وهذه الاتهامات معروفة جدًا. فنحن في الغرب
متهمون بالتحيز ضد المرأة، وبالعنصرية، وبالإمبريالية، وبالتمأسس في
الأبوة، وبالعبودية، وبالطغيان، وبالاستغلال. وفي مواجهة هذه الاتهامات،
وغيرها من تلك التي تفوقها حقدًا، لا خيار أمامنا سوى الاعتراف بالذنب -
ليس كأمريكيين، ولا حتى كغربيين، إنما بكل بساطة كبشر، كأبناء لهذا الجنس
البشري الذي ننتمي إليه جميعًا. ونحن لسنا، في أية من تلك الخطايا،
الوحيدين الذين أخطأوا، لا بل أننا بالنسبة لبعض منها، لم نكن الأسوأ. صحيح
أن معاملة النساء في العالم الغربي، وبشكل عام في المسيحية، كانت تتسم
غالبًا بعدم المساواة وبالقمع، لكنها في أسوأ حالاتها كانت أفضل بما لا
يقاس من حكم تعدد الزوجات وامتلاك المحظيات الذي كان منتشرًا في كل مكان
على كوكبنا.
هل العنصرية هي الانتقاد الرئيسي يا ترى؟
لأننا غالبًا ما نجد هذه العبارة في الدعايات الموجهة للجمهور في الغرب،
وفي أوروبا الشرقية، وفي قسم من العالم الثالث. ولكننا نجدها أقل فيما يكتب
وينشر للاستهلاك المحلي عندنا، حيث أصبحت تعبيرًا عامًا وبلا معنى للدلالة
على الاستغلال - كـ"الفاشية"، التي أصبح يستعملها المتحدثون بلسان الحزب
الواحد، أو الديكتاتوريات القومية ذات التنوعات المختلفة والقمصان الملونة.
لقد أصبحت العبودية مستنكرة اليوم في كل
أنحاء العالم كجريمة ضد الإنسانية. لكن على ما أذكر، كانت العبودية ما زالت
تمارس حتى وقت قريب، وكان يدافع عنها كمؤسسة ضرورية، وضعها ونظمها قانون
إلهي. وخاصية هذه المؤسسة، كما وصفها ذات يوم الأمريكيون، لا تتمثل بوجودها
إنما بإلغائها. وقد كان الغربيون هم أول من كسر العرف وجعل العبودية خارجة
عن القانون، في بلدانهم أولاً، ثم في بلدان أخرى تحكَّموا بها، ثم في جميع
أنحاء العالم حيث كان بوسعهم ممارسة تأثيرهم بوسائل إمبريالية.
هل الإمبريالية هي الانتقاد إذًا؟ فقد كانت
بعض القوى الغربية، كما كانت الحضارة الغربية بمجملها، متهمة فعلاً
بالإمبريالية. لكن هل نعتقد حقًا أن الفتوحات الأوروبية الغربية كانت تتميز
بانحطاط أخلاقي افتقدته فتوحات سابقة كانت أكثر منها براءة، كفتوحات
العرب، أو المغول، أو العثمانيين، أو تلك الأحدث منها التي جلبت حكام موسكو
إلى البلطيق، والبحر الأسود، وبحر الكاسبيان، والهندو كوش والمحيط الهادي؟
لأن الغرب، حين كان يمارس التمييز ضد النساء، والعنصرية، والإمبريالية؛
إنما كان يتبع عرفًا مارسته البشرية خلال مسيرتها الألفية المؤرخة. لكن
الذي ميز الغرب عن باقي الحضارات أنه اعترف وسمّى، لا بل حاول معالجة هذه
الأمراض التاريخية، وهذا ما يستدعي التهنئة وليس الإدانة. فنحن لا نعتبر
الطب الغربي عامةً، ولا أطباء كالسادة باركينسون أو ألتزهايمر خاصةً،
مسؤولين عن أمراض شخصوها وأعطوها أسماءهم.
