4- ما صلة الإخوان بالحداثة والبناء للمستقبل؟
حتى بعض مَن أدرك أنّ الإخوان غير صالحين للحكم، اندهش للأحداث في مصر وتساءل لماذا وصل الأمر بما يقارب 22 مليون مصري أن يوقّعوا شخصيّا على وثيقة سحب السّلطة من الرئيس المصري، وحوالي 33 أو 35 مليون مصري حسب تقديرات جوجل وقنوات فضائيّة عالميّة مثل سي إن إن إلى الخروج الفعلي إلى الشّوارع في سابقة تاريخيّة عجيبة؟ هل هو الحسم النّهائي والباتّ في الإخوان؟ في حوار لي صادر في العرب اللّندنية قبل الأحداث بفترة طويلة نسبيا بتاريخ الاثنين 21 جانفي/ يناير 2013 (ونُشر كذلك في ميدل ايست أون لاين، والألوان نيوز وغيرها) بعنوان “علمانية الشعوب العربية تهدد المشروع الإسلامي” قلت ما يلي: “إنّ فشل الإسلاميّين في العالم العربي بإقناع الناس بمشروعهم المتطرّف وتعاملهم مع الدّولة كغنيمة حرب وعدم كفاءتهم في إدارة الشّأن الاقتصادي تدفع غالبية من انتخبهم بالأمس إلى المطالبة اليوم بإسقاطهم” (3).
وبالإضافة إلى فقدان ثقة الشّعب المصري وسقوطهم المدوّي في مصر، أتوقّع حاليّا أنهم سيفقدون سريعا وفي كلّ مكان من العالم العربي ثقة النّسبة التي انبهرت بهم، بل حتى التي تعاطفت معهم ووثقت فيهم. وبالنّسبة إلى تونس، سيبقى مشروعهم معلّقا بينهم وبين مدنيّة وعلمانيّة شعبيّة واسعة باتت ترفضهم قطعيّا، إلى أن يتمّ إسقاطهم، أو يأخذوا العبرة من الحدث المصري بعد أن يستبدّ بهم اليأس. وقد أكّد الحدث “الأسطوري” يوم 30 جوان/ يونيو 2013 أنّ الشّعوب العربيّة باتت تلفظهم لفظ النّواة- حاليّا على الأقلّ- بسبب اكتشافها زيغهم وشعورها بالمرارة إزاء الاستغفال الذي وقع عليهم والوعود الخلّب التي كانوا ضحيّتها؛ ممّا أشعر الشعوب بالإهانة العميقة، في حين انطلقت المسارات الثّورية العربية بدافع الكرامة والحريّة بالأساس. ويبدو أنّ التاريخ سيطويهم؛ فقد ظنّهم البعض يمثلون ماضي السلف الصالح وعقد عليهم الأماني “لإعادة” ما يسمّى في المخيال العامّ “العصر الذّهبي” ، لكنّهم يظهرون اليوم لدى النّاس ككائنات من الماضي الرّاكد، الموسوم بالاحتقار والصّلف والعنجهيّة، المتميّز بالرّداءة والنّفاق والبؤس، ويبدو أنّ معظم الثّائرين حكموا بأنّه لم يعد لهم مبرّر للوجود سياسيا وحتى فكريا، إلا أن الإكراهات الكثيرة داخليا وخارجيا قد تدعو – لاسيما في تونس- إلى نوع من التوافق معهم، واستمرار الإمساك بشعرة معاوية حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود.
لقد تأنّقت الحركة الإخوانيّة التونسية وتزيّنت بمظاهر الحداثة القشريّة وبإدّعاء الدّيمقراطية والتّسويق لبعض المفاهيم المدنية. ولا ننس أنّ فيهم من يتقن الخطاب السّفسطائي المؤثّر، وفيهم من يملك قدرات مكينة في اللعب على الوتر الإيماني الخُلّب. وربما سيظلّون يؤثّرون في البعض إلى أن تذبل أوراقهم شيئا فشيئا ويذهب ما تبقى من ريحها؛ فردّ النهضة السلبي على مبادرة الرباعي المؤثر في الحياة المدنية والاجتماعية والاقتصادية: الاتحاد العام التّونسي للشغل، والاتحاد العام التونسي للصناعة والتجارة، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، ونقابة المحامين، مع محاولة إلصاق التّوتر الحاصل في صلب المجتمع بالاتّحاد العامّ التّونسي للشغل؛ مما يؤكّد أن النهضة مستعدّة لمعاندة الكلّ ومخاصمتهم بل استعداء الجميع دون أن يرف لها جفن. ولهذا أرجّح أنّه حتى القلّة القلية الذين كانوا إلى وقت قريب أنّ ما فعله النهضاويون من أخطاء يمكن تداركها بفعل نقص التّجربة وقصر مدة حكمهم، أو الذين يعقدون الأمل على من يسمون حمائم نهضاويين، بدؤوا ييأسون في إمكان تصالح الإخوان مع المجتمع.وعلى المدى المتوسط والبعيد، أعتقد أنّهم سينكفئون - شاؤوا أم أبوا – إلى جماعة دعوية وسيجدون أنفسهم مقتصرين عليها، وسيتأكّد لمعظمهم أنّ الفكرة السّياسية المركزية التي تربط ربطا ميكانيكيا وقسريا بين الدّين والدّولة وتسبغ على الحكم صفة السّلطان الإلهي والشّرعية الدّينية - لا معنى السّلطة الدّنيوية – لم يعد يؤمن بها إلاّ من هو خارج التّاريخ. فهل “سيكذب” إخوان تونس النهضاويين جميع هذه المقدمات وكل هذه المعطيات ويجنحون للتفاعل الديمقراطي والمجتمعي والمدني المنشود؟!
