رؤية من كاتب غربى حول الصراع بين المسلمين والغرب.سأنقله للقراءة والتحاور.
( 1)
لاحظ توماس جيفرسون، في إحدى رسائله، أنه
يجب قلب شعار "الحكومة المدنية" المتعلق بشؤون الدين ليصبح "منقسمون سنبقى،
ومتحدون سنسقط". بهذه الملاحظة، حدد جيفرسون، في اختصار، فكرة، أصبحت تبدو
اليوم وكأنها أمريكية بامتياز، ألا وهي: فكرة الفصل بين الكنيسة والدولة.
لكن هذه الفكرة لم تكن جديدة تمامًا آنذاك، لأننا نجد مقدماتها في كتابات
سپينوزا ولوكه والفلاسفة الأوروبيين لعصر التنوير، لكنها أول ما أخذت شكلها
القانوني في الولايات المتحدة قبل أن تنتشر لتصبح واقعًا خلال القرنين
الماضيين.
ونشير هنا أنه إذا كانت فكرة فصل الدين عن
السياسة جديدة نسبيًا، لأنها تعود إلى ما يقارب الثلاثمائة عام، فإن فكرة
التمييز بينهما تعود إلى بدايات المسيحية، فالكتابات المسيحية تحدثت عن
"إعطاء ما لقيصر لقيصر، وما لله لله". ورغم أن الآراء قد اختلفت حول المعنى
الدقيق لهذه العبارة إلاّ أنها، غالبًا، ما فُسِّرت كشرعنة لذلك الوضع
الذي سمح لكلتا المؤسستين بالتواجد معًا، بحيث يكون لكل منهما قوانينه
المختلفة وسلطاته، فتعنى الأولى بشؤون الدين ونسميها الكنيسة، بينما تعنى
الثانية بشؤون السياسة ونسميها الدولة. ولأنهما اثنتان فإنه من الممكن
دائمًا جمعهما أو تفريقهما، بمعنى اخضاع إحداهما للأخرى أو جعلها مستقلة
عنها؛ كما يمكن أن تكونا على خلاف حول قضايا تتعلق بالتشريع وبالصلاحية.
لم يأت تحديد المسائل التي طرحتها العلاقة
بين الدين والسياسة، وإمكانية حلِّها، من مبادىء وتجارب عالمية إنما أتى
بالأحرى من المسيحية، لأنه هناك منقولات أخرى يتعاطى فيها الدين مع السياسة
بشكل مختلف، ما يعني بالتالي أن طرح هذه المسائل وطرق حلها يمكن أن يختلف
جذريًا عما هو عليه في الغرب. لكن معظم هذه المنقولات، ورغم كل ما تحمله من
رقي وتطور، تبقى، أو لنقل بقيت، محصورة بمنطقة أو بثقافة أو بشعب معين.
واحدة فقط كان لها تطلعاتها الكونية وحيويتها بحيث يمكن مقارنتها
بالمسيحية، ألا وهي الإسلام.
والإسلام واحد من أعظم الديانات في العالم.
وهنا أجد من الضروري، كأحد مؤرخي الإسلام من غير المسلمين، أن أوضح ما
أعنيه بهذا الكلام، فالإسلام جلب السلام والأمان لعقول ملايين لا تحصى من
الرجال والنساء، والإسلام أعطى الكرامة والمعنى لأناس كانت حياتهم رتيبة
وفقيرة، وعلّم العيش بإخاء لأناسٍ من أعراق مختلفة، وعلّم أناسًا، من عقائد
مختلفة، التعايش جنبًا إلى جنب وبتسامح نسبي؛ كما أنه ألهم حضارة عظيمة
عاش فيها آخرون، إلى جانب المسلمين، حياة خلاقة ومثمرة. وقد كان لهذه
الحضارة منجزاتها التي أغنت العالم. لكن الإسلام، كغيره من الديانات، عرف
مراحل ألهم فيها مزاجًا من الكراهية والعنف لدى بعض أتباعه. ومن سوء حظنا
اليوم أن قسمًا، هو ليس في أية حال الكلّ أو الأغلبية، من العالم الإسلامي
يمر حاليًا في مثل هذه المرحلة حيث الكثير من، وإن أيضًا ليس كلُّ، هذا
الحقد موجه ضدنا.