وتبقى تهمة الإمبريالية الأكثر انتشارًا
والأكثر تداولاً وإثارةً للاستنكار بين كلّ تلك الإساءات - وسواء كانت هذه
التهمة غربية، أو شرقية (بمعنى سوفييتية) على حدٍّ سواء. لكن الطريقة التي
استعملت بها هذه العبارة، من قبل الإسلام الأصولي، غالبًا ما كانت توحي
بأنها لا تحمل نفس المعنى المتداول في الغرب. ففي العديد من الكتابات، كان
يبدو وكأن هذا المفهوم يحمل معنًا دينيًا. حيث كان يستعمل مترافقًا مع، أو
ليحل، أحيانًا، محل كلمة "التبشير"، ما يوحي بأنها شكل من أشكال عدوان يشمل
في نفس الوقت الحملات الصليبية والامبرطوريات الاستعمارية الحديثة. مما
يعطي الانطباع أحيانًا بأن إساءة الإمبريالية - كما يفهمها النقاد الغربيون
- ليست في منظور الإسلاميين سيطرة شعبِ على شعبِ آخر، إنما تبادل الأدوار
فيما يتعلق بهذه العلاقة. لأن ما هو شرّ فعلاً وغير مقبول هو سيطرة الكفار
على المؤمنين الحقيقيين. حيث من الطبيعي والمحق بالنسبة للمؤمنين الحقيقيين
أن يتحكموا بغير المؤمنين، فهذا يحافظ على الشرع المقدس، ويقدم لغير
المؤمنين الامكانية والدافع لاعتناق الإيمان الحق. أمّا تحكم غير المؤمنين
بالمؤمنين فهو شيء مهين وغير طبيعي، لأنه يؤدي إلى إفساد الدين والأخلاق في
المجتمع، وإلى تعويم أو حتى إلغاء القوانين الإلهية. وهذا التفسير يساعدنا
على تفهم طبيعة الاضطرابات التي تعم حاليًا بلدانًا كأريتريا الأثيوبية،
وكشمير الهندية، ومقاطعة سين كيانغ الصينية، وكوسوفو اليوغوسلافية. ففي كل
هذه الأماكن نجد السكان المسلمين محكومين من قبل حكومات غير مسلمة. كما
يساعدنا هذا المنظور على فهم أسباب مطالبة الأقليات الحديثة في غرب أوروبا
بدرجة من الحماية لم تعد هذه البلدان تقدمها للمسيحية ولم تعطها البتة
يومًا لليهودية. كما أنها حماية لا تقدمها البلدان الأصلية لهؤلاء المسلمين
للديانات الأخرى الموجودة في بلدانها. ومن منظورهم، لا يوجد تناقض بين هذه
المواقف، لأن الإيمان الحق الذي يستند إلى الوحي الإلهي النهائي يجب أن
يحمى، بينما لا تستحق باقي المعتقدات الخاطئة أو الناقصة هكذا حماية.
لكن هناك صعوبة أخرى في تقبُّل التفسير
الإمبريالي كسبب للعدوانية الإسلامية، لأننا حتى وإن قبلنا بذلك التفسير
القائل بأن الإمبريالية هي، تقريبًا وحصرًا، سيطرة غير المسلمين على
البلدان المسلمة. وكانت هذه العدوانية موجهة من هذا المنظور ضد
الإمبريالية، فلماذا تراها أقوى وأشد في توجهها إلى أوروبا الغربية التي
تخلت عن توابعها وممتلكاتها في البلدان المسلمة، مما هي عليه تجاه روسيا
التي كانت وما زالت تتحكم، بقسوة، بالملايين من الرعايا المسلمين الرافضين
لحكمها، وبالعديد من المدن والبلدان الإسلامية؟ ولماذا تراها تشمل الولايات
المتحدة التي، على الرغم من قيامها ببعض التدخلات في بعض المناطق التي
تسكنها أقليات مسلمة كالفيليبين، لم تتحكم البتة بأية شعوب مسلمة؟ ونلاحظ
أن آخر إمبرطورية أوروبية ما زالت قائمة، أقصد الاتحاد السوفييتي، لم تتعرض
لهكذا انتقادات، إنما غضَّ عنها الطرف، لا بل قوبلت، حتى آخر أعمال القمع
للتمردات المسلمة في الجمهوريات السوفييتية لجنوب ووسط آسيا، بعبارات
استنكار خفيفة مترافقة بتصريحات تؤكد على عدم الرغبة في التدخل في الشؤون
الداخلية للاتحاد السوفييتي، وتطالب بالحفاظ على النظام والهدوء على
الحدود. وربما كانت إحدى أسباب هذا الموقف المتحفظ تكمن في طبيعة ما حدث في
أزربيجان السوفييتية، حيث من الواضح أن الإسلام، الذي يشكل عاملاً أساسيًا
في تحديد الهوية الأزربيجانية، لم يكن العنصر المهيمن. فالتمرد
الأزربيجاني كان أقرب إلى الوطنية الأوروبية منه إلى الأصولية، وهكذا حركة
ما كان لها أن تستثير عطف حكام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، لا بل كان
بوسعها أن تثير قلقها لما يمكن أن يولده وجود ديموقراطية حقيقية يحكمها
الشعب في أزربيجان السوفييتية من تأثير قوي ومباشر على أقربائهم المباشرين
في الجنوب، أي في أزربيجان الإيرانية.
