عندما تفقّد علماء
الأنثروبولوجيا جزيرة دوبو في بابوا غينيا الجديدة في عام 1930، وجدوا
مجتمعاً مختلفا جذرياً عن ذلك الذي في الغرب، وتبيّنَ أنّ قبيلة الدوبو
يركز أفرادها في حياتهم على السحر الأسود، ويلقون التعويذات على جيرانهم
لأجل إضعافهم، وربّما قتلهم، ومن ثمّ سرق محاصيلهم. إنّ هذا التشبث بالسحر
الأسود قد نتج عنه الفقر المدقع والقسوة، فضلاً عن انعدام الثقة الذي تفاقم
بسبب اعتقادهم أنّ التعويذات كانت فعّالة أكثر عندما تستخدم ضد أناس
يُعرفون أكثر بصلاتهم الوثيقة.
إنّ قبيلة الدوبو مثالٌ صارم عن مجتمعٍ قيمه الأخلاقية خاطئة من وجهة
نظر سام هاريس الفيلسوف وعالم الأعصاب، الذي تصدّر بكتابيه قائمة أفضل
المبيعات : "نهاية الإيمان" و"رسالة إلى أمة مسيحية".
وقد صدر مؤخراً كتابه الجديد "المشهد الطبيعي الأخلاقي: كيف يمكن العلم
تحديد القيم الإنسانية"، يعلن فيه هاريس لماذا يعتقد أنّ القيم ليست ذاتية
ومنوطة بالثقافة، كما يُعتقد على نطاق واسع، فبدلاً من ذلك، يقول هاريس،
أنّ القيم هي نوعٌ معين من الحقيقة - حقائق تتعلق بسعادة المخلوقات الواعية
- وبالتالي من الممكن، على الأقل من حيث المبدأ، تقييم تلك الحقائق بصورة
موضوعية. إنّ الكتاب من عنوانه مفادُه أنّ نُظماً أخلاقية معينة سوف تنتج
"قمم" السعادة الإنسانية، في حين أنّ النُظم الأخرى، كنظام قبيلة الدوبو،
سوف يفضي إلى مجتمعات موسومة بمستنقع من المعاناة. ويؤكد هاريس أنّه من
الممكن تحديد هذا بصورة موضوعية أنّ تلك النُظم الأخلاقية أفضل من نظام
قبيلة الدوبو.
هاريس ليس أول شخص يؤيد بناء قاعدة موضوعية للأخلاق. فالعالم البيولوجي
الأمريكي إدوارد ويلسون، على سبيل المثال، قد وضّح من قبل كيف يرى أنّ
المبادئ الأخلاقية يمكن برهنتها على أنّها ناتجة بموضوعية عن التطور
الثقافي والبيولوجي للإنسان. لكن في خضم جدلية وجود قاعدة موضوعية للأخلاق،
فإنّ هاريس يضع نفسه على خلاف مع مبدأ وضعه الفيلسوف ديفيد هيوم في القرن
الثامن عشر، ويعتبر العديد من الفلاسفة والعلماء في الوقت الحاضر أنّه مبدأ
لا يمكن انتهاكه : ذلك أنّ الأحكام عن كيف ينبغي أن تكون الأشياء لا يمكن
استخلاص منها أحكام عمّا هو حقيقي. بمعنىٍ آخر، من المستحيل استخلاص القيم
من الحقائق.
يصرف هاريس النظر عن هذا الاستنتاج، وكذلك الاعتراض القائل أنّه لا يوجد
أساس لتفضيل نظامه الأخلاقي على أيّة نُظُم أخرى¬. فهو يعتبر نظامه
الأخلاقي بديهيّا في جوهره، أنّه يتعلق بالسعادة، بحجّة أن بعض الممارسات،
كإجبار المرأة على ارتداء البرقع من رأسها إلى أخمص قدميها، مرتبطة للحدّ
من السعادة، فمن وجهة نظره، ليس من الصواب اعتبار كل الممارسات الثقافية
صالحة بصورة متساوية، ويؤكد أنّ التعددية الثقافية والنسبية الأخلاقية
خاطئتان.
إنّ من شأن هذا اليقين العقائدي في تفوّق بعض القيم الأخلاقية على
الأخرى، سوف يبدو كأنّه يضع الملحد الصريح في تحالف غريب مع المؤمنين
الدينيين، خاصة مع البابا الحالي، الناقد المتطرف للتفكير النسبي، لكن
بالتأكيد سام هاريس ليس حليفاً للدين وهو الذي يؤكد أنّ المذاهب
الميتافيزيقية الدينية ليست وحدها زائفة بل دوغمائية المذهب بحد ذاته،
وتعيق التوصل إلى فهمٍ أفضل لما يمنح البشرية من الازدهار. إذاً، كيف يحددّ
هاريس أيّاً من المبادئ الأخلاقية صحيحة بصورة موضوعية ؟ بينما يُميّز بعض
المعتقدات الأخلاقية باعتبارها إرشادات جديرة بالثقة لإنتاج مثل هذه
السعادة المطلقة لجميع الأغراض العملية. ويعتقد أنّ الكذب ليس أحد هذه
المبادئ، لكن يجب إسقاط قول الحقيقة في بعض الحالات عندما يتعارض مع
السعادة، ويقول، على سبيل المثال، سيكون من الخطأ لو أنّ شخصاً قام بإنذار
القوات النازية الخاصة Schutzstaffel إلى وجود اليهود عند جاره في الطابق
السفلي عندما يُستفسر عن الأمر.
يتضح في نهاية الأمر أنّ هاريس شخص غائي consequentialist حسب قول
الفلاسفة، فيعتقد أنّ القيمة الأخلاقية للفعل تترتب على نتائجه القابلة
للقياس. ويقول أن العلم وخاصة العلوم العصبية سوف يلعب دوراً أساسيا على
نحو متزايد في تقييم صحة الطرائق البديلة للفعل، وسوف تكشف مقاييس الدماغ
عن سعادة الإنسان بالدقة في حالةٍ مطروحة، وبناء عليه سيكون دليلاً جديراً
بالثقة أكثر من تقارير ذلك الشخص عن نفسه كيف يشعر، فمن الممكن أن نعتقد
أننا نشعر بالشفقة، عندما لا نكون كذلك، أو نعتقد أنّنا نحب أطفالنا
بالمساواة عندما لا نحبهم في الحقيقة. ويعبر عن ذلك بنفسه، "إن عالم القياس
وعالم المدلول لابّد أن يتوافقا في نهاية الأمر."
إذاً، ماذا يمكن أن نفهم من ذلك؟ فما من شك أنّ العلم يمكنه أن يكون
مهماً في مساعدتنا لاتخاذ أحكام أخلاقية، كما أنّ بإمكان المقاييس الدقيقة
أن تحيطنا بمعلومات عن حجم الألم الذي تشعر مختلف الحيوانات في الحقيقة،
وبالتالي تساهم تلك المقاييس في أحكامنا عن الاختبارات أو التجارب التي
تًجرى على الحيوانات. كما أن معرفة كيفية تتطور الإنسان ونموه داخل الرحم
تزودنا بمعلومات مهمة للغاية في تشكيل آرائنا حول الإجهاض وأبحاث الخلايا
الجذعية، لكن رغم أن البيانات العلمية تساهم في قراراتنا في مثل تلك
المسائل الأخلاقية، إلا أنّها لا تستطيع تحديدها. رغم أنّ هيوم أدرك ذلك
إلّا أن هاريس ينكر. فأن تخبرنا بما يحدث في بعض الحالات تختلف اختلافاً
جوهريا عمّا تخبرنا بما ينبغي أن نفعله في الاستجابة على ذلك.
لا يمكن إنكار أنّ سعادة الإنسان أو (الحيوان) هي مسألة أساسية من
المسائل الأخلاقية. لكن كيف لنا أن نقرر ما الذي يعتبر من السعادة؟ يترك
هاريس هذا المفهوم مفتوحاً بتعمّد، قائلاً في ذلك أنّه يمكن أن يشمل كل شيء
من الإحساس المرء بالشفقة إلى إشباع الفكر، إضافة إلى أدق أفكار المتعة
الأساسية لبعض أشكال مذهب المنفعة. لكن هل سبق إن وضع تعريفاً مستفيضاً
للسعادة حتى ولو نظرياً، إضافة إلى معرفة ما الوزن النسبي لتوزيع كل من
مكوناتها ومن ثمّ القدرة على ربط هذه المكونات بحالات الدماغ الفعلية؟
هاريس لا يجيب عن هذه الأسئلة بشكلٍ مقنع.
علاوة على ذلك، فإنّ لدى هاريس نزعة لاختيار أمثلة داعمة متطرفة في
تعزيز وجهة نظره في أن نتمكن من تحديد القيم الأخلاقية بصورة موضوعية. فقلة
من الناس سيختلفون في الرأي أنّ الحياة القصيرة الأجل لامرأة لم تعرف سوى
الجوع والخوف والعزلة وسط حرب أهلية ضروسة، تلك أفضل من حياة امرأة تعيش
حياة زوجية سعيدة وطويلة الأجل، ووثيرة مالياً ومرضية فكرياً وعاطفياً. إنّ
الأمر غامضٌ أكثر بكثير من أن نقارن بين امرأتين لديهما مستويات مماثلة من
الرفاهية المادية لكنهما يعيشان في مجتمعين منظمين بطريقة مختلفة، مثل
السوق الحرة الأمريكية والرفاهة السويدية المتألقة. صحيح أنّ هاريس يقول أن
مشهده الطبيعي الأخلاقي يمكن أن يكون له قمم متعددة، لذلك ربّما كان يقول
ليس هناك من سبب لماذا هاتين الحياتين لا يمكن أن تتواجدا على قمتين
موازيتين. لكن بالاعتراف أن هناك الكثير من القمم فذلك يأخذ القوة من
حجّته. يمكن أن يخبرنا هيكلية نظامه الجواب الصحيح في بعض الحالات ولكن ليس
في الأخرى.
وعلى أيّة حال، يبدو الأمر في غاية البساطة القول أن الأخلاق يمكن
اختزاله في أنّه يعزو أهمية قصوى إلى السعادة. هذا صحيح بشكل خاص عندما
يتعلق الأمر بمفاهيم أكثر تجريداً مثل الحقيقة والعدالة. في حين أن
الكثيرين سيوافقون أن الكذب هو الشيء الصحيح فعله في حالاتٍ قصوى معينة،
مثل حالة اليهود المختفين. فمن المرجح أن يعتبر على نطاق واسع كشيء خطأ
فعله في حالاتٍ أخرى، حيث أنّه ومع ذلك سيزيد من سعادة الإنسانية. قد يقدم
دليلاً على أن تسجن القاتلة، الأمر الذي يقلل، في بعض الحالات، من المجموع
الكلي للسعادة الإنسانية ـــــ فربّما كانت الضحية جلّاد الزوجة، وأطفال
القاتلة سوف يتركون يتامى في حال سجنت ــــــ لكن قد لا يزال ينظر له ما
يبرره كإجراء مناسب أخلاقياً، لذا فإنّ المنفعة الغائية consequentialist
utilitarianism لهاريس تبذل ما في وسعها لخلق اتجاه أخلاقي لحالة من هذا
القبيل.
المشهد الطبيعي الأخلاقي هو كتاب يثير التفكير، وبالتأكيد يستحق
القراءة، لكنه غير مقنع في نهاية المطاف. إن ضعف هاريس يكمن في ولعه المفرط
بالأناقة النظرية. ويبدو صحيحاً بوضوح أن بعض النظم الأخلاقية أفضل من
غيرها، ومن المنعش حيث أنّه ينتقد التفكير المتصدع للنسبيين الأخلاقيين.
لكن لا يجب أن يؤسس الأخلاق بصورة موضوعية حتى يكون له قوة وتأثير. في
الواقع، إن ربط الأخلاق بالعلم له سجلُ مختلط للغاية. في حين تم الاحتكام
إلى نظرية التطور الداروينية في دعم قضايا تعتبر الآن صائبة أخلاقياً على
نطاق واسع. مثل إلغاء تجارة العبيد. كما كانت تستخدم أيضاً لتبرئة تلك
القضايا التي تعتبر الآن مشمئزة كعلم تحسين النسل eugenics.
النقطة المهمة هي أنّ القيم ليست استنتاجات منطقية مبنية على مقاييس
العمليات تجري داخل عقول الشعوب ولكنها تصل، بدلاً من ذلك، عبر عملية تفاعل
معقدة ومتطورة باستمرار من التجربة والتفكير والنقاش. فالقيم كما هي،
ينبغي أن يقررها المجتمع ككل، وليس كما يريد هاريس من قبل مجموعات من
الخبراء. على أيّة حال هنالك كائن خارق للطبيعة، لذا تقصر رؤية هاريس
للأخلاق عن بلوغ الهدف لأنّها مادية ضيقة. فالأخلاق رغم أنّها فرعٌ من
العلة لكنها ليست علما.