وفي هذا الصدد، لسائل أن يتساءل : حتى إن كان وقع ما هو واقع في مصر، أوليست تجربة الترويكا التّونسية مختلفة عن تجربة الإخوان إلى درجة ما من التمايز؟ إنّ هذا التّساؤل يقوم أساسا على فكرة مفادها أنّ الجيش التونسي لا دخل له في الحكم. ولكن أصحابه ينسون أنّ هذا الجيش وجد نفسه في أحداث الثّورة التّونسية مضطرا إلى رفض إطلاق النار على الثّوار، ثم مجبرا على حمايتهم بعد ذلك باعتبار أنّ حمايتهم هي من صميم الأمن القومي. إنّ صداما عاما بين الشعب والحاكمين الحاليين – إذا حصل- سيجعل الجيش التّونسي مرّة أخرى بين خيارين: مساندة الشعب أو مساندة الحاكمين. لننتظر ونر ما ستتمخض عنه خارطة الطريق ومناكفات النهضة للاتحاد العام التونسي للشغل والمنظمات الراعية، وماذا سيكون موقف الشعب والجيش الوطني تجاه سلطة الترويكا إن رفضت التوافق. أما الفكرة الثانية فهي أنّ السّلطة في تونس ليست إخوانية محضة بل قائمة على ائتلاف الترويكا بمكوناتها التي يراد التّسويق لها على أنها “متعددة” إيديولوجيا. وهذا الطرح أثبتت الأحداث والوقائع والمواقف أنه مغالط، وسيأتي الحديث عنه في المحور الخامس لاحقا.
وعلى الضّفة المقابلة، وفي الرّد على من يرى اختلاف البيئة المصرية عن البيئة التّونسية، فإنّ من يرفض هذه المقولة يرد قائلا بأن التمايز بينهما شكليّ وأنه لا شيء يمنع ما حصل في مصر أن يحدث أيضا في تونس، باعتبار أن كل مظاهر الفشل ومعوقات الانتقال الديمقراطي موجودة بل إنّ بعضها أخطر؛ باعتبار أنّ الترويكا قد استهلكت الشّرعية القانونية، وهي تستولي عمليا على مفاصل الدّولة بطريقة منهجيّة، وأنّ المعارضة ليس لها حول ولا قوّة لإيقافها في حين نجدها تُوهم التّونسيين والعالم بأنّها بصدد الإعداد للانتقال الدّيمقراطي، وأنّ “عوائق موضوعية” حالت دونها ودون الالتزام بالموعد الرّسمي المعلن سابقا (23 أكتوبر2012) .
ليس هذا فحسب، إنّ الشعب التّونسي الذي –كما أسلفت – يتوفر على قدر عال من التّمدن والحداثة ومسايرة العصر، قد تفطّن بل وعى أنّ النهضة، بفكرها الحالي، جسم غريب عن التّونسيين؛ فلا سينما عندها ولا شعر ولا أدب ولامسرح ولا مفكرين ولا فنانين... لقد فتح الشّعب عينيه شيئا فشيئا على أكذوبة “حزب ربي” وملّ اسطوانة الضّحية الهولوكستية للنّظام السابق وأدرك التّحالف الخفي مع الأطراف الأخرى من الإسلامويين التكفيريين والجهاديين والإرهابيين، ونراها يميل إلى تصديق أطروحة تورط النهضة في مقتل الزعمين شكري بلعيد ومحمد البراهمي لاسيما إثر ظهور أدلة موثقة من صلب وزارة الداخلية. كما وقف على حقيقة استقطابها لقواعد التجمعيين المتعوّدين على الولاء لكلّ قائم والذين كانوا تائهين وقتها لا يعلمون ماذا يصنعون بعد انهيار حزبهم. كما أدرك التّحالف السّري بين النّهضاويين وأقطاب من حزب التجمع المنحلّ؛ الذين منهم من كان قريبا من الإسلامويين من قبل وفضّل الاندماج في نظام بن علي خوفا وتقيّة، ومنهم من عُرف بالتَّلون والانتهازية، بل رأيناهم يخرجون رموز التّجمّع من السّجون؛ لغاية في نفس يعقوب ستكشف عنها الأيّام. هؤلاء “التائبون إلى النهضة” رآهم الشعب التّونسي يسطون على حق الثائر في السلطة والمعطل عن العمل في الوظيفة والجائع في لقمة العيش حيث ظهروا لاحقا لا في الوظائف السامية بدعوى حنكتهم في تسيير الدولة فحسب بل وصلت المحسوبية إلى حدّ توظيف من لا صفة له ولا شهادة ولا مؤهل مناسب وأعطوهم فرص الاستثمار والمشاريع وسُخّرت لهم كلّ الإمكانيّات، ومُلِئت بهم أيضا بقية أجهزة الدّولة والإدارة من أعلاها إلى أدناها، جنبا إلى جنب مع النّهضاويين القادمين من الخارج خاصة ومن الداخل طبعا، وهذه – في حدّ ذاتها قضايا عميقة في صلب حزب النّهضة ليس هذا مجال طرحها. وخلاصة الظاهرة القميئة شعار ترفعه الجماهير في كلّ مكان “الشّعب فدّ فدّ من الطرابلسية الجدد”.
5- استراتيجيات المواجهة المدنية:
لقد أثبت هذا الحراك القوي الواسع الفريد -الذي هو بصدد التّشكل في المنطقة العربية خاصة بعد نجاحه النسبي في مصر- حقيقة مفادها أنه للدخول في العصر والحداثة (سواء تقلص دور الإخوان ومشتقاتهم إلى جماعة دعوية أو دخلوا بأحزاب جديدة أو مجددة إلى فئة الأحزاب المدنية) لابد من العمل الدؤوب في صفوف الناس حيثما كانوا. وأكّد أن الشعوب العربيّة عامّة، والتي عاشت وتعيش تجربة الإخوان وفروعهم خاصّة، بحاجة ماسّة إلى شجاعة فكرية، ومنهجية دقيقة، وبيداغوجية عملية، ومقاربات مرنة؛ وذلك لتفكيك مفاهيم عديدة يكفي أن أذكر منها في هذا المقال مفهوم الشرعية الانتخابية الذي يتم التغني به والذي يجري تكييفه وفق الهيمنة الإسلاموية؛ أي إنه مفهوم قد تم إخضاعه للمحددات الفكرية والعقائدية الإسلاموية بواسطة آلية التّفويض المطلق بعد الانتخابات؛ فغدت شرعية غير مشروطة من جهة الحاكم واستسلامية أو انقيادية من جهة المحكوم. وهو ما يؤكّد أنّنا مازالنا في دائرة الطاعة “لأولي الأمر” وتحت ولايتهم ووصايتهم. ويجب ألاّ ننكر أنّ شيئا من هذا التّفكير – وإلى حدّ ما هذا الاعتقاد- غير مقصور على الإسلامويّين بل هو مترسّب في مخيال عامّة النّاس، وظاهر في سلوكهم رغم كلّ ما ذكرناه هنا أو في مقالات أخرى عن الصّبغة العلمانية العامّة للشّعوب العربيّة لاسيما في شمال أفريقيا.
هذا، والأدهى أنّ بعض من يدّعي المدنيّة يساند النّهضاويين بهذا القدر أو ذاك على تأبيد هذا التصور الزائف للشرعية، ومثال ذلك حزب التكتل الذي يشاع أنه علماني ومن يسار الوسط في الترويكا كطرف دالّ على تلك المساندة غير النقدية وغير الفاعلة كما ادعاه أصحابها باسم المصلحة الوطنية، على اعتبار أن حزب المؤتمر لم يعد معبرا عن الوسطية ولو جزئيا بسبب الانشقاقات الكثيرة التي جدت فيه، وانسحابات ما يمكن اعتبارهم مدنيين أو علمانيين منه، وسيطرة الشّق القريب والموالي للنهضة عليه.
إن الانقياد المطلوب من المحكوم هو أقرب إلى سلوك الرعية منه إلى سلوك المواطنين بالمعنى العصري؛ وهو العماد الذي يبنى عليه التفويض للحاكم في بعض تراثنا الإسلامي، وهو قاسم مشترك لدى معظم الملل والنّحل سنيّة كانت أم شيعية أم خارجية - رغم ما تقدّم من حديثنا عن عدم الربط الميكانيكي في المذاهب السنية بين الدين والسلطة - وهو الخيط الرابط والجسر المؤدي من نظام الشورى إلى نظام الاستبداد؛ أي إنه المبدأ الرئيسي والآلية الأساسية التي حولت الحد الأدنى “الديمقراطي” في الشورى إلى استبداد وتوتاليتارية، وهو أيضا من شأنه اليوم أن يكون عاملا فعالا في عرقلة الانتقال من الاستبداد الرئاسوي السّابق إلى الدّيمقراطية بل يخشى منه تقويض حتى المكتسبات المدنية المتحقّقة في الدّولة الحديثة.
وعلى هذا، فإن الشّارع العربي - ببديهته السّياسية الوقّادة ووعيه العملي النّافذ- بات يطرح على معظم حركات المعارضة كثيرا من التّحديات الجوهرية؛ إذ لم يعد يكفي أن يكون الحزب السياسي معارضا مدنيا حتى يتمكّن من وضع حدّ للشّهوة الشبقية الفظيعة للسلطة التي بدا عليها الإخوان، بل يجب أن يكون القادة المدنيّين واضحين في معادتهم للنّزعة السّلطوية ومحيطين بالواقع بطريقة علمية دقيقة وتفصيليّة؛ فلو كان هذا الوصف منطبقا على معظم المعارضين التوانسة - على الأقل بنسبة عالية منهم - لأدركوا الحجم الحقيقي للنهضة ولأخذوا القرارات المناسبة... ولأنهم لم يفعلوا حتى بعد ما تبين لهم من أمرها ما تبين؛ فهم –إذن – مازالوا تقريبا كما كانوا وكأنّ التّجربة العمليّة ونتائجها الكارثيّة لم تعدّل من زاوية نظرهم إلاّ طفيفا. فالمشكلة مشكلة بنية تفكير لا مجرد نوايا حسنة.
إن القوى الدينية – إذن - وجدت في مقابلها حركات سياسية معارضة مترددة ومتذبذبة وتفتقر إلى التنسيق فيما بينها؛ فالقوى المدنية التقدمية والتحررية سلكت مع سلطة الإسلاميين وحلفائهم أسلوبين مختلفين لم يرقيا حتى ليكونا “استراتيجيتين” واضحتي المعالم. أما الأول فهو أسلوب حيوي قاعدي يكشف نوايا الحاكم باسم الدّين ويعرّي أخطاءه، فهو الاستراتيجيا التي اتّبعها الشّهيد شكري بلعيد، وتمّ محاولة إجهاضها باغتياله؛ حيث قدم روحه فداء لوطنه، وهذه الاستراتيجية اعتمدها أيضا بعض المعارضين في مصر بهذه الدّرجة أو تلك. وأما الثّاني فهو أسلوب بدا مبالغا في التّعويل على الحوار فأدّى ويؤدّي إلى إنقاذ تلك القوى الدّينية من كلّ المآزق التي أوقعت نفسها فيه، حتى وإن لم تكن تلك هي نوايا مصمّمي ذلك الأسلوب؛ لأنّ هذه المعارضة باتت كما لو أنّها تغطي على أخطاء الحكم بطريقة أو بأخرى وتمدّ لحركة النّهضة خشبة النّجاة عبر التّفاوض المفضي إلى شبه توافق ظلّ دائما هشّا ولكنّه وإن لم يسبغ عليها الشرعية (La Légalité ) فإنه يعطيها بعض المشروعيّة (La Légitimité ). وقد اعتمد هذا الأسلوب معظم المعارضين في تونس وقلّة منهم في مصر، مع العلم بأنّ الجبهة الشعبيّة التي ينتمي إليها الشّهيد ورغم أهميّة مبادرة الإنقاذ التي قدّمتها، قد وقفت مشدوهة لفترة ليست قصيرة لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء؛ “فخدمت” بذلك الاستراتيجيّة الثانية عكس مبتغاها.
كما يمكن القول إنّ الإخوان في مصر كانوا أقلّ قدرة على المناورة وربمّا أكثر غطرسة في الحكم حيث تفرّدوا به أو كادوا، في حين أنّ النهضة التّونسية بدت أكثر تمرّسا وقدرة على استيعاب فكرة حكومة التشارك عبر الترويكا، وأبدت إتقانا لأساليب السّياسة العمليّة الذّرائعيّة المعتمدة غربيّا مستفيدة من دروبها الخفيّة؛ أي اقتباس نسخة من السياسات الغربيّة الاستعمارية - والأنظمة الرئاسوية فيما قبل المسار الثوري - التي تقوم على حسابات براغماتيّة عالية وممارسة الهيمنة الخفيّة استنادا دائما للعدد والنفوذ الناعم ومدّا لجزرة المصالح وتلويحا بعصا الاكتفاء والاستغناء والتعويض بشركاء جدد في خصوص التّعامل مع الشّركاء الأضعف منها عامّة ؛ ظهر هذا في تعاملها مع شريكيها التّكتل والمؤتمر في كلّ الأزمات وخاصة عند تشكيل حكومة العريّض، وتقوم من جهة أخرى تارة على التّجاهل والتّعالي وطورا على المراوغة والالتفاف على كلّ مقترحات الحوار التي طرحها المعارضون أو الاتّحاد العام التّونسي للشغل وغيره من المنظمات والأحزاب المشاركة والدّاعمة. وحتى إذا أولت قيمة لمبادرات من هم تحت حكمها فإن ذلك لا يتجاوز الثرثرة السياسية وقفاز الحرير الدبلوماسي حيث لا نجد لتلك المبادرات “المثمّنة” ظاهريّا من طرف النّهضة والترويكا أي تطبيق عملي يذكر ؛ وقد ظهر هذا مع بقية الفرقاء في المعارضة وعموم الشّعب التّونسي. والفرق بين سياسة حركة النّهضة والسّياسات الغربية هو أنّ النّهضة تمارس ذلك مع مواطنيها و“تبيعهم” إلى الخارج من أجل شهوة الحكم وغنيمة السّلطة!
6- تحدّيات التقاء المعضلات الداخلية مع الهيمنة الخارجية ضد التحديث:
ممّا تقدّم نخلص إلى ضرورة تحرير السّياسي من كلّ أشكال التّقديس الدّنيوي والأخروي معا، والإلحاح على طابعه الإنساني بما هو فعل بشري نسبي مرجعيّته البشر يتأثّر بمراحل الزّمان والمكان والظّرف؛ حتّى نضمن أن لا تتحّول الثّورة إلى عامل إحباط . حراك الشّعب المصري بعد الانتكاس والتّردد، وحسّه العملي بعد عام واحد من حكم الإخوان، يؤكّد بقوة إمكانيّة تجاوز الشّعب عقليّة التّفويض والبيعة، ورفضه للتعامل معه كرعيّة، ومع الدّولة كغنيمة منتصر وهبة إلهيّة “للصالح”، وهذا ما تبدو أيضا أماراته واضحة في الشّعب التّونسي بل تتردّد أصداؤه في الشّعوب العربيّة؛ ممّا يشير إلى أنّ العرب توّاقين هم أيضا كشعوب الأرض كلّها إلى المشاركة في صنع القرار بل إلى الدّيمقراطية المواطنيّة التّشاركية رغم كلّ الصّعوبات والنّواقص والعراقيل. غير أنّ ذلك لا يكفي فيه الحسّ العملي بل يحتاج إلى ثورة فكرية في الموروث وعليه.
ومن الضّروري أن يكون واضحا لدينا أنّ النّموذج السّياسي الخليفي، الذي شهد محاولة التّفصيل والحياكة عبر جماعة الإخوان وفروعها في العالم العربي، قد صيغ بما يضمن استقرار اسرائيل ودوام التّبعية للغرب أيضا؛ فالذين يراهنون على الغرب – دون التّمييز بين قواه التّقدميّة وقواه المحافظة - ليقف ضدّ هذا المشروع باعتباره مشروعا لاتاريخيّا، هم واهمون؛ لأنّ “الخطر” الذي يمثّله الإسلام السّياسي على الغرب - حتّى وإنّ ظلّ قائما افتراضيّا - مازال بعيدا جدًّا وهو لا يشكّل تحدّيا للغرب في المدى المنظور. وإنّ حاضر الإسلام السّياسي الإخواني والسّلفي يغلب عليه الطّابع النّاعم في “مواجهة” العولمة، بل يتّصف بمهادنتها والسّير في ركابها حفاظا على تواجده.
بالإضافة إلى ما تقدم، وفي تقاطع بنيوي معه، تواجه الشّعوب العربية معضلة إعاقة اندراجها في الحداثة بسبب العرقلة الخارجيّة أيضا، التي ساندت الأنظمة الدّكتاتورية سابقا وساندت القوى اللاّديمقراطية واللاّمدنية والفاشيّة الدّينية بعد الثّورات العربيّة. وبلغ بها الأمر إلى العمل على توفير الضّمانات السّياسية واللّوجستية لتكييف الانتخابات التي تمّ تنظيمها وإخراجها على أنّها نزيهة ومطابقة للمعايير الدّولية في حين تمّ السّكوت على شبهات قويّة بتجييرها لصالح هذه القوى. لماذا حصل ذلك؟ لأنّ الدّيمقراطية الحقّة والمدنيّة الحقيقيّة هي الممرّ السّليم والسّالك لتطور البلاد العربيّة واستقلالها النّاجز وهي - بالتّالي –في تعارض مع قوى الهيمنة والعولمة، بل في مفارقة مع الوجود الصّهيوني، وتلك لعمري معضلة المعضلات.
7- رهانات أمام الفكر التّقدمي التّحرري إزاء “الحاكمية” والسياق الدولي:
من لم يقرأ التاريخ قراءة واعية يعسر عليه إدراك ما الذي تمرّ به المنطقة العربية... مظفر النواب تنبأ وقال: “سيكون خرابا”، ولكن نبوءته ليست قدرا لا محيص منه! ويبدو أنّ ما تريد فعله حكومات الإسلام السياسي - التي سيطرت على السلطة في مصر وأزيحت منها ومازالت حاكمة في تونس وفي ليبيا والمغرب الأقصى نسبيا- أكثر بكثير من السّعي إلى اجتثاث المكتسبات المدنيّة، إنّها تدّمر الدّولة والمؤسّسات وتسعى، على قدم وساق، أن تعيد “البناء” وفق ما تتخيّله عن الدّولة الدينيّة الموهومة... المواجهة الدامية وإن كانت ليست حتميّة ولا آلية، فإنّها ممكن أن تكون متوقّعة لو استمرت سلطة الإخوان قائمة في مركز العالم العربي، وقد سقطت ولكن عودتها ليست مستبعدة نهائيا، ولذلك فإنّ المنطقة على درجة عالية من الاهتزاز. إنّ التّاريخ في الغالب عاصف وربما ستكون الأحداث في مصر حاليا هي الميزان على مدى قدرة منطقة شمال أفريقيا والمغرب العربي - وفي الصّدارة من أحداثها مصر وتونس وليبيا- على تخطي الحالة الدّموية والخروج من مأزق إدماج الدّين في السّياسة مع اعتماد الدين كجزء أصيل من الإلهام الحضاري. ولو نظرنا ما الذي حصل في أوروبا مثلا في فترة الصّراع داخل الكنيسة وبين الشّعوب من جهة والسّلطة بشقَّيْها الكنسي (الرّوحي) والملكي (الزّماني) من الجهة المقابلة، أدركنا أنّه كلّما كان هناك إدماج للدّين في السّياسة كان هناك دماء ودموع ودمار...الاستثناء الوحيد في أوروبا هو البلدان الشّمالية. فبعد أن استتب الأمر في وسط القّارة وجنوبها ورأت شعوب الشمال مآسي التّغيير وفوائده، اقتبست الثّمرات وانتقلت إلى الدّيمقراطية والمدنية بأقلّ التّكاليف بالمقارنة مع جيرانهم، فهل ثمة أمل في أن يكون التّغيير سلميا أيضا في المنطقة؟هذا ما يجب على الشعوب العربية أن تحسن الاقتباس منه.
ومن جهة أخرى، على الفكر العربي أن يفكّك مفارقة ذات صلة بالسّياق العربي والعلاقات الدّولية، ويجد لها حلولا مرحليّة، وهي نجاح الصّهاينة في وضع ضغط على ضمير الشّعوب الغربيّة أمام الإشكاليّة الزّائفة واللاّ تاريخية الآتية : كيف ترضى المدنيّة الغربيّة بترك شعب(اليهود) بلا أرض مع وجود “أرض تاريخيّة” (فلسطين) له؟! لقد نجح الصهاينة في ذلك أيّما نجاح، وأكثرهم لا يكفّون عن العمل من أجل إسرائيل الكبرى : من الفرات إلى النّيل!، في حين فشل العرب في“الإقناع” بالحقّ العربي في الأرض الفلسطينيّة، وبضرورة مراعاة المصالح العربيّة، أو “فرضها” على الغربيّين رغم محاولات استخدام سلاح النّفط سابقا؛ لأنّ العالم العربي بالأساس ليس ديمقراطيّا ولا حداثيّا فكريّا وفلسفيّا رغم وجود بعض المكتسابات الحضارية والماديّة، ولأنّ العديد من أنظمة حكمه مرتهن للخارج ومرتبط به، ولأنّ القوى التّقدمية والدّيمقراطية هي من الضّعف والتّفكك واضطراب الرّؤى ما جعلها غير قادرة على مخاطبة مباشرة لضمير الشّعوب الغربيّة لتضغط –بدورها - على صانع القرار عندها.
ما حدث تاريخيّا –إذن - هو أنّ القوى الغربية استجابت للضّغط الصّهيوني الواقع على ضمير شعوبها، على حساب المصالح الوطنيّة والسياسيّة العربيّة، خاصّة وأنّها رأت في دولة الكيان الصّهيوني أيضا استمرارا لمصالحها، واتّضح أنّ عرقلتها للتّطور الاقتصادي والسّياسي والمدني في العالم العربي هو بسبب تلك المفارقة؛ أي لضمان مصلحة الغرب ومصلحة الكيان الصّهيوني فهذه حقيقة جيو – سياسيّة لا يمكن نكرانها. ولذلك، فعلى القوى التّقدمية والتّحررية العربيّة –إذن- أن تنجح في صياغة الإشكاليّات التي يجب طرحها على ضمير شعوب العالم طرحا عمليّا وبزخم ثقافي قويّ؛ حيث يجب أن يُجنَّدَ له الإعلاميون والمفكّرون والسّياسيون والدّبلوماسيون وكلّ الطّاقات بهدف وضع الشّعوب الغربية وجها لوجه أمام هذه المعضلة الأخلاقيّة (Ethique) باعتبارها ارتضت الحداثة والمدنيّة والديمقراطيّة نهجا في الغرب، في حين لا تني حكوماتها وإداراتها تسعى إلى التّدخل والإرباك والإعاقة عبر مساندة الأنظمة الدّكتاتورية سابقا ومساندة القوى اللاّديمقراطية واللاّمدنية والفاشية الدّينية حاليا، وتوفير الضّمانات السّياسية واللّوجستية لصالح هذه القوى مقابل ضمان المصلحة الغربية ومصلحة الصّهيونية أيضا.
وهناك دلائل على أنّ الشّعوب الغربيّة وحكوماتها باتت تستشعر هذه المعضلة الآن، خاصّة بعد الرّجوع القوي لروسيا والصّين وحلفائهما على خطّ العلاقات الدّولية، ولا سيما بعد المستنقع السّوري الذي وضعت القوى الغربية نفسها فيه جنبا إلى جنب مع الإرهاب، وكذلك بعد الموجة الثّورية المصرية الأخيرة التي يبدو أنّه من الصعوبة بمكان الوقوف في وجه أثرها الكبير الذي قد يهزّ المنطقة بأسرها. إنه باستثناء المسيحيين المتصهينين مال الدين في الغرب بأغلب مؤسساته ورجالاته إلى أن يكون عامل وئام وسلم بين الشعوب. البابا يصلي ويدعو للصلاة من أجل السلام في سوريا ، والجهة الأساسية التي بادرت إلى تنظيم الضغط ضد الضربة الأمريكية لسوريا هي الكنيسة الكاثوليكية في أميركا. ويلاحظ أن كرادلتها ومؤسساتها المختلفة نشطت خلال الأيام الأخيرة بالتقاطع مع نشاط الفاتيكان الأممي، لتأطير حراك شعبي في كل الولايات ضد ضربة العسكرية لسورية. كذلك فإنها توّجه ضغوطاً للتأثير على الكونغرس للتصويت ضد طلب أوباما.