كما أن هناك مسبب آخر لعدم الاهتمام بمصير
50 مليون مسلم، أو أكثر، ما زالوا يرزحون تحت النير السوفييتي، ألا وهو
حسابات الربح والخسارة. فالاتحاد السوفييتي قريب وحدوده تمتد على طول
الحدود الشمالية لتركيا، وإيران، وأفغانستان؛ بينما أمريكا وأوروبا الغربية
أكثر بعدًا. كما أنه، ولنكن أكثر تحديدًا، ليس من تقاليد السوفييت قمع
الاضطرابات بخراطيم الماء والرصاص المطاطي، وتحت أنظار كاميرات التلفزيون؛
ولا من تقاليدهم إطلاق سراح المعتقلين والسماح لهم بالتواصل مع أجهزة
الإعلام. فالسوفييت لا يقابلون أشد منتقديهم، ولا يحاولون تعليمهم، ولا
إلقاء المحاضرات عليهم، ولا الحصول على تواقيعهم على تعهدات. بل بالعكس،
فإن الطرائق التي يتعاملون بها مع من ينتقدهم غالبًا ما تكون مزعجة.
لكن الخوف من القمع، على أهميته، ليس
المسبب الوحيد ولا الرئيسي لتلك المكانة الضئيلة، من الشيطنة الأصولية
للسوفييت إذا ما قورنت بالغرب. فالتحولات الاجتماعية والفكرية والاقتصادية
التي حصلت في العالم الإسلامي، وولدت كل تلك الآفات الغربية المستنكرة
عمومًا من استهلاك وعلمانية، جاءت من الغرب، وليس من الاتحاد السوفييتي.
حيث لا يستطيع أحد اتهام السوفييت بالاستهلاكية. كما أن ماديتهم الفلسفية،
أو لنكن أدق، الجدلية؛ ليس لها أي تأثير يذكر على أرضية واقع تأمين متطلبات
حياة جيدة. فتلك المتطلبات يقدمها نوع آخر من المادية، التي غالبًا ما
توصف من قبل أعدائها بالكلية. وهذه ترتبط بالرأسمالية الغربية وليس
بالشيوعية الشرقية، التي طبقت، وفرضت على رعاياها حدًا من التقشف يمكن أن
يحسدها عليه القديسون المتصوفون.
كما لم يكن السوفييت، وحتى فترة قريبة،
متهمين بالعلمانية التي تعد من الاتهامات الكبرى للغرب من قبل الأصوليين.
فعلى الرغم من أنهم كانوا ملحدين، إلاّ أنهم لم يكونوا بلا إله، فقد خلقوا
ونظموا في الواقع جهاز دولة يفرض آلهتهم - جهاز له أورثوذوكسيته الخاصة،
وله تراتبيته التي تحددها وتدعمها-، كما سلّحوا محاكم تفتيش من أجل رصد
واجتثاث الهرطقة. لأن فصل الدين عن الدولة لا يعني، إطلاقًا، فرض العداء
للدين من قبل الدولة، ولا يعني الفرض الإلزامي لفلسفة معادية للدين. وهذا
يعني أن العلمانية السوفييتية، والنموذج الإستهلاكي السوفييتي، لم يكونا
يشكلان أي إغراء بالنسبة للجماهير المسلمة. كما أنها فقدت من جاذبيتها
بالنسبة للمثقفين المسلمين. لذلك، وأكثر من أي وقت مضى، أصبحت الرأسمالية
الغربية والديمقراطية هي البديل الصادق والجذاب والوحيد لطرائق التفكير
وطرائق الحياة القديمة. كلا لم يكن القادة الأصوليون مخطئون حين رأوا في
الحضارة الغربية أكبر تحدٍّ لطريقة الحياة التي رغبوا في الحفاظ عليها
وإعادة فرضها على شعوبهم.
صدام حضارات
يمكننا استكشاف جذور العلمانية في الغرب من
خلال مناسبتين: ففي بدايات التبشير المسيحي، وبحكم الخبرة، تم خلق مؤسستين
هما الكنيسة والدولة. ثم، وعبر الخلافات المسيحية اللاحقة، انفصلت هاتان
المؤسستان. وقد كان للمسلمون أيضًا خلافاتهم الدينية، لكنها لم تقارب يومًا
في وحشيتها وحشية الصراع بين البروتستانت والكاثوليك الذي اجتاح أوروبا في
القرنين السادس والسابع عشر، ما دفع المسيحيين اليائسين إلى التوجه نحو
منحى عقيدة تفصل الدين عن الدولة. حيث بدى أنه فقط عن طريق منع المؤسسات
الدينية من ممارسة السلطة، تستطيع المسيحية الحد من التعصب المجرم ومنع
الاضطهاد الذي مارسه المسيحيون على أتباع الديانات الأخرى. وخاصة منها تلك
التي بشرت بأشكال وممارسات أخرى مخالفة.
فالمسلمون لم يشعروا بهذه الحاجة.
وبالتالي، لم يتوصلوا إلى هكذا عقيدة. لأنه لم تكن هناك ضرورة للعلمانية في
الإسلام، فتعدديته كانت مختلفة جدًا عن تلك التي كانت تمارسها الامبرطورية
الرومانية الوثنية. تلك التي وصفها بكل حيوية إدوارد جيبسون حين لاحظ
وجود نماذج مختلفة من العبادات التي كانت
سائدة في العالم الروماني، والتي كانت العامة تقيمها كمتساوية من حيث
الحقيقة، بينما كان الفيلسوف يقيمها كمتساوية من حيث الخطأ، وكان القاضي
يعتبرها متساوية من حيث الفائدة.
كما أن الإسلام لم يكن مهيئًا البتة، لا
نظريًا ولا عمليًا، للإقرار بمساواته التامة مع من يعتنقون عقائد أخرى
ويمارسون عبادات مختلفة. وإن كان أعطى لحاملي الحقيقة النسبية مقدارًا
عمليًا ونظريًا من التسامح لم يكن له مثيل في الغرب، حتى كان تطبيق هذا
الأخير للممارسة العلمانية في أواخر القرن السابع عشر، وخلال القرن الثامن
عشر.
ونلاحظ أن الاستجابة الإسلامية الأولى
للحضارة الغربية كانت تعبر عن الإعجاب والمحاكاة - بمعنى الاحترام الكبير
لمنجزات الغرب، والرغبة في تقليدها وتبنيها. وقد نبعت هذه الرغبة عن وعي
يعبر عن قلق عميق ومتنام لضعف العالم الإسلامي وفقره وتخلفه مقارنة بتقدم
الغرب. حيث بدا هذا الفارق، أول ما بدا، واضحًا في ساحة المعركة، ثم امتد
ليشمل مختلف مجالات النشاط الإنساني. فتأمل الكتاب المسلمون ووصفوا غنى
وقوة الغرب، وعلمه وتقنياته، ومعامله، وأشكال حكوماته. وبدا لهم، لبعض
الوقت، أن سرّ النجاح الغربي يكمن في عاملين أساسيين: الأول هو تقدمه
الاقتصادي وخاصة الصناعي؛ والثاني هو مؤسساته السياسية وخاصة الحرية. وقد
حاولت عدة أجيال من المصلحين والحداثيين إدخال هذه المفاهيم إلى بلدانها،
بأمل أن يتمكنوا من تحقيق المساواة مع الغرب وربما استعادة تفوقهم المفقود.
أمّا في زماننا فقد حلّ العداء والرفض مكان
الإعجاب والتحفز اللذان كانا يسودان بين العديد من المسلمين. وهذا يعود
جزئيًا بالتأكيد إلى الشعور بالمهانة - وإلى القلق المتزايد، بين أتباع
حضارة قديمة وفخورة بقيت سائدة لزمن طويل، ثم تم تجاوزها، فحمّلت أكثر مما
تحتمل، وطغى عليها أولئك الذين كانت تنظر إليهم كأخفض منها. وقد تكون من
مسببات هذا المزاج، أيضًا، أحداث جرت في العالم الغربي نفسه. وأحد هذه
العوامل الهامة كان ربما انعكاسات حربين انتحاريتين كبيرتين مزقتا الحضارة
الغربية، وألحقتا الدمار بها وبسواها. خاصة أنه أيضًا، وخلال هذه الحروب،
قامت جميع الأطراف المتحاربة بدعاية واسعة في العالم الإسلامي، وفي كل مكان
للحطِّ من مكانة كل منها للأخرى. وقد وجدت هذه الرسالة العديد من
المستمعين الذين كانوا على استعداد للتعبير، من منطلق تجاربهم الخاصة، عن
عدم رضاهم على الطرائق الغربية. وقد جلب دخول التجارة والمال والطرائق
الصناعية الغربية ثروة كبيرة فعلاً، لكن كل ما فعله كان استبدال الغربيين
وأبناء الأقليات الميالة للغرب بعدد قليل من أفراد المجتمع الإسلامي. ورغم
أن عدد هؤلاء قد ازداد مع الأيام، إلاّ أنهم بقوا معزولين عن الجماهير،
التي تمايزوا عنها بلباسهم وطرق حياتهم. مما جعل من المحتم أن ينظر إليهم
كعملاء ومتعاونين مع من كان ينظر إليهم يومًا كعالم معاد. وحتى المؤسسات
السياسية، التي نقلت عن الغرب، فقدت مصداقيها وحوكمت، ليس من قبل مؤسسيها
الغربيين، إنما من قبل مقلديهم المحليين الذين نصبهم الإصلاحيون المسلمون
المتحمسون. لأن هؤلاء كانوا يعملون ضمن أوضاع لم يعد بوسعهم التحكم بها،
ولا استعمال وسائل مستوردة وغير ملائمة لم يستوعبوها، الأمر الذي جعلهم غير
قادرين على مجابهة الأزمات التي كانت تتفاقم بسرعة؛ ما أطاح بهم الواحد
تلو الآخر. فبالنسبة للعديد من الشرق أوسطيين، لم تجلب الطرائق الغربية
للإدارة الاقتصادية إلاّ الفقر، كما لم تجلب المؤسسات السياسية إلا
الطغيان، ولم يجلب التسلح على الطريقة الغربية إلاّ الهزيمة. وهذا ما يبرر
رغبتهم بالاستماع إلى تلك الأصوات التي كانت تقول لهم منذ البداية أن
الطرائق الإسلامية هي الأفضل، وأن طريق الخلاص الوحيد هو في الابتعاد عن
المستحدثات الوثنية للإصلاحيين، وفي العودة إلى الطريق الحق الذي حدده الله
لشعبه.
معركة الأصوليين إذًا هي ضد عدوين أساسيين
هما: العلمانية والحداثة. أمّا الحرب ضد العلمانية فهي واعية وصريحة، حيث
توجد الآن أدبيات إسلامية كاملة تندد بالعلمانية كقوة شر صنمية جديدة في
العالم الحديث، وتنسبها بأشكال متنوعة لليهود، والغرب والولايات المتحدة.
أمّا الحرب ضد الحداثة فهي غير واعية وغير صريحة بشكل عام، لأنها موجهة ضد
كامل عملية التغيير التي حدثت في العالم الإسلامي خلال القرن الماضي وما
سبقه، وحولت البنية السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وحتى الثقافية
للبلدان الإسلامية. والإسلام الأصولي أعطى هدفًا وشكلاً لحقد وغضب كانت
الجماهير المسلمة تشعر به تجاه تلك القوى التي أساءت إلى قيمهم التقليدية
وولاءاتهم، وكتحليل نهائي جردتهم من معتقداتهم وتطلعاتهم، وحتى من حياتهم.