لكن دعونا لا نبالغ في تقدير أبعاد هذه
المشكلة، حيث لا يوجد في العالم الإسلامي إجماع على رفض الغرب، كما لم تكن
المناطق المسلمة من العالم الثالث من بين الأكثر انفعالاً وتشددًا في
عدائها له. فما زالت هناك أعداد مهمة، وهي في بعض الأماكن أغلبية، من
المسلمين الذين نتقاسم معهم بعض قيمنا الثقافية والأخلاقية، والمعتقدات
والتطلعات؛ كما لا يزال هناك وجود غربي هام - ثقافي، اقتصادي، وديبلوماسي -
في بعض البلدان المسلمة، التي ما زال بعضها حليفًا للغرب. وقطعًا لم يعرف
الغرب، في أي مكان من العالم الإسلامي، مشاكل يمكن مقارنتها بتلك التي
واجهها في جنوب شرق آسيا وأمريكا الوسطى. حيث لا يوجد في العالم الإسلامي
دول مثل كوبا أو ڤيتنام، ولا أماكن تقاتل فيها القوات الأمريكية مباشرة أو
من خلال "مستشارين"[1]. لكن هناك دول كليبيا وإيران ولبنان، وهناك تصاعد في
الحقد والأسى الذي أصبح يقلق، إن لم نقل، يثر تساؤلات الأمريكيين.
فمن حين إلى آخر يتجاوز هذا الحقد العداء
لبعض المصالح أو الأفعال أو السياسات أو حتى البلدان ليصبح رفضًا للحضارة
الغربية بمجملها. وهو رفضٌ يتجاوز أفعالها ليصبح رفضًا لهذه الحضارة بحد
ذاتها، ولما تحمله من مبادىْ وقيم تمارسها وتدعو لها. حيث ينظر إليها كشرّ
بحدِّ ذاته، كما أصبح ينظر إلى الذين يدعون لها أو يقبلونها كـ"أعداء لله".
وقد تبدو مثل هذه العبارة، التي غالبًا ما
يرددها القادة الإيرانيون في ممارساتهم القضائية وتصريحاتهم السياسية،
غريبة جدًا بالنسبة لناظر خارجي معاصر، سواء كان هذا الناظر علمانيًا أو
رجل دين. لأنه من الصعب قليلاً تقبل تلك الفكرة القائلة بأن للألوهة أعداء،
وأنها بحاجة إلى مساعدة البشر لتحديدهم والتعامل معهم. لكن هذه الفكرة لم
تأت من الفضاء، فالمفهوم القائل بوجود أعداء لله معروف في الأزمنة القديمة
الكلاسيكية وما قبلها. ونجدهُ كذلك في كلا العهدين القديم والجديد، كما
نجده في القرآن. كما أننا نجد فهمًا مميزًا لهذه القضية لدى الديانات
المثنوية الإيرانية القديمة، حيث تتحدث الأساطير المتعلقة بنشأة الكون عن
وجود قوتين علويتين وليس فقط قوة واحدة. فالشيطان، من المنظور الزرادشتي،
ليس كالشيطان وفق المسيحية أو الإسلام أو اليهودية واحدًا من المخلوقات
الإلهية التي كتب لها أن تحقق بعض المهام المجهولة؛ إنما هو قوة مستقلة بحد
ذاتها، قوة عظمى للشر الذي يخوض معركته الكونية ضد الله. وقد أثر هذا
الإيمان، من خلال المانوية وغيرها من الطرائق، على بعض النحل المسيحية
والمسلمة واليهودية. كما اطلق اسم الديانة المانوية شبه المنسية اليوم على
ذلك المنظور الصارخ والتبسيطي للمشاكل التي تصور الصراع في العالم كصراع
بين القوى المطلقة للخير والقوى المطلقة للشر.
والقرآن توحيدي بلا شك، فهو لا يعترف إلاّ
بإله واحد، وبقوة كونية واحدة. لكن هناك في قلوب البشر صراع بين الخير وبين
الشرّ، بين تعاليم الله وبين المجرِّب. وهذا الصراع، بمشيئة الألوهة، هو
مجرد تجربة للجنس البشري، وليس كما في الديانات المثنوية القديمة صراع
يتوجب على الإنسان لعب دور حيوي فيه ليؤمن انتصار الخير على الشر. لكن،
وعلى الرغم من توحيديته، تأثر الإسلام، مثله مثل المسيحية واليهودية، وخاصة
في إيران؛ بهذا المفهوم المثنوي المتعلق بالصراع الكوني بين الخير والشر،
النور والظلام، النظام والفوضى، الحقيقة والخطأ، الله وعدوه الذي أسميناه
الشرير أو إبليس أو الشيطان أو العديد من الأسماء الأخرى.
صعود دار الكفر
ففي الإسلام، سرعان ما اتخذ الصراع بين
الخير والشر أبعادًا سياسية وحتى عسكرية. ونتذكر أن محمدًا لم يكن نبيًا
ومعلمًا فقط، مثله مثل مؤسسي باقي الديانات، إنما كان أيضًا قائدًا سياسيًا
وقائد جماعة، كما أنه كان في نفس الوقت حاكمًا وجنديًا مقاتلاً. لهذا كان
صراعه يتضمن الدولة وقواتها المسلحة. ما يعني إنه في الإسلام، إذا كان
المقاتلون في حرب، وكانت هذه الحرب مقدسة و"في سبيل الله"، فإنهم يقاتلون
من أجل الله، وأن خصومهم يقاتلون الله. وبما أن الله هو المَلِك من حيث
المبدأ، وبالتالي هو أعلى سلطة في الدولة الإسلامية - فمن بعده يأتي النبي،
ومن تلاه من الخلفاء - فإن الله كملك هو الذي يقود الجيش الذي هو جيشه،
لمحاربة أعدائه الذين هم أعداء الله. وواجب جند الله هو أن يرسلوا أعداء
الله إلى حيث ينالون العقاب، أي إلى ما وراء هذه الحياة.
ويرتبط تقسيم الجنس البشري، في الإسلام،
بهذا المفهوم. لأنه، وبشكل طبيعي، توجد لدى معظم المجتمعات الإنسانية طريقة
تميّز فيها نفسها عن الآخرين: من هم في الداخل ومن هم في الخارج، من هم
داخل الجماعة ومن هم خارجها، من هم الجيران ومن هم الغرباء. وهذه التعاريف
لا تساعد فقط على تحديد الدخيل، إنما أيضًا، وبشكل خاص، تساعد على تحديد
نظرتنا لأنفسنا.
وفق المنظور الإسلامي التقليدي، الذي بدأ
يعود إليه العديد من المسلمين، يقسَّم العالم والبشرية إلى اثنان: دار
الإسلام، حيث يسود القانون الإسلامي ويسود الإيمان؛ والباقون الذين يُطلق
عليهم اسم دار الكفر أو دار الحرب. ما يعني أنه يتوجب على المسلم هدايتهم
وجلبهم إلى الإسلام. لكن القسم الأعظم من العالم ما زال غير مسلم، حتى في
داخل الأراضي الإسلامية، وهذا، وفق منظور الإسلاميين المتشددين، قوض
الإيمان وألغى القوانين الإسلامية. ما يعني أيضًا أن هذه الحرب المقدسة،
التي ستبدأ في الداخل وستستمر ضد نفس الأعداء في الخارج، أصبحت واجبًا.
فكغيره، من الحضارات في التاريخ الإنساني،
كان العالم الإسلامي خلال أيام مجده يعتبر نفسه مركزًا للحقيقة وللتنوير،
محاطًا بالبرابرة والكفار الذين يتوجب عليه هدايتهم وتحضيرهم أصولاً. لكن
كان هناك فرق جوهري بين مختلف أنواع البرابرة، فالبرابرة جنوبًا وشرقًا
كانوا متعددي الآلهة وعبدة أوثان، وبالتالي لا يشكلون أي تهديد يذكر ولا
أية منافسة للإسلام. أمّا شمالاً وغربًا، فعلى العكس، كان المسلمون، ومنذ
الأيام الأولى، يقرّون بوجود خصم حقيقي - ديانة عالمية منافسة، وحضارة
متميزة مستوحاة من هذه الديانة، وإمبرطورية وإن كانت أصغر بكثير من
إمبرطوريتهم إلاّ أنها لم تكن تقل عنهم طموحًا في تطلعاتها ومتطلباتها.
وهذه كانت الهوية المسيحية التي غالبًا ما كانت تتطابق مع أوروبا.
ويمكننا القول، حتى الآن، أن الصراع بين
هاتين المنظومتين المتنافستين ما زال مستمرًا منذ أربعة عشر قرنًا. وهو
صراع بدأ منذ ولادة الإسلام، في القرن السابع الميلادي، واستمر نظريًا حتى
يومنا هذا. صراع كان عبارة عن مجموعات طويلة من الهجمات والهجمات المضادة،
ومن الجهادات من جهة والحروب الصليبية من جهة أخرى، ومن الغزوات والغزوات
المضادة. خلال الأعوام الألف الأولى (التي تلت ظهور الإسلام)، كان الإسلام
يتقدم وكانت المسيحية المهددة تتراجع. فقد احتل الإيمان الجديد كلّ الأراضي
المسيحية القديمة في المشرق وشمال أفريقيا، وغزا أوروبا؛ فحكم صقليا لبعض
الوقت، كما حكم إسبانيا والبرتغال، وحتى أجزاء من فرنسا. كما تم استيعاب
وردُّ المحاولة الصليبية لاستعادة الأراضي التي خسرتها المسيحية، لا بل أنه
عوّض حتى الخسارة الإسلامية لجنوب أوروبا، بتقدم إسلامي في جنوب شرق
أوروبا، حيث وصل المسلمون مرتين إلى مشارف ڤيينا. أمّا خلال الثلاثمائة سنة
الماضية، وبعد فشل الحصار التركي الثاني لڤيينا في العام 1683، وصعود
الإمبرطوريات الاستعمارية الأوروبية في آسيا وأفريقيا، تحول الإسلام إلى
وضع دفاعي، حيث تمكنت الحضارة الأوروبية المسيحية وما بعد المسيحية من وضع
العالم، بما فيه العالم الإسلامي، في فلكها.
ونحن نشهد، منذ فترة طويلة، تصعيدًا في
التمرد على هذه الهيمنة الغربية، ورغبة في التأكيد على القيم وإعادة إحياء
العظمة الإسلامية. فلقد عانى المسلم من الهزيمة خلال مراحل متعددة، وكانت
أول هزائمه فقدان سيطرته العالمية أمام تعاظم قوة روسيا والغرب، وكان
ثانيها تصدع قوته في بلده، بسبب انتشار الأفكار الأجنبية والقوانين وطرق
الحياة، وحتى أحيانًا، الحكام الأجانب أو المستوطنين، وتحرر العناصر
المحلية غير المسلمة؛ وكان ثالثها - تلك القشة التي قصمت ظهر البعير - تحدي
سلطاته في عقر داره، من قبل النساء المتحررات والأبناء المتمردين. وكل هذا
كان من الصعب احتماله. لذلك كان لا بدَّ من التعبير عن الغضب ضد أولئك
الغرباء الكفار، ومواجهة تلك القوى غير المفهومة التي قوضت سلطته، وهزَّت
مجتمعه، واغتصبت حرمة منزله. ما يعني أنه كان من الطبيعي أن يتوجه هذا
الغضب، أولاً، ضد عدوه الألفي، وأن يستمد قوته من معتقداته القديمة
وولاءاته. وهذا العدو، أليس هو أوروبا وبناتها؟ لأن هذا التعبير قد يبدو
غريبًا للأمريكان، الذين انبثقت مفاهيمهم الوطنية، منذ بدايات أمتهم وحتى
قبل ذلك، من خلال المواجهة مع أوروبا، وكشيء جديد ومختلف جذريًا عن الطرائق
الأوروبية القديمة. لكن هذا لم يكن المنظار الذي رآها به الآخرون، ليس
غالبًا في أوروبا، وبصعوبة في أماكن أخرى.
هكذا إذًا، ورغم أن شعوبًا وثقافات أخرى
ساهمت، بشكل غير مباشر، في اكتشاف وبناء الأمريكيتين، إلاّ أن هذا المشروع
بقي في نظر باقي العالم، خليقة أوروبية. مشروع ساد فيه الأوروبيون وسيطروا
فيه على سواهم، فأعطوه لغاتهم ودياناتهم وطرق حياتهم.
فلقد بقيت الهجرة الاختيارية إلى أمريكا،
ولفترة طويلة، أوروبية حصرًا. ورغم أنه كان هناك فعلاً بعض ممن جاء من
البلدان الإسلامية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إلاّ أن القليل منهم كان
مسلمًا، فغالبيتهم كانت من الأقليات المسيحية واليهودية في هذه البلدان.
ما يعني أن ذهابهم إلى أمريكا وتواجدهم فيها قد قوّى، ولم يضعف، الصورة
الأوروبية لهذا البلد في أعين المسلمين.
كما لم تعرف الأراضي الإسلامية إلاّ القليل
عن أمريكا. ونلاحظ أنه، في البداية، أثارت رحلات الاستكشاف بعض الاهتمام.
فنجد في اسطنبول النسخة الوحيدة المتبقية لخريطة كولومبوس للقارة الأمريكية
وقد ترجمت إلى التركية، وهي ما زالت محفوظة في متحف قصر توباكي هناك. كما
قام جغرافي تركي، في القرن السادس عشر، بكتابة تقرير عن اكتشاف العالم
الجديد بعنوان تاريخ الهند الغربية، فكان واحدًا من أوائل الكتب التي كتبت
في تركيا. بعد ذلك، يبدو أن هذا الاهتمام قد تلاشى، ولم يجري الحديث كثيرًا
عن أمريكا، بالتركية، والعربية، وباقي اللغات الإسلامية، حتى فترة متأخرة.
حيث كتب سفيرٌ للمغرب في إسبانيا تقريرًا عن الثورة الأمريكية. بعد ذلك،
وفي العام 1787، وقِّع سلطان المغرب معاهدة صداقة وتعاون مع الولايات
المتحدة، بعدها كان هنالك بين هذه الجمهورية الفتية، وبين بلدان إسلامية
أخرى، العديد من التعامل التجاري الذي كان بعضه ودّيًا وبعضه الآخر
عدوانيًا. لكن لم يكن لهذا إلا وقع قليل على كلا الجانبين، فلقد بقيتا
الثورة الأمريكية والجمهورية الأمريكية غير ملحوظتان وغير معروفتان لفترة
طويلة. وحتى الوجود الأمريكي الصغير والمتنامي في الأراضي الإسلامية في
القرن التاسع عشر من خلال التجار والقناصل والمبشرين والمعلمين، لم يثر
إلاّ القليل من الاهتمام، وبقي شبه مُغيب في أدبيات وصحف تلك الأيام.
ثم كانت الحرب العالمية الثانية، وصناعة
النفط، وتطورات ما بعد الحرب التي جلبت العديد من الأمريكان إلى الأراضي
الإسلامية، كما جلبت أعداد متزايدة من المسلمين إلى أمريكا، كطلاب في
البداية، ثم كأساتذة، ورجال أعمال، وزوار، وحتى كمهاجرين. كذلك، وضعت
السينما، ومن ثم التلفزيون، طريقة الحياة الأمريكية، أو لنقل بعضًا منها،
أمام أعين الملايين الغفيرة من الناس الذين لم يكن اسم أمريكا يعني لهم
شيئًا أو كان مجهولاً بالنسبة لهم. وأيضًا، مباشرة بعد الحرب، وفي وقت كانت
فيه المنافسة الأوروبية شبه معدومة، والمنافسة اليابانية لم تظهر بعد، غزا
أسواق العالم الإسلامي طيف واسع من المنتجات الأمريكية، فاكتسبت زبائن
جدد، وولدت، ربما، أذواق جديدة وطموحات جديدة. فبالنسبة للبعض كانت أمريكا
تمثل الحرية والعدالة والفرص المتاحة. وبالنسبة للبعض الأكثر كانت تمثل
الثراء والسلطة والنجاح. هذا في وقت لم يكن ينظر إلى هذه الأمور كخطايا أو
كجرائم.
ثم كان التحول الكبير، عندما استنتج وحدد
زعماء طيف واسع وعميق من دعاة الصحوة أعداءهم كأعداء لله، فأعطوهم "أسماء
وحددوا لهم أماكن سكن" في النصف الغربي من الكرة الأرضية. وهكذا فجأة، على
ما يبدو، أصبحت أمريكا هي العدو الأكبر، وتجسيد الشر، والمنافس الشيطاني
لكل ما هو خيّر، وتحديدًا بالنسبة للمسلم وللإسلام، فلماذا؟
بعض الاتهامات المعروفة
ونلاحظ أنه، من بين مكونات المزاج المعادي
للغرب عامةً ولأمريكا خاصةً، هناك بعض المؤثرات الفكرية القادمة من أوروبا.