والأوساط العلمانية الشعبية تنسق مع الأوساط الدينية لتجييش سلمي معاكس؛ فثمة ما يتجاوز التوّقع إلى الحقيقة؛ أن يتسع نطاق المعارضة الداخلية الشعبية ضد الحرب على سورية، ويصبح أوسع وأكثر تسارعاً في حال حدوثها، نظراً -أولاً- إلى أن مناهضتها منقادة منذ البداية من مؤسسات أميركية قادرة، أبرزها كما أسلفت الكنيسة الكاثوليكية التي بات لها تأثير كبير في المجتمع الأميركي لأسباب يطول شرحها. وثانياً، لأن الحراك الشعبي الأميركي المعارض، ينطلق من بيئة نفسية شعبية مواتية مسكونة بمأساتي أفغانستان والعراق. فهاتان العقدتان ما تزالان نابضتين في الوجدان الأميركي الشعبي العام وعلى القوى التقدمية في الساحات العربية أن تفهم هذا الزخم وتلتحم به وتعمل على الاستفادة منه.
خلاصة وآفاق:
ثلاثة أشكال من الدّيمقراطية الحديثة نشأت بعضها من بعض: ديمقراطية الصّندوق الانتخابية المحضة والدّيمقراطية التّشاركية والدّيمقراطية الشّعبية المباشرة . والشّارع العربي – عبر حركات “تمرّد” التي تجتاحه اليوم في هذه المرحلة الثّورية الانتقالية - أصبح يميل إلى الدّيمقراطية الشّعبية المباشرة بدون إلغاء مصداقيّة الدّيمقراطية التشاركية وديمقراطيّة الصّندوق الانتخابية ولكن مع تنسيبها ديمقراطيّا؛ حيث لا يجوز منطقيا وواقعيا مواصلة الاعتراف بحاكم مستبدّ يتخذ “انتخابات المرة الواحدة” سبيلا فاشيا للاحتفاظ بالحكم والسيطرة على المجتمع . وفي هذه الفترة الانتقالية العسيرة المؤمّل أن حراك تمرد والمعارضة التي تساندها ستعمل من خلال تقديم البديل للحكم الإخواني القائم على إدماج حسنات كلّ التّجارب النضاليّة والحقوقيّة السلميّة في الديمقراطية الشعبية الشّارعية المباشرة بالتوقيع العلني على الوثيقة وبالحضور الجسدي والروحي المباشريْن في الشّارع عبر فعاليات تنظيمية في يوم الحسم الشعبي إذا تاكدت حتميّته عند الوصول إلى الطريق المسدود.
هذا سلاح الشارع ضد الإخوان الذين استغلوا الديمقراطية في شكلها الأوّلي، ولم يحافظوا حتى عليها بل حاولوا الرّجوع بها إلى الملك الاستبدادي العضوض، إلاّ أن هذا الحس العلمي يجب أن يرافقه تثقيف فكري وفلسفي حتّى يتسنّى لمزيج فريد متكوّن من أهمّ المرتكزات الإيجابيّة لفلسفة الأنوار العالميّة والأسس الاجتماعيّة والحضاريّة والإنسانيّة للفكر التّقدمي من الانغراس في البيئة العربية، ودون ذلك جهد وإبداع دائمين.
ولكن حتى إذا مال الزلزال السّياسي بعد حين وشيئا فشيئا إلى الهدوء على المدى المتوسّط فإنّ الزّلزال الإيديولوجي والفكري سيظلّ متعاظما، ومن المرّجح أنّه سيدوم لفترة طويلة نسبيا، وقد تصاحبه ارتدادات عنيفة قد لا تهدّد الاستقرار السياسي والوطني في العمق ولكنّها قد تعيق التّنمية؛ لأنّ الإخوان، ومن على شاكلتهم، يدّعون أنّهم أجروا مراجعات، وأنّ الوقت الحالي والظروف الانتقاليّة غير كافيين لوضعها موضع التنفيذ، في حين أنّ المواقف تؤكّد أنّهم لم يتخلّوا عن “أطروحاتهم” وعن أيّ نصّ من نصوصهم التّأسيسية الأولى كما جاءت عند أبي الأعلى المودودي وسيّد قطب خاصة، أو حتّى النصوص المتّأخرة. ولنأخذ راشد الغنوشي كمثال؛ فهو لم يتخلّ عن أي مقال أو كتاب ممّا كتبه سابقا ولا ألغى منه مقولات الحاكميّة الإلهيّة. ولا نرى لديه أيّة تنقيحات جدّيّة يمكن أن يجد القارئ فيها ما يوحي فعلا بالمراجعة! ثمّ إنّهم متمسّكون بوثائقهم السّياسية منذ كانوا تحت اسم “الاتّجاه الإسلامي” إلى أن صاروا تحت مسمّى “النهضة” بل يعضّون عليها بالنّواذج؛ لأنها مادّة ماهيتهم، فهم يعتقدون أنّهم بدونها في العراء!