ونلاحظ أنه يوجد في الثقافة الإسلامية شيء
زرع، حتى في قلب أكثر الفلاحين والباعة المتجولين وضاعة، كرامة ومقدرة على
مجاملة الآخرين لا تضاهيان في أية ثقافة أخرى. ورغم هذا، تأتي لحظات من
التمرد والاضطراب، حين تتأجج أعمق المشاعر، فتختفي الكرامة والمجاملة ليحل
محلها خليط متفجر من الغضب والحقد الذي يطول حتى حكومة بلد قديم ومتحضر -
وحتى الناطق بلسان ديانة ذات روحانية وقيم - فيتبنون الخطف والقتل،
ويحاولون الاستلهام من حياة نبيهم، ما يؤيد ويفسر هكذا أفعال.
حيث لم تخطىء غريزة الجماهير حين حصرت
المنبع الرئيسي لهذه التغيرات الزلزالية التي زعزعت طرائق حياتهم القديمة
بالسيطرة الغربية، وبالنفوذ الغربي، وبالمفهوم والمثال الغربيين. ولمَّا
كانت الولايات المتحدة هي الوريث الشرعي للحضارة الأوروبية، والقائد غير
المنازع والمعترف به للغرب، فقد ورثت الولايات المتحدة نتاج تلك الأحقاد
وأصبحت موضع تركيز هذا الحقد المكبوت وهذا الغضب. ويكفي هنا أن نعطي مثالين
على ذلك: ففي شهر تشرين الثاني من العام 1979، هاجم الجمهور الغاضب سفارة
الولايات المتحدة في إسلام أباد في الباكستان وأحرقها. وسبب ذلك كان سيطرة
مجموعة إسلامية منشقة على الكعبة في مكة، وهو حدث لم تكن لأمريكا علاقة به
لا من قريب ولا من بعيد. وبعد ما يقارب العشر سنوات، في شباط 1989، وأيضًا
في إسلام أباد، هوجم المركز الثقافي الأمريكي من قبل الجماهير التي كانت
تعبر عن غضبها لنشر كتاب الآيات الشيطانية لسلمان رشدي. وهذا الأخير كما
نعلم، هو مواطن بريطاني من مواليد الهند، وكتابه كان قد نشر قبل خمسة أشهر
من هذا التاريخ في إنكلترا. لكن ما أثار غضب الرعاع، وأدى بالتالي إلى فتوى
آية الله الخميني بالموت على الكاتب، كان نشر هذا الكتاب في الولايات
المتحدة.
لذلك يجب أن يكون واضحًا بالنسبة لنا أننا
نواجه اليوم مزاجًا وحركة تتجاوز بكثير مستوى مواقف وسياسات الحكومات التي
تتابعها. وما نواجهه ليس أقل من صدام حضارات - ما هو ربما ردة الفعل
اللاعقلانية، رغم تاريخيتها، لمنافس قديم لميراثنا اليهودي-المسيحي،
ولحاضرنا العلماني، ولتوسعنا العالمي في كلا المجالين. ما يعني أنه من
المهم جدًا من جانبنا، ألاّ نُستَفز فننجر في المقابل إلى ما يقارب ردة
الفعل التاريخية واللاعقلانية تجاه هذا الخصم.
لأن كل الأفكار الآتية من الغرب، سواء عن
طريق المتسللين الغربيين أو المتأثرين المحليين به، لم ترفض. لا بل أن
بعضها قُبِل حتى من قبل أكثر الأصوليين جذريةً، وإن من دون الإقرار بمصدرها
عادة، أو بإدخال الكثير من التعديلات الغنية والغريبة عليها أحيانًا.
وإحدى هذه الأفكار كان الحرّية السياسية، وما يرتبط بها من مفاهيم وممارسات
كالتمثيل، والانتخابات، والحكومة الدستورية. فحتى جمهورية إيران الإسلامية
أصبح لها دستور مكتوب وجمعية منتخبة، ونوع من الكهنوت. وهذه كلها مفاهيم
لم تتضمنها التعاليم الإسلامية ولم تكن معروفة في الماضي الإسلامي. إنما هي
مفاهيم أخذت جميعها من الأمثلة الغربية. كذلك احتفظت البلدان المسلمة
بالعديد من العادات الثقافية والاجتماعية الغربية وبما يعبر عنها من رموز،
كشكل لباس الرجل (وإلى حد أقل بكثير شكل لباس المرأة) وخاصة في المجال
العسكري، حيث أصبح استعمال المخترعات الغربية كالبنادق والدبابات والطائرات
ضرورة عسكرية، وذلك رغم بقاء اللباس التقليدي وقبعة الرأس كخيار ثقافي.
لذلك فأنه بدءًا من الدساتير ووصولاً إلى الكوكاكولا، بدءًا من الدبابات
والتلفزيونات وصولاً إلى القمصان القطنية (التي شرتات)، والرموز والصناعات
اليدوية، ومن خلالها الأفكار، حافظ الغرب على جاذبيته، لا بل ضاعفها.
كما أن ما نسميه اليوم بالأصولية ليس
المنقول الإسلامي الوحيد. فهناك منقولات أخرى، أكثر تسامحًا وأكثر
انفتاحًا، وهي منقولات ساهمت فيما مضى في إلهام منجزات إسلامية كبرى، آملين
في أن تسود هذه المناحي مع الوقت ومن جديد. لكن، قبل أن يحل هذا اليوم،
علينا أن نفهم أننا سنواجه معركة صعبة، لن يكون بمقدور الغرب فيها أن يفعل
الكثير. لأنه حتى المحاولة في هذا المجال يمكن أن تسيء. ولأن على المسلمين
أن يقرروا توجهاتهم فيما بينهم، لذلك علينا في نفس الوقت، أن ننتبه من كل
النواحي، لنتجنب خطر مجيء عصر حديد من الحروب الدينية الناجمة عن تصعيد
الاختلافات، وإعادة إحياء الأحقاد القديمة.
من أجل هذا، يتوجب علينا القيام بتقويم
أفضل للثقافات الدينية والثقافية الأخرى، عن طريق دراسة تاريخها وأدبياتها
ومنجزاتها. وأن نأمل في أنهم، في المقابل، سيحاولون تفهمنا بشكل أفضل،
وخاصةً تفهم واحترام مفاهيمنا الغربية المتعلقة بالدين وبالسياسة، حتى وإن
لم يختاروا اعتناقها وتبنيها لأنفسهم. لذلك، وللتعبير عن هذه المفاهيم،
سأختتم كما بدأت، بقول لرئيس أمريكي سابق، رئيس لم ينل ما يستحقه من
التقدير كتوماس جيفرسون، إنما ظلم وأهمل، إنه جون تيلر الذي كتب في رسالة
له مؤرخة في الـ10 من تموز 1843، ما يعبّر، وبمنتى البلاغة، عمّا يفهمه
بالحريّة الدينية، حيث قال:
لقد قامت الولايات المتحدة بمغامرة كبرى
وبتجربة كبرى نعتقد أنه ليس لها من مثيل - ألا وهي الفصل الكامل للكنيسة عن
الدولة. حيث لا يوجد بيننا قانونيًا أية مؤسسة دينية. وحيث ترك الضمير
حرًّا من أي قيد. حيث سمح للكل بممارسة عباداته لخالقه وكما يرتئي. وحيث
مكاتب الحكومة مفتوحة أمام الجميع. حيث لا أعشار[3] تجنى لدعم المؤسسة، ولا
الحكم المعصوم للإنسان ينحّى لصالح عقيدة لا تخطىء. حيث بوسع المسلم، إن
سكن بيننا، أن ينعم بحماية الدستور، فيمارس شعائره كما نصّ عليها القرآن.
وحيث بوسع الهندي الشرقي إقامة معابده لبراهما كما يشاء. فهذه هي روح
التسامح التي تضمنها مؤسساتنا السياسية... حيث بوسع اليهودي، المضطهد
والمنبوذ في أماكن أخرى، أن يأخذ كامل مكانته بيننا وأن لا يخاف... لأن نسر
الحكومة الذي يرفرف فوقه سيدافع عنه ويحميه. هذه هي تجربتنا الكبرى، ونحن
ثمارها الطيبة؛ وهي ثمار ليس بوسع نظامنا الحكومي أن يكون حرًا من دونها.
لأنه من الممكن حين يضطهد الجسد وتساء
معاملته أن يبقى حيًّا. لكنه إن أسيء إلى العقل، فإن قدراته وطاقاته ستذبل،
لأن ما يبقى على الأرض هو منها. أمّا العقل فيجب أن يكون حرًّا كالنور أو
كالهواء.