لوجوههم
ألفة غريبة، ربما لأنّ اللقاء بهم كان متواتراً، من دون معرفة مسبقة. هم
من كنت تراهم أمام بوابات المسارح الدمشقيّة، وهم من كنت تراهم أمام أبواب
دور السينما خلال مهرجاناتها. وهم من لا يمكن أن تراهم على أبواب
المساجد... إلاّ بعد الخامس عشر من شهر آذار!
وتألف وجوههم، لا لشيء مما سبق ربما، بل فقط لأنّها مسترخيّة رغم القسوة
التي تفرضها اللحظة المزدحمة بالخوف. يتجمعون في شارع "القيمريّة"، وفي
نيتهم القيام بتظاهرة، في وسط دمشق، وفي حيّها التاريخي: باب توما. الحيّ
الذي تستضيف ساحته الشهيرة كل يوم جمعة فعاليّة تُسمى: "جمعة سيد الوطن"!
بعضهم يأكل "الكرواسان"، وأكثرهم يدخن، والجميع ينتظرُ أن تطبق عقارب
الساعة على السابعة مساء: الهتاف للحريّة، كما الوقت، لا يتأخّر. ينطلق،
كالعادة، من حنجرة يبدو على صاحبها أنّه لم يعرف الخوف يوماً. يتحرّك
الشباب صوب مصدر الصوت، يتجمعون، ينظمون صفوفهم، ويبدأ "الهتيف" ذو الهيئة
المميّزة. "هتيف" لم يتخذ أيّة احتياطات يخفي بها وجهه أو شخصيته. على
العكس: يرتدي "شورتاً"، و"صندلاً" بحريّاً. يبدأ الهتاف بتحيّة للحيّ الذي
يُفترض به أن يحتضن التظاهرة... ويحميها: "قيمريّة جيناك.."!
يستمر الهتاف الذي يغطي الخارطة السوريّة بمطالب الحريّة والكرامة والوحدة
الوطنيّة: "من القامشلي لبانياس/ الشعب السوري ما بينداس/ من قرداحة
للصنمين/ شعب واحد مو شعبين/ من قامشلي لحوران/ العشب السوري ما بينهان..".
ربع ساعة، يمشي المتظاهرون/ات في الشارع باتجاه مقهى "النوفرة" الشهير.
ربع ساعة من "الهدوء": لا رجال أمن، ولا رصاص، ولا بلطجية! غير أنّ للشارع
الضيّق خصوصيته. هو شارع "سياحي"، وعليه سيكون لأصحاب المحال فيه عشق
مميّزاً لـ"الاستقرار" السوري الشهير. لكن، ربما، سيبقى التظاهر مقبولاً
بالنسبة لهؤلاء طالما بقيت الهتافات "مسالمة": "ما بخوّف ما بخوّف/ قول
الحق ما بخوّف... بدنا عز وبدنا كرامة/ مو خضوع وذل مهانة... بدنا دولة
مدنيّة/ بدنا وحدة وطنيّة.."!
يصل المتظاهرون/ات إلى مفرق ثلاثي الاتجاهات، يأخذك أحدها إلى مقهى
"النوفرة" ومنه إلى الجامع الأموي، أمّا الآخران فيأخذانك إلى.. الضياع، إن
لم تكن من أبناء المنطقة. حتى الآن، لا "تصعيد" في الهتافات، بالنسبة
لتظاهرة صغيرة. لكن مع توقف المتظاهرين ترتفع اللهجة، بدءاً بـ"ما منحبك ما
منحبك... ارحل عنّا إنت وحزبك"، وصولاً إلى سقف الهتافات: الشعب يريد
إسقاط النظام. خلال فترة توقّفهم، يلاحظ المتظاهرون تجمهر البعض حولهم، هذا
البعض الذي لم يتحمّل الشعار الأخير، البعض الذي كان قليل العدد، بالنسبة
لعدد المتظاهرين، بدأ يهتف: الشعب يريد بشار الأسد. لكن المتظاهرين
السلميين بدوا سلميين "أكثر من اللازم" حين بدأت صفوفهم بالتراخي والتباعد.
هرب المتظاهرون/ات، والبعض القليل منهم صمد، لكن كان لصموده ثمن كبير: ضرب
بالعصي والكراسي، وإهانات بالجملة.
تاه المتظاهرون/ات في شوارع الحي الضيقة. رموا اللافتات الصغيرة التي حملت
مطالبهم الكبيرة. من تمكن من الهرب، قيّض له أن يشهد "الاستنفار" الذي
شهدته الأحياء والساحة. عشرات من الشبان المسلحين بعدوانيّة غرائزية
وبالهراوات، يلهثون بحثاً عن "المندسين" و"العراعرة"، أي فعلياً، عن أولئك
الذين هتفوا لتوّهم للحريّة وطالبوا بدولة مدنيّة.
من نجح وتمكن من الهرب والخروج سليماً من أزقة الأحياء القديمة، تمكن من
بعيد، أن يرى أصدقاءه المعتقلين، وهم يُجرون إلى مخفر "باب توما" من قبل
عشرات من الذكور، الذين لا يبدو أنّ لذكوريتهم معنى آخر سوى ذلك المتعارف
عليه، يقبضون على فتاة ويمسكونها من يديها ويجرّونها بقوة نحو المخفر. تبدو
إحدى "سباياهم". أما "أسراهم" فقد تلقوا من الضرب والإهانات، ما أسال الدم
على ثيابهم.
بالطبع، لنا أن نتخيّل، أن مسؤولي المخفر لم يلقوا القبض على "البلطجيّة"،
حاملي العصي والسكاكين، بتهمة ضرب مواطنين سوريين وإهانتهم. فقط في سوريا
يكون "الشعب" في خدمة "الشرطة"، يمكن أن يحدث ذلك في دولة المواطنة ودولة
القانون، الدولة التي تظاهر وتظاهرت من أجلها كل من ربا حسن، خزامى درويش،
نوال شاهين، وفاء صالح، أليس مفرج، عقبة عمود، خلدون البطل، رهف موسى، عمر
عبد الدين.. فاعتقلوا!