مؤخرا قدم البابا تنازلا جديدا
لليهود كي يرضوا عنه ويكفوا عن ملاحقته نهائيا لأنه انتمى في شبابه الأول
غصبا عنه إلى منظمة الشبيبة الهتلرية. فهل كان ليقدم لهم كل هذه التنازلات
ويتودد لهم كل هذا التودد لو لم يكن ألمانيا مصابا بعقدة النازية؟
أشك
في ذلك كل الشك. فهم مشهورون بالابتزاز وبارعون ولا يضاهيهم أحد. انظر كتاب
"صناعة الهلوكوست" لأحد المثقفين اليهود الشرفاء. لماذا كرر مرة أخرى في
كتابه الجديد الذي صدر مؤخرا بعدة لغات بأن اليهود ليسوا مسؤولين عن دم
المسيح؟ ألا تكفي التبرئة الأولى (أو بالأحرى الفتوى الأولى) التي صدرت عام
1965 عن المجمع الكنسي الليبرالي التحرري المشهور باسم الفاتيكان الثاني؟
ولكن للحقيقة والتاريخ ينبغي الاعتراف بأن همجية "القاعدة" وبقية الحركات
الأصولية ساهمت في دفع البابا إلى التغاضي عن همجية الصهاينة والصهيونية.
ومعلوم أنّ القضية الفلسطينية والعربية دفعت ثمنا باهظا جراء تفجيرات 11
سبتمبر وما تلاها..
لكن لنعد إلى كتاب البابا. لا ريب في أنه من الظلم
اتهام كل الأجيال اليهودية وملاحقتها على مدار التاريخ بتهمة قتل المسيح.
فالأجيال اللاحقة لا ينبغي أن تتحمل مسؤولية جريمة اقترفتها الأجيال
السابقة أو بالأحرى الجيل الذي عاصر المسيح. بل إنّ هذا الجيل ليس مسؤولا
كله وإنما فقط السلطات الكهنوتية والحاخامية اليهودية المتجبرة ذات القرار.
وهذا ما يدعوه البابا بالارستقراطية : أي الطبقة العليا من الشعب اليهودي.
وهم رؤساء الكهنة العبرانيون والكتبة. هؤلاء هم الذين اتخذوا القرار
الخطير بقتل المسيح. لماذا؟ لأنه ثار على تدينهم المتزمت بعد أن كان قد
تحول إلى شريعة إكراهية قسرية مرهقة من كثرة محظوراتها ومحرماتها التي تشل
الحياة اليومية شللا. كما أصبحت مفرغة من كل روح أو نزعة إنسانية كما يحصل
لكل دين بعد أن ينتصر ويتكرس ويجمد ويتحول إلى تكرار واجترار..كانت
اليهودية التي ولد المسيح في أحضانها قد تحولت إلى ديانة متكلسة ومتحجرة،
إلى مجرد طقوس شكلانية ظاهرية سطحية فارغة أو مفرغة من روحانية الدين
السامية ومبادئه الأخلاقية العليا. كانت القشور قد تغلبت على الجوهر حتى
طمسته كليا .
لهذا السبب ثار عليها المسيح وفجرها من الداخل ودفع حياته ثمنا لهذا
العمل البطولي الرائع. وراح يؤسس عقيدة جديدة قائمة على المحبة، وحرية
الضمير البشري، وتحريره من القشور والتراكمات التراثية الخانقة. راح يؤسس
عقيدة قائمة على فلسفة اللاعنف، والمساواة في الكرامة بين جميع الأقوام
البشرية، والفصل بين الدين والسياسة: أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله.
كما أصبح الدين الجديد الثائر على الديانة الرسمية المهيمنة قائما على حبّ
الآخر إلى درجة الغفران له والدعوة إلى محبته ولو كان عدوا. أحبّوا
أعداءكم! يقول الإنجيل.. وكل هذا مضاد للشريعة اليهودية القائمة في قسم
منها على غريزة الانتقام وتشريع القوة والعنف وتفضيل اليهود على غير
اليهود. انظر مقولة شعب الله المختار..وانظر المكانة الكبيرة التي تحتلها
الحروب والمجازر وتمجيد القوة والعنف في العهد القديم (أي التوراة)، وذلك
على عكس العهد الجديد (أي الإنجيل) المليء بالمحبة والضعف والسلم إلى حد
الاستسلام…من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر.. هذا لا يعني أنه لا
توجد مبادئ أخلاقية قيمة في الدين اليهودي، على العكس إنها كثيرة ومحترمة.