فإحداها مثلاً أتى من ألمانيا، حيث شكلت النظرة السلبية لأمريكا جزءًا من
مدرسة فكرية لم تكن لها أية علاقة بالنازية، إنما ضمت العديد من الكتاب
المتنوعين كرينر ماريا ريلكه، وإرنست يونغ، ومارتن هايدغر. من هذا المنظور
كانت أمريكا هي المثال الأكثر وضوحًا لحضارة بلا ثقافة: حضارة غنية ومريحة،
متقدمة ماديًا لكنها بلا روح وسطحية، مجمَّعة، أو في أحسن الأحوال مبنية،
لكنها لم تتكون نتيجة تطور؛ معقدة تقنيًا لكنها تفتقد إلى تلك الروحانية
والحيوية التي طبعت الثقافات القومية المتجذرة والإنسانية للألمان وغيرهم
من الشعوب "الحقيقية". ونسجل أن الفلسفة الألمانية، كانت تمتع بشعبية كبيرة
بين المثقفين العرب والمسلمين في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي،
وأن هذه الثقافة كانت معادية للأمركة، وهذا كان بعضًا من الرسالة.
بعد انهيار الرايخ الثالث، والانتهاء
المؤقت للنفوذ الألماني، حل مكان هذه الفلسفة فلسفة أخرى أكثر عداءً
لأمريكا - ألا وهي النسخة السوفييتية من الماركسية. تلك التي كانت تندد
بالرأسمالية الغربية وبأمريكا التي تجسد نموذحها الأخطر والأكثر تقدمًا.
وعندما بدء النفوذ السوفييتي بالذبول، سرعان ما حلّ محله، أو لنقل كمّلته -
مسطيقا الجديدة للعالم ثالث، نبعت من غرب أوروبا، وخاصةً من فرنسا، ومن ثم
الولايات المتحدة، واستندت أحيانًا على هاتين الفلسفتين اللاتي سبقنها[2].
وقد استندت هذه المسطيقا، خاصةً، على ذلك الميل الكوني والإنساني لاختراع
عصر ذهبي أفترض أنه كان موجودًا فيما مضى، وحدده الميل الأوروبي في مكان
آخر. فكانت هذه النسخة الجديدة من الأسطورة المتعلقة بعصر ذهبي أُرجع إلى
العالم الثالث، حيث دمرت الإفعى الغربية براءة آدم وحواء اللذين لم يكونا
غربيين. وقد انطلقت هذه النظرة، مما اعتبرته بديهية، من طيبة ونقاء الشرق
مقابل شرانية الغرب، فوسعت هذا المفهوم بشكل تفاضلي ليشمل غرب أوروبا
والولايات المتحدة. فوقعت هذه الأفكار على أرض خصبة. ولاقت رواجًا واسعًا.
لكنه، وعلى الرغم من أن هذه الأفكار قد
ساعدت على إيجاد تعبير فكري للعداء للغرب ولأمريكا، إلاّ أنها لم تتسبب به.
وهي قطعًا لا تفسر هذا العداء الواسع الذي جعل الكثيرين، في الشرق الأوسط
وفي العالم الإسلامي، يتقبلون مثل تلك الأفكار.
لأنه يجب أن يكون واضحًا أن ما جذب التأييد
لمثل هذه العقائد لم يكن عنصرية النظرية النازية، التي كان لها القليل من
الجاذبية عند العرب، ولا الإلحاد الشيوعي السوفياتي الذي لم يكن جذابًا
بالنسبة للمسلمين؛ إنما أرضيتهما المشتركة المعادية للغرب. فقد كانت
النازية والشيوعية آنذاك هي القوى الأساسية المعارضة للغرب، سواء كطريقة
حياة أو كقوة عالمية. ومن هذا المنطلق كان من الممكن أن تحوزا على تعاطف،
إن لم نقل أن تلقيا تأييد، أولئك الذين كانوا يرون في الغرب عدوهم الرئيسي.
لكن لماذا كان لهذا العداء المقام الأول؟
لأننا، إن انتقلنا مما هو عام إلى ما هو أكثر تحديدًا، فإننا لا نجد نقصًا
في السياسات والأفعال الفردية التي تابعتها وقامت بها بعض الحكومات الغربية
وأثارت غضب أبناء الشرق الأوسط وغيرها من الشعوب الإسلامية. لكنه غالبًا،
عندما كان يتم التخلي عن هذه السياسات أو كان يتم حل هذه المشاكل، فإن
المقابل كان مجرد تخفيف محلي ومؤقت للغضب. فالفرنسيون خرجوا من الجزائر،
والإنكليز تركوا مصر، وشركات النفط الغربية تخلت عن امتيازاتها النفطية،
والشاه الموالي للغرب ترك إيران - ورغم هذا، نمى وترعرع، ولم يخف، الحقد
الأصولي المعادي للغرب.
