" كل الحياة اليقظة هي حياة للإرادة"
هوسرل لقد غدت "عبارة" «الشعب يريد » التي رفعها شباب الثورة في تونس ومصر
واليمن والبحرين وباقي البلاد العربية من المحيط إلى الخليج، عنوانا لحياةٍ
يقظة، تستجيب لنداء الإرادة بما هو تعبير عن ذاتية عربية مشتركة عازمة على
اقتحام الفضاء الحرّ المشترك للإنسانية، وهذا العزم يتحدّد انطلاقا من شكل
روحيّ جديد للعالم العربي، ليس هو الