الشمس
كانت أعلنت غيابها منذ ساعات. لكنه حين وصل إلى حيث كنّا نجلس في حي
دمشقي، كان يضع نظارة شمسيّة على عينيه، لم يرفعها إلاّ حين وصلنا إلى
المنزل. عينه اليسرى وحدها كانت كافية لتحكي قصة رام العربي (اسم مستعار)،
الشاب العشريني الذي اعتقل في الأسابيع الأولى لانتفاضة الشعب السوري.كانت التظاهرة في دوما. دخلت مع بعض الأصدقاء إلى الجامع. في الداخل،
لاحظنا وجودا كثيفا لوجوه غريبة عن المنطقة. انتهاء الصلاة كان إعلانا
للانطلاق. عدد "الشبيحة" الذين اندسوا بيننا لم يعد مهماً أمام المشهد
المرعب الذي كان يتحضر: أكثر من ألفي جندي انقسموا في رتلين أحاطا الباحة
الخارجية. هؤلاء كانوا مجهزين بالكثير من الأسلحة.
أمام ذلك المنظر كان لا بد من اتخاذ قرار ما: إمّا أن نحقق ما جئنا لأجله
ونخرج هاتفين للحرية، أو أن "ننفذ بريشنا" ونهرب. تماسكت أيدينا وبدأنا
بالهتاف: "الله.. سوريا.. حريّة.. وبس"، ثم هتاف "الشعب السوري ما بينذل".
بدأ الهجوم من الخلف، من قبل "الشبيحة" المتسللين بيننا.
حصارهم لنا من الجهتين منع أي منفذ للهرب. بدؤوا بضربنا بكل ما يحملونه من
أسلحة: "جنازير، عصي خشب وكهرباء..". تلقيت ضربة مفاجئة على رأسي. وقعت
أرضا، فانهالوا عليّ بالضرب مجددا. خمس عصي أصابتني في عيني اليسرى مباشرة،
وواحدة كسرت أسناني. "شحطوني" إلى الشارع، وكلما حاولت القيام كان يرفسني
أحدهم على صدري. من لم يستطع ضربي، كانت يده تمتد لتقرصني في أيّ مكان تصل
إليه.
سلمّوني للأمن ومجموعة حفظ النظام التي أوصلتني إلى الحافلة. مشهد الحافلة
من الداخل كان مفاجئاً. كأن عبوة حمراء انفجرت فيها. النوافذ والمقاعد
والأرضية كلها مغطاة بالدماء. حتى المعتقلين غيّر الدم خارطة وجوههم، فبات
من المستحيل التعرّف عليهم.
أغلقت الستائر، وانطلقت الحافلة بنا نحو فرع الأمن، فرع الخطيب. للسجن
مضيفو استقبال، يصطفون على الجهتين، ليكملوا مسلسل العنف. عندما نزلت من
الحافلة، قام أحدهم برفسي على صدري. شلّتني ضربته، فوقعت. "تحوكم" ثلاثة
فوقي، ولم أعد أسمع إلاّ "قوم ولاه"، ولكني كنت عاجزا عن الوقوف، مما
اضطرهم إلى حملي. لم تمض دقائق حتى بدؤوا بالعد: "واحد.. اثنان.. ثلاثة"،
ورموني بكل ما أوتيت أيديهم من قوة على الدرج. واستكملوا الرحلة برفسي، إلى
أن وصلت إلى داخل الغرفة.
غرفة الاعتقال كبيرة. رائحتها تشير إلى أنها طليت حديثاً. الجدران التي
كانت بيضاء حين وصلنا تلونت بدمائنا بعد أقل من أربع ساعات. بدؤوا بتدوين
المعلومات: "الاسم الثلاثي مع مسقط الرأس". أسئلتهم يرافقها الضرب
بالأصفاد. ضراوتهم بالتعامل معي ازدادت بعدما عرفوا أني من مصياف. كانوا
يضربونني بقوة. كأنهم يقولون "شو جابك يا حمار". يقرؤوننا كأبناء طائفة،
وليس كمواطنين.
ساعة ونصف الساعة على هذه الحال. بعدها أتى فريق "الإسعاف" الممثل بدكاترة
وممرضين من ضباط الأمن. عالجونا من دون مراعاة أية ظروف صحية. الجرح يخاط
بإبر عادية، من دون تعقيم. لا أدوية للالتهابات، ولا حتى مسكنات. كان بقربي
شاب غطّت الجروح جسده. أصيب بانهيار عصبي. صار يرجف ويتقيأ دما. تركوه
جانبا من دون أن يحركوا ساكنا. إلى الجانب الآخر ارتمى شاب أصيب برصاصة،
فترك ثلاث ساعات لنزيفه، قبل أن ينقلوه لاحقا إلى المستشفى..
عيني كانت تنزف بشدة. رفاق المعتقل ظنوا أني سأموت بسبب الأصوات التي كانت
تصدر كلما تنفست. لذا حين أتى السجانون ليختاروا من سينقلون إلى المستشفى،
أشار جميع المعتقلين نحوي.
حين وصلنا إلى المستشفى، قاموا بإنزالنا واحداً تلو الآخر. حين أتى دوري،
جلبوا لي الكرسي المتحرك. خمسة عناصر من الأمن المسلحين كانوا برفقتي. واحد
منهم كانت مهمته إبعاد الناس. اثنان قاما بجرّ الكرسي، وآخران كانا يمشيان
في المقدمة ويرددان بصوت جهوري: "هاد مندس، هاد سلفي، هاد قناص.. قتل خمسة
عناصر من الأمن".
بدأت بعض الحاضرين بالبصق على وجهي والصراخ: "الله يلعنكن كفار". لم يكن باستطاعتي حتى رفع يدي لتكذيبهم.
انتهت مسرحيتهم بعد أن درنا في المستشفى كله.
كانت تفصل بين أسرّة المستشفى الكثيرة سواتر من قماش. سرير المستشفى لا
يردعهم عن "معاقبتنا"، وكلّ محاولة منهم للمساعدة على النهوض كانت عقوبة
بحد ذاتها: خلع الكتف أو الضرب. جاء ممرض لملأ "إضبارتي" كما يفعل عادة.
لكن ضابط الأمن نهره ومزّق الورقة التي في يده. "سجّل: مجهول 3". لا أدري
من أين أتتني القوة لأرد عليه. رفعت هويتي في وجهه: "شوف.. أنا ماني
مجهول.. أنا عربي سوري ومواطن متلي متلك. ما بسمح لا لإلك ولا لغيرك يقولوا
مجهول". جوابه كان صفعة قوية: "هاد الحكي بتقولوا برا مش هون".
بعدها، نقلوني إلى غرفة التصوير. ثم جاء دور طبيب العيون الذي زفّ لي الخبر: "عينك مضروبة، ما عاد راح تشوف فيها".