والسبب، الذي غالبًا ما يذكر اليوم لتبرير
مشاعر العداء لأميركا بين المسلمين، هو مساندة هذه الأخيرة لإسرائيل. ونحن
نعترف بأن هذه المساندة تشكل عاملاً هامًا يزداد بمقدار القرب من هذه
القضية أو التورط فيها. لكننا نجد هنا أيضًا بعض التناقضات التي يصعب شرحها
بشكل بسيط وواضح. ففي الأيام الأولى لتأسيس إسرائيل، وحين كانت الولايات
المتحدة تحتفظ لنفسها ببعض المسافة عن هذه الدولة، كان الاتحاد السوفياتي
يضمن لها اعترافًا قانونيًا مباشرًا، ويساندها، ويمدها بالسلاح عن طريق
تشيكوسلوفاكيا التي كانت إحدى الدول الدائرة في فلكه؛ ما أنقذ الدولة
الفتية خلال الأسابيع الأولى من حياتها، من الموت ومن الهزيمة. ورغم هذا لم
تولِّد هذه السياسات الكثير من الضغينة تجاه السوفييت، كما لم تولِّد في
المقابل بعضًا من حسن النية تجاه الولايات المتحدة. وفي العام 1956، ورغم
أن تدخل الولايات المتحدة هو الذي ألزم بشكل حازم وبالقوة إسرائيل
وبريطانيا وفرنسا على سحب قواتها من مصر، نجد أن قادة مصر وسورية والعراق
توجهوا إلى الاتحاد السوفييتي لتأمين تسليح دولهم، كما أقاموا علاقات تضامن
مع المعسكر السوفييتي في الأمم المتحدة وفي العالم بشكل عام. وفي الآونة
الأخيرة، بعد أن أظهر قادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية أكثر الأشكال
المبديئة التي لا تقبل المساومة في استنكار إسرائيل والصهيونية، فإن قادة
هذه الدولة، سواء قبل أو بعد وفاة الإمام آية الله روح الله خميني، وجدوا
أنه من الأسهل بالنسبة لهم أن يتكلموا مع القدس من أن يتكلموا مع واشنطن.
ذلك في الوقت الذي كان فيه الرهائن الغربيون في لبنان، ومعظمهم ممن كان
مؤيدًا للقضية العربية، لا بل معتنقًا الإسلام، يعاملون وينظر إليهم من قبل
خاطفيهم كأتباع للشيطان الأكبر.
وأيضًا، هناك حجة أخرى يرددها المنشقون
الإسلاميون لتبرير مشاعرهم المعادية لأمريكا، ألا وهي مساندتها لأنظمة
مكروهة. أنظمة كان ينظر إليها كرجعية من قبل الراديكاليين، وككافرة من قبل
المحافظين، وكفاسدة وطاغوتية من قبل الطرفين. ولهذه الحجة بعض المنطق الذي
بوسعه أن يفسر أسباب تحول قوى ذات توجه داخلي، وغير قومي على الأغلب، إلى
موقف معاد لقوة خارجية. لكن هذه الأسباب لا تكفي لفهم ما كان يجري، عندما
كان يخف، سواء من حيث المدى أو من حيث الفعالية، دعم هكذا أنظمة - الأمر
الذي اكتشفه الشاه في حينه.
لأنه من الواضح، أن هناك شيئًا أعمق من تلك
المظالم مهما كثرت وأيًا كانت أهميتها. شيء أعمق يحوِّل كل خلاف إلى مشكلة
غير قابلة للحل.
ونلاحظ أن رفض أمريكا، والغرب بشكل عام، لا
ينحصر بالعالم الإسلامي؛ كما لم يعبِّر المسلمون، إن استثنينا منهم مشايخ
إيران وأتباعهم في كل مكان، عن أقصى أشكال هذا الشعور. فقد انتشر مزاج
الخيبة والعداء هذا في أماكن أخرى من العالم، لا بل أصاب بعض الناس في
الولايات المتحدة. ونلاحظ أنه من وسط هؤلاء الذين، على الرغم من ادعاءاتهم
بأنهم ينطقون باسم المضطهدين في العالم الثالث، ولم يكونوا يعبرون إلاّ عن
أنفسهم؛ جاءت أكثر التفسيرات والتبريرات المعادية انتشارًا.