ثم إنّ الأحداث أيضا أثبتت أنّهم لم يتغيّروا قيد أنملة؛ ففي أدائهم ما يشي بتدمير المنظّمات والجمعيّات والأحزاب ؛ لقد حاولوا ذلك مع الاتّحاد العامّ التّونسي للشّغل في تونس، وضريوا أيضا سيطرة شبه تامّة حاليّاعلى حزب المؤتمر من أجل الجمهوريّة، وهم يعملون على تهرئة الأحزاب وتفكيكها كمحاولاتهم الخفيّة مثلا داخل “حركة الشعب” حسب تصريحات أمينها العام المستقيل محمد البراهمي الشهيد لاحقا. وليس مستبعدا أن تعمل أصابعهم الخفيّة داخل “الاتحاد من أجل تونس” بل حتى “الجبهة الشعبية” اليسارية التي تبدو عصية على الكسر.
وبيّنت الوقائع كذلك أنّهم يخرّبون مؤسّسات الدّولة الماديّة والاعتباريّة التي لا تناسب تصوّرهم الهووي الإسلاموي؛ فبوادر خلخلة التّعليم المدني والتّراجع عن قانون الأحوال الشخصية ورفض التّبني وقبول الزّواج العرفي هي أدلة واضحة ... إنهم يفكّرون في الدّولة بعقلية ما قبل القبيلة إنه منطقة العُصْبة الذي هو أدنى حتّى من العصبيّة كما حلّلها ابن خلدون، وتجاوزتها الحداثة؛ ولذلك فهم مرفوضون حتى عند الرّاشدين من حكم القبائل العربية الباقية إلى اليوم.
وخلاصة القول، لكي يتمّ تعميق هزيمة الإخوان في مصر وزعزعتهم في العالم العربي والإسلامي ثمّ سقوطهم، على النّخبة المثقّفة والسّياسيين من التقدميّين والتحرّريين التّوقف طويلا عند هذا المشروع وتعميق دحض المشروع المجتمعي الإسلامي المتمسّك بالحاكميّة الإلهيّة بإلباس الدّيمقراطية جبّة الحكم الإلهي. ويجب كذلك توضيح أنّ الخلافة بمفهوم الحاكمية الإلهية الإخواني فكرة خيالية لم تستقم في التاريخ كما يؤكد ذلك البحث الجدي في الحضارة الإسلامية. إن هذا ما يجب تعريته والعمل الفوري على صياغة سياسة ثقافية جماهيّرية فعّالة لإبطال مفعول الفكر الإخواني الذي مازال سحريا وجذابا إلى حدّ ما لدى بعض قطاعات الشّباب. وبدون ذلك ستظّل قدرة الإخوان على نشر فكر الحاكميّة البائد قائمة وإمكانيّة الاستمرار في غزو عقول الشّباب به واردة.
الإحالات:تنبيه: ليس هناك إجماع فيما أظنّ على تعريف الدّولة والسّلطة (إذا عزلنا جانبًا التّعريف القانوني شبه الحيادي المتفق عليه) ؛ فالمعنى المستخدم في النّص وارد حسب الفلسفة الوضعيّة، وهو الشائع، ولا تخالفه الماركسية. لذلك نرى الحركات الليبرالية واليسارية العربيتين تقولان بإمكانية الجمع بين الدين والدولة لا بين الدين والسياسة. وهم يعنون هنا السياسة الحزبية سواء من كان في الحكم أو المؤهل -ضمنيا- للحكم. في حين يعنون بالدولة كلاًّ من مؤسسة/ مؤسسات الحكم طبعا ولكن أيضا الإدارة المدنية والمؤسسات التعليمية والأكاديمية والصحية والثقافية والعسكرية والشؤون الدينية ...إلخ، وهي قد تكون مسيّسة بهذه الدّرجة أو تلك حسب نظام الحكم ودرجة أدلجته، ولكنّها ليست مؤسّسات سياسيّة من حيث التّعريف والاختصاص. وهناك أيضا التّعريفات القانونية للسّلطة والدّولة، وما يتفرّع عنها من سلطة الدّولة ودولة السّلطة، والاختلاف بينهما...إلخ. ومع ذلك تظلّ المشكلة شائكة اصطلاحيّا؛ فالمصطلح العربي القديم للدّولة يفيد ما معناه إمكانيّة التّداول – أي القيام والزّوال - في حين أنّ المصطلح الوضعي يعني أنّ الدّولة هي الاستمرار. أمّا فلاسفة ما بعد الحداثة مثل الاختلاف والتّفكيكية وغير ذلك فيرون أنّ الدّولة أضيق من السّلطة؛ لأنّ السّلطة منتشرة في حين أنّ الدّولة ممركزة وقائمة على التراتبيّة- hiérarchise؛ فالدّولة تسطو على الحكم لتكرّس سلطتها السّياسية وتعضّدها بالاستحواذ على بقيّة السّلط الأخرى الدّينية والماليّة والقانونيّة.
السبت يونيو 21, 2014 5:35 am من طرف هشام مزيان