ولكن المشكل أن هذه المبادئ كانت قد نسيت أو طمست من كثرة التقليد وتغليب
الحرف على المعنى الجوهري. ولهذا السبب انتفض عليها يسوع الناصري ككل
الثوار البريئين الأنقياء في التاريخ.
فالشعب اليهودي في مجمله ليس مسؤولا عن هذه الجريمة النكراء التي حصلت
قبل ألفي سنة وإنما نخبته العليا المتجبرة. هذا شيء متفق عليه. ولكن لاحظ
كيف سارعت السفارة الإسرائيلية في الفاتيكان لاستغلال كلام البابا حتى قبل
أن يصدر كتابه. لقد اعتبرت ذلك ليس فقط تبرئة للشعب اليهودي وإنما أيضا
دعما لدولة إسرائيل! لقد جيّرت هذا الكلام البابوي النبيل لصالح دولة قمعية
إرهابية تضطهد شعبا بأسره على أرض آبائه وأجداده. بهذا المعنى فقد قتلت
المسيح مرّتين! المرة الأولى عندما قتلوه فعلا قبل ألفي سنة، والمرة
الثانية عندما قتلوا الرمز الذي يمثله حاليا : أي شعب فلسطين بالذات. كل
مضطهد بريء على وجه الأرض هو المسيح بشكل من الأشكال.."نفيسة ديالو" تجسد
أيضا رمز المسيح لأن أخطر لوبي في تاريخ البشرية يحاول الآن في هذه اللحظات
بالذات أن يطمس قضيتها، أن يشوه سمعتها زورا وبهتانا. وسوف يبرّئ مغتصبها
بعد أيام!.. الشعب السوري، أقصد حصرا متظاهريه المسالمين العزل، هو أيضا
المسيح لأنه يطالب بحريته وكرامته ضد آلة القمع العسكرية- البوليسية
والاختناق السياسي وتعطيل الجدلية الاجتماعية-التاريخية الخلاقة للمجتمع
ككل…الشعب الليبي أيضا هو يسوع المسيح: قصدت مناضليه الشرفاء وليس تلك
الجماعة الأصولية المقاتلة التي غدرت باللواء عبد الفتاح يونس وفتكت به
فتكا ذريعا دون أي مبرر مفهوم وأكاد أقول بشكل مجاني. ولكن هذه هي عادة
الأصوليين في الجرأة على القتل والذبح. فهم يتمتعون بحماية إلهية أو هكذا
يتوهمون.. من هنا الخطر على مستقبل الثورة الليبية وكل الثورات العربية.
فلا يكفي التخلص من الطاغية وإنما ينبغي أيضا التخلص من الظلامية الدينية
حتى ولو كانت تحاربه بشراسة. فهي لا تقل خطورة عنه هذا إن لم تزد. يخشى أن
تنهض الديكتاتورية الأصولية على أنقاض الديكتاتورية العسكرية السابقة كما
حذر من ذلك محمد عبد المطلب الهوني مؤخرا. وهذا يعني أن معركة التنوير
العربي لا تزال طويلة وربما لم تبتدئ جديا بعد!
لاحظ أيضا كيف رد ذلك
اليميني المتطرف نتنياهو على الحدث بكل صلف وعنجهية. يقول في رسالة وجهها
إلى البابا مباشرة:"أهنئك لأنك دحضت بكل قوة هذه التهمة الكاذبة عن الشعب
اليهودي"..لاحظ بأي لهجة متعالية يخاطبه. فبدلا من أن يقول له : شكرا لك يا
قداسة البابا على ما فعلت تجاهنا، فإنه يقول له: أهنئك على ما كان ينبغي
أن تفعله في كل الأحوال!
يحصل ذلك كما لو أنه تلميذ صغير يمثل بين يديه أو في حضرته لكي يمتحنه
أو يهنئه على النجاح في الامتحان وحفظ درسه بشكل جيد..أو لكأنه يقول له:
لقد قمت بواجبك ليس إلا. برافو عليك!..تابع.نحن راضون عنك حتى الآن..بل
وحتى المتطرف الشنيع أفيغدور ليبرمان هنأ البابا على كتابه الجليل.وهذا
نذير شؤم في الواقع ولا يبشر بالخير على الإطلاق.
