في
مقدّمة "كرومويل" يحدّد فيكتور هوغو العصر الحديث كمثل مأساة. فالإنسان
الحديث قد تشكّل على يد المسيحية كإنسان مزدوج (جسد وروح، حلم وواقع).
تناقض يمكن الشاعر وحده ان يعبّر عنه بالسمو والغروتسك، الرعب والضحك (الى
الموت ولنذهب الى الغداء، كما يقول هوغو متذكّرا فقرة من "سقراط" لفولتير،
حيث اقترح احد القضاة إعدام جميع الرياضيين، فأجابه قاض آخر، أجل، سنُعدمهم
في أول جلسة. لنذهب الى الغداء).
كذلك، في تحليلات وميتافيزيقيات
أبعد، أثارت بيانات السوريالية، العراك الرؤيوي، مضاعفةً التناقضات وحافرةً
المهاوي، مع تأكيد قدرتها على الحلول في تفاؤل أساسي: "أؤمن بحلّ مستقبلي
لهاتين الحالتين المتناقضتين في الظاهر، ونعني بهما الحلم والواقع، عن طريق
نوع من الواقع المطلق، نوع من "فوق الواقع" إن أمكن القول (البيان الأول
للسوريالية).
فعن طريق اللا-امتثالية المطلقة، والحلم اليقظ، والكتابة
الآلية، والرؤية المدهشة في الواقع اليومي، وإطلاق الصور الاعتباطية،
والمحافظة في سن الرشد على ألعاب الطفولة، ومن طريق أبحاث أخرى، ممارسة
(الكولاج، الجثة اللذيذة...) تنسيقياً، فإن الانسان، هذا "الحالم الراسخ"،
يمكنه منذ الآن أن يحلّ ذلك التناقض. وإنّ (البيان الثاني للسوريالية) يمنح
مدى أوسع لامكانات النشاط السوريالي:
"كل شيء يحمل على الاعتقاد بوجود نقطة ما في العقل تكف عندها الحياة
والموت، الواقعي والخيالي، الماضي والحاضر، الممكن إبلاغه وغير الممكن،
الفوق والتحت، تكف عن إدراكها متناقضة. وعليه، فمن العبث ان نبحث لدى
النشاط السوريالي عن باعث آخر غير الأمل في تحديد هذه النقطة".
الى هذه التناقضات التقليدية التي لا تذلَّل، ولا تقبل أي تنازلات أو
محايدة، أضاف جورج باتاي في "الأدب والشر"، التناقض الأولي للخير والشر.
وهذا ما قصده أندره بروتون، حتى وإن يكن الفوق والتحت يتعلّقان بالأحرى في
ذلك التحديد، بعمودية الوعي بالنسبة الى اللاوعي، أكثر مما هو الأمر
بالنسبة الى تراتبية الخير والشر. وإن بروتون هو الذي حدد الرغبة التي تمتد
من الرومنسية الى السوريالية كإرادة أكيدة للشر. وهو كتلميذ لهيغل، رأى في
الشر القوة المحركة للتاريخ. واذا كان حب الرجل والمرأة، "الحب المجنون"
Lصamour fou المتحرر من كل رشد، من كل منفعة، من كل احتمال، يصبح عند
بروتون إعادة تشكيل للخنثى الأولية، وعند ايلوار وأراغون تمثيلا أو صورة
للمشاركة العالمية، إذا كان هذا الحب "يفتتح عالماً"، فإن "الفكاهة
السوداء" Lصhumour noir هي طوره البدئي، والتمهيد للظلمات، المعاصر
للكارثة، التي تغرق فيها الامتثالية Conformisme، والعقل، والأمل، حتى
الانسان، "إذا كان لا يزال يريد ان يكون حرا يؤمن بحريته" (بروتون).
الواقع، ان الجذور الاشتقاقية والتاريخية ل"الفكاهة" هي نفسها التي
للسوريالية. إن تماثل النفس والجسد، الانسان والكون، التجذّر العميق، العنف
اللامنطقي، الخلق المرضي، ذلك كله يفتح الطريق أمام التحليل النفسي لدى
فرويد وباشلار، وأمام نشاط الذهان الهذياني paranoia للسوريالية.
