، وان اعترف بها بخجل، فهي من قبيل "الانحراف"
او "الآفات"...
ووظيفة ثانية مكملة، خوض
الصراع الفكري والسياسي القائم اليوم، من خلال تبني وجهة نظر يراها صاحبها
"اسلامية صحيحة" فيدمجها بالاسلام الكلي والشمولي، ويشهرها ضد تيارات
العلمانية باعتبار الاخيرة نشأت في حضن الحضارة الغربية، وفي سياق ملابسات
ومقدمات خاصة يلخصها الصراع بين الكنيسة والسلطة الزمنية، بل احيانا هي
ايديولوجيا حملها "الاستعمار" ونخبه المحلية.
هذا المنطق الذي يحتاج الى
مراجعة اضحى ويا للأسف فكرا سائدا، اخترق ايضا بعض قطاعات الفكر القومي
العربي وبعض مفكريهم، وفي طليعتهم المفكر محمد عابر الجابري الذي يقترح
"حذفا لمصطلح العلمانية من القاموس العربي".
في هذا الفكر السائد، تبرز
المصطلحات والمفردات اسلحة قائمة بذاتها لتثبيت مصطلح والغاء مصطلح من مجمل
حضارة ومن تاريخ بكامله، او من احتمال تطور تاريخي ممكن. فاذا كانت تعابير
"اكليروس": ورجل دين وعلماني وعلمانية لم تشهدها اللغة العربية والحضارة
الاسلامية، برأي برنارد لويس، وبرأي محمد عمارة، وبرأي التيار الواسع من
الاسلاميين والقائلين بانفصال الحضارات، والمأسورين بسجن "الهوية" او
"الهويات"، فهل يبرر غياب المصطلحات اسقاط مصطلح العلمانية والاستغناء عنه،
ومحاربة دلالاته ومعانيه التي لم يتفق عليها بعد، حتى في اماكن انتاجها اي
في الغرب نفسه. وفي رأيي المتواضع، ان السياق التاريخي للصراع الاجتماعي -
السياسي وموقع الدين فيه والذي شهده التاريخ الاسلامي، (وإن اختلف توصيفه
عن مستوى المفردات) لا يختلف عن سياق التجربة التاريخية المسيحية من ناحية
المضمون والوظيفة والدور اذ ليست العبرة في "المفردة" بل في دلالاتها
ومعانيها في السياق، وفي السياق التاريخي.
كان ابن خلدون قد اشار في
مقدمته الى فكرة "الاستقواء بالدين" عندما تحدث عن جدلية العلاقة بين
العصبية ذات المضمون السياسي. والدعوة ذات المضمون الديني. فقال: "ان
الدعوة الدينية تزيد العصبية قوة على قوة". وكان الفقهاء قبله قد شرّعوا
دينيا "لامارة الاستيلاء" العسكرية. الامر الذي يشير صراحة الى ثنائية
ضمنية في السلطة: سلطة عسكرية اجتماعية - سياسية (عصبية) وسلطة دينية
(فقهاء ودعاة). وكان الامام علي قد فرّق او ميّز قبل ذلك، بين الحاكمية
الالفية التي قال بها الخوارج، وضرورة "الامارة" كسلطة في الدنيا تقيم
العدل. ناهيك عن آراء الفقهاء المتأخرين (في العهد المملوكي) التي ذهبت الى
التمييز بين ما سموه "السياسة الشرعية" و"السياسة الاصطلاحية"، وصولا الى
تحويل مهمة الافتاء والقضاء، وهي مهمة مناطة بالفقهاء، الى مؤسسة سلطوية هي
"مشيخة الاسلام" التي توزعت السلطة بين الهيئة الحاكمة السلطانية والهيئة
الشرعية الدينية. فكان السياق ومآله واحدا لدى الدولة السنية (العثمانية)
ولدى دولة الصفوية الشيعية سواء بسواء. كما ان الدلالات التاريخية في
الصراع وفي الازمات الاجتماعية التي شهدها التاريخ الاسلامي كانت مماثلة
الى حد قد يكبر او يصغر، للدلالات التي شهدها التاريخ الاوروبي المسيحي، بل
ان الدلالات المشتركة اليوم تزداد في تطلبها لمزيد من المعرفة المقارنة
الهادئة.
ان التبسيطية التاريخية التي
نقرأها في هذا الموضوع اعتمادا على ايراد المفردات وعند واحد كبرنارد لويس،
والتي لا يلبث ان يكررها من موقع آخر كتاب اسلاميون كثر تقفل الباب امام
البحث التاريخي والاجتماعي الجدي باتجاهين: اتجاه فهم التاريخ الاوروبي
وتاريخ المسيحية وفهمها. وفي اتجاه فهم تواريخ الشعوب الاسلامية
واستيعابها.
ان الكتّاب الاسلاميين الذين
يلجأون عادة الى مصطلح "التوحيد" او "الوسطية" لنفي الثنائيات والصراعات في
تاريخنا الاسلامي، انما يطمسون بهذه التعابير تاريخ الصراعات والحروب
والفتن والتي توسلت الدين من اجل التغلب. هذه المصطلحات تلعب اليوم دور
حجاب التاريخ، الذي اذا ما انكشف، سنكتشف بأننا اليوم بأمس الحاجة الى
العلمانية كما كانت حاجة المجتمعات الاوروبية المسيحية اليها.
ولنختم - على ان للبحث تكملة
- ان العلمانية تعني اول ما تعنيه في حياتنا السياسية والمدنية، وقبل
دلالاتها الأخرى التي هي موضوع نقاش وآراء واتجاهات - تعني "التسامح" -
بمعني قبول الآخر. هكذا بدأت علمانية اوروبا عندما كتب جون لوك بيانه
بعنوان "التسامح" La Tolerance كصيحة في وجه الحروب الدينية، التي اجتاحت
اوروبا. وهذه دعوة لم تمس الدين وانما مسّت المستقوين بالدين في الشأن
السياسي والمدني والشخصي. العلمانية قد تضع حدا لهذا "الاستقواء" ولكن ضمن
شروط لا يبدو ان مجتمعاتنا ذاهبة اليها حتى اليوم.