حقا إن الغطرسة اليهودية لا حدود لها خصوصا في هذه الأيام..أقصد غطرسة
اليمين الصهيوني الفاجر وليس الشعب اليهودي الكريم ككل. لا تقوّلوني ما لم
أقله! إني أعرف أنهم يترصدونني، وربما الإجهاز علي بعد أن جرحوني.. ذلك أن
اللوبي اليهودي الفرنسي خبير في تدبير الدسائس الخسيسة ونصب الكمائن
والفخاخ كما قال ريمون بار الذي من المرجح انه ذهب ضحية تلك الدسائس
بالذات. حتى ريمون بار تجرؤوا عليه فما بالك بالآخرين! ثم يشتكون بعد كل
ذلك ويتباكون مرددين ومولولين على مدار الساعة: المحرقة! المحرقة! وهم في
أثناء ذلك يحرقون البشر والشجر والحجر.. شيء لا يكاد يصدق: إنهم يضربون في
قلب باريس ويتحكمون برأس فرنسا. أين أنت يا ديغول؟
راحت فرنسا!
لقد قتل السيد المسيح قبل ألفي سنة من قبل طغاة اليهود الذين يشبهون
تماما قادة إسرائيل الحاليين من نتنياهو إلى أيهود باراك إلى ليبرمان …إنهم
نسخة طبق الأصل عنهم. بهذا المعنى فإن المسيح ما زال يقتل في فلسطين حتى
اليوم، بل وكل يوم
لماذا أقول ذلك؟ لأن المسيح كان يجسد في شخصه قيم
الحق والعدل والنزعة الإنسانية العميقة والتسامح اللامحدود والحرية. وكانت
الأصولية اليهودية التي قتلته تمثل قيم الشر والعقيدة المتحجرة والبغي
والطغيان. والآن ماذا يحصل في فلسطين؟هل يحصل شيء آخر؟ كنا نتمنى من قادة
الغرب، وعلى رأسهم قداسة البابا بالذات، أن يعيدوا زعماء إسرائيل إلى جادة
الصواب بدلا من إعطائهم دفعة جديدة من المعنويات للاستمرار في سياسة
الاستيطان والاحتلال وتعطيل عملية السلام. كنا نتمنى لو أنهم استمعوا إلى
نصيحة المفكر الفرنسي الكبير آلان تورين. وقد أدلى بها مؤخرا على هامش
تعليقه على الانتفاضات العربية المباركة الجارية حاليا. قال لهم بما معناه:
متى سيفهم قادة الغرب والعالم اليهودي كله أن إقامة دولة فلسطين إلى جانب
دولة إسرائيل هو الشرط الوحيد لكي تحظى إسرائيل بالمشروعية في المنطقة ولكي
تنعم بالأمان والاطمئنان؟ فالضحية هي التي تخلع المشروعية على الجلاد وليس
العكس. الضحية تمتلك قوة لا تمتلكها أي قوة أخرى في العالم: هي كونها ضحية
تمتلك الحق المطلق، تستصرخ الضمير العالمي وتؤنبه. بالطبع آلان تورين لم
يقل كل ذلك بحذافيره ولكن هذا هو مضمون كلامه إذا ما عرفنا كيف نقرأ فيما
وراء السطور..
البابا يطرح في كتابه هذا السؤال: من هم الذين اتهموا المسيح وأدانوه
بالقتل؟ وعليه يجيب: إنجيل القديس يوحنا يقول بأنهم يهود. ولكن القديس لا
يستخدم هذا التعبير كما قد يتوهم القارئ الحديث للدلالة على شعب إسرائيل
بشكل عام، وبالطبع لا يستخدمه بالمعنى العنصري. فهو نفسه كان يهوديا تماما
كيسوع وأتباعه الأوائل. نخبة الهيكل هي التي اتهمته وحكمت عليه بالموت لأنه
انتهك الشريعة اليهودية. وبالتالي فهذه النخبة هي المسؤولة عن موت المسيح
وليس مجمل يهود تلك الفترة.
ونضيف وليس بونطيوس بيلاطوس هو المسؤول أبدا
على الرغم من انه كان الحاكم الروماني لفلسطين آنذاك. فعندما سأل الجمهور
المحتشد الهائج: ماذا تريدون أن أفعل به؟ صرخوا قائلين: اصلبه، اصلبه! فرد
عليهم: ولكنه بريء ولا علاقة لي بدمه.
فأجابوه: لينعكس دمه علينا وعلى أحفادنا. نحن مسؤولون عنه، نحن نتحمل مسؤولية دمه إلى أبد الآبدين.
البابا يقول معلقا: مستحيل أن يكون الشعب اليهودي كله مجتمعا
آنذاك. ربما. بل هذا مؤكد. ولكن يبقى صحيحا القول بأن طغاة اليهود
وأصولييهم المتعصبين هم الذين قتلوا المسيح وليس الرومان أو أي شعب آخر.
هذا شيء لا يستطيع أن ينكره البابا ولا أي مخلوق على وجه الأرض..