"ويرى
الفرنسيون ان كلمة Humour دخلت الى لغتهم في وقت متأخّر (المرادف العربي:
فكاهة أو دعابة غير دقيق. ولكن ما العمل؟ فاللغات في مجملها تتمسك ببعض
مفرداتها، فإما ان تأخذها كما هي، وإلا فأنت خائن لا محالة. لذا، سأضع هذا
المرادف بين قوسين لأذكّر بخيانته). فهذه الكلمة هي انتاج انكليزي خاص،
بدءا من بن جونسون حتى جوناثان سويفت الذي أدرجه بروتون ضمن "مختارات من
الفكاهة السوداء". ولكن برغم بعض التخيلات الوقحة حيال العقل، فإن سويفت
"لا يهدم أدراج الدماغ" في رأي تريستان تزارا. فهو "لا يُدخلنا في
المغامرة، لا يعرّضنا للخطر، ولا يعرف التشنّج".
لذلك كان على
السورياليين ان يجدوا عبارة أخرى تصف الشكل الأعنف والأكثر سلبية
ل"فكاهتهم". وقد وجدوها في "الفكاهة السوداء". والى بروتون بالذات يرجع
تزويج "الفكاهة" و"السواد" للمرة الأولى، هذا التزويج العبقري والشعري غير
المتوقَّع، وإن كان من فضول الكلام ربما، باعتبار ان "الفكاهة" دائما سوداء
كفاية.
كيف اهتدى بروتون الى ذلك؟
في مقدمته الشهيرة لمختاراته، حيث الأسلوب والفكرة وسعة الاطلاع تتلاقح في عمق، جاء الآتي:
"يمكن
اعتبار هيغل الذي جعل "الفكاهة" تقوم بخطوة حاسمة في حقل المعرفة، عندما
سما الى مفهوم "الفكاهة الموضوعية"، حيث يقول: إن للفن الرومنسي كمبدأ
أساسي، تركُّزاً للنفس على ذاتها. وإذْ لم تجد العالم الواقعي يستجيب
تماماً طبيعتها الداخلية، ظلّت غير مبالية تجاهه. وتنامت هذه المعارضة في
عهد الفن الرومنسي، الى ان رأينا الاهتمام يتركّز تارة على عوارض العالم
الخارجية، وطوراً على نزوات الذاتية. ولكن الآن، إذا كان هذا الاهتمام
سيجعل النفس تستغرق في التأمّل الخارجي، وفي الوقت نفسه تستسلم "الفكاهة"
لأسر الموضوع وشكله الواقعي، مع الاحتفاظ بصفتها الذاتية والتأملية، نحصل
في هذا التوغّل الداخلي على "فكاهة" موضوعية نوعا ما". وكنا أعلنا - يضيف
هنا بروتون - من جهة أخرى، ان السفينكس Sphinx الأسود ل"الفكاهة
الموضوعية" لا يمكن ان يفوّت اللقاء على الطريق الغبراء، طريق المستقبل مع
السفينكس الأبيض ل"الصدفة الموضوعية"، وأن كل الإبداع الإنساني اللاحق
سيكون ثمرة عناقهما (الموقف السوريالي للموضوع - 1935).
ويرى بروتون في
مقال آخر بعنوان "حدود السوريالية غير الفاصلة" "ان "الفكاهة الموضوعية"
و"الصدفة الموضوعية" هما في شكل صريح القطبان اللذان تعتقد السوريالية أنها
تستطيع ان تطلق بينهما شرارتها الكبرى".
وفي مكان آخر من "الموقف
السوريالي للموضوع" يُلقي بروتون الضوء على ذلك بقوله: "ان هذه المنطقة من
"الصدفة الموضوعية" غير المكتشفة تقريبا، هي كما أرى في الوقت الحاضر، ما
يخدر أكثر من إي شيء، ان نتابع فيها أبحاثنا. أنها مجاورة تماما لتلك التي
كرّسها سلفادور دالي لملاحقة النشاط الذهاني الهذياني - النقدي
paranoôaque-critique (قُرنت صفة "النقدي" بلفظة "الهذيان"، لأن الأمر لا
يتعلق بالهذيان البحت بل بإشراكه مع عنصر من عناصر الوعي).
وهي من
ناحية أخرى، مكان تظاهرات جد مثيرة للعقل، يرشح من خلالها نور قد يكون أشبه
بنور الوحي الذي تتحطّم "الفكاهة الموضوعية"، حتى إشعار آخر، على أسواره
الوعرة. أمام هذا التناقض الرئيسي، يجد الشعر نفسه اليوم، وتاليا أمام
الحاجة الى حل هذا التناقض الذي هو سر حركته".
ولا شك ان إدمان بروتون
دروس فرويد، أوصله الى هذا المفهوم متجاوزا درس هيغل، ولكن من دون التخلي
عنه. وقد أدرج في مقدمة "المختارات" ما يدل على ذلك:
"حان الوقت، يقول
فرويد، لأن نألف بعض ميزات "الفكاهة". أنها لا تملك فقط شيئا من التحرر،
مشابها للنكتة أو الهزل، وإنما أيضا شيئا من الجليل والشامخ. وهما سمتان لا
توجدان في ذينك الأسلوبين (أي النكتة والهزل) لاكتساب اللذة من طريق نشاط
ذهني. فالجليل يتعلق طبعا بغلبة النرجسية، بمناعة الأنا التي تؤكد ذاتها في
انتصار. فالأنا ترفض ان يأخذ فيها الألم أو يُفرض عليها من طريق الحقائق
الخارجية، ترفض القبول بأن في مستطاع صدمات العالم الخارجي ان تمسّها. والى
ذلك، تروح تُظهر أن هذه الصدمات قد تؤول الى مسببات للذة". وان فرويد -
يضيف بروتون - يقدّم هنا مثلا بسيطا، ولكنه كاف: انه المحكوم الذي يُساق
الى المقصلة فيصرخ: "ها هي بداية حسنة للأسبوع".
فمن عمق السقوط
بالذات، سقوط هو شرط "الفكاهة" الأوّل، تفجِّر "الفكاهة" العالم الذي يسحق
ال"إنا" المحجَّرة، وتعيد الانسان الى الحرية، الى السيادة.
ولكن بعد كل ما سبق، هل من تعريف صريح ل"الفكاهة السوداء"؟
يقول اللاروس الكبير: "الفكاهة السوداء تُشدّد بقسوة ومرارة، وأحيانا بيأس، على عبثية العالم".
تعريف يعتبره البعض غير واف تماما:
- "الفكاهة مسألة مقلقة أكثر من جاذبية الكون" (موريس ديكوبرا).
- "لا شيء يبعث فيّ الشك أكثر من الإجابة عن هذا السؤال" (بيار دانينوس).
- "إنها الشكل الوحيد المجاز له الجريمة العاطفية" (جورج نوفو G. Neveux).
- "إنها ابتسامة التمرّد" (أندره ميغيل).
- "إنها تهذيب اليأس" (كريس ماركر).
- "إنها ميكانيكية الدقة. تهدم الرؤية الاصطلاحية للعالم، مع الابتسامة
عموما، ولكن وهي تعرف غالبا بأسنانها، وأحيانا في تشاؤم" (J.H. LevEque).
تلك كانت فقرات اوردها جاك ستيرنبيرغ في مقدّمته لمنتخباته من أعمال
الفكاهة السوداء. كذلك كان لبول فاليري، كما ذكر بروتون في مقدّمته، الرأي
الآتي: "ان كلمة Humour لا تُترجم. ولو لم تكن كذلك لما استعملها
الفرنسيون. ولكنهم يستعملونها بالضبط من جراء هذا الالتباس الذي يحمّلونها
إياه، ويجعلها كلمة ملائمة لتنازع الأذواق والألوان. كل جملة تحتويها تغيّر
المعنى. حتى ان هذا المعنى بالذات عند التدقيق، ليس غير مجموع إحصائي لكل
العبارات التي تضمها أو سوف تضمها".
وثمة آراء أخرى. ويؤسفني إلا يكون في إمكاني ذكر استشهاد عربي. ذلك ان
العرب لم يصطبغ أدبهم الفكاهي على غناه، بصباغ الHumour، حتى أواسط القرن
الماضي التي جادت علينا ببعض المواهب المميزة.
على ان "الفكاهة السوداء"، وإن تكن عسرة التحديد، وتسمح لكل الالتباسات
والتسويات، قد أظهرت وتُظهر من خلال نصوصها الأصيلة، إنها تتمحور حول مفهوم
الجنون، والتمرد، واللاواقعي، والهدم في لطف، والمضحك. وهذا الأخير ليس
دائما ضرورة. وهي لا تطالب بشيء، ولا حتى باتخاذ حل على الأخص. فالفكاهي
الأسود يعرف جيدا ان لا حلّ "حقيقياً"، لأن لا غاية "حقيقية". والأمر
الأساسي، ان الفكاهي الأسود "لا يعرف غير ذلك"، وما بقي في الدرجة الثانية.
انه يعيش في استمرار مع موته. فماذا يعمل في مثل هذه الحال؟ ان الصراخ من
الألم مفيد للذين يعانون أحزانا غرامية، عائلية أو مالية، إما الذين بلغوا
عتبة المشهد الأخير، فوحدها الابتسامة تجدي. أنهم يلتفتون الى الوراء،
ينظرون الى عالم يدور في وله خلف ذيله، ويبتسمون. وهذا يتضمن في وضوح ان
اليأس لو اعتبر سلما، لكانت "الفكاهة" على الأرجح هي الدرجة الأخيرة. لذا،
لكون "الفكاهة" بنت اليأس، عدّت أيضا، إنذارا بالخطر. لكنه إنذار خفي لا
يسمعه الكثيرون. مناجاة في الليل تتوارى خلف ابتسامة حامزة -عذبة ترتسم على
شفاه افراد ليس لديهم شيء يوصون به، ويفضلون ان يهزوا أكتافهم تهكما ثم
يمضون. وهذا ما يجعلهم يكتبون قليلا إذا ما حاولوا. اذ هم كإخوانهم
السورياليين يُجلّون النص القصير. وليس من قبيل الصدفة، أو من دون سبب، ان
لا نلاقي روائيا واحدا في "مختارات بروتون". فقط الشعراء وكتّاب المقالات
والأقاصيص ومجانين الكلمة. فنفَس الرواية الطويل لا تناسبه "الفكاهة"
القصيرة النفس. ولكن المؤسف ان جمهور "الفكاهيين" قليل.
واللافت، ان الفكاهة السوداء، على ما هي عليه من نعوت متطرفة، لا تأنس
إلا بذوي العقول الذكية والخلاقة والمغامرة التي يمكنها وحدها ان تحبل بها.
ومن يطّلع على تراجم "الفكاهيين" الحقيقيين وعلى نصوصهم المبرّزة يدرك هذا
القول. إلا أنهم على نوعين: منهم من أشرك بها، ومنهم من تبتّل كليا إليها،
كصموئيل بيكيت الذي يُعدّ ظاهرة نادرة في "مكتبتها العالمية". يليه هنري
ميشو، وإن يكن إخلاصه لها نسبيا اقل. حيث تقوم غرابة فنّه في الأدب والرسم،
على صهر الانفعال معها. وهو عنصر نقيض ظاهريا لها. وخير مثال على "فكاهته"
شخصية Plume.
في ما يأتي بعض النصوص العربية التي كان لها ولأمثالها -
وهي قليلة - ان تركزنا أخيرا بين رفوف تلك "المكتبة". إضافة الى بعض
النصوص الأجنبية التي قمتُ بترجمتها كنماذج عن ملامح "الفكاهة السوداء"
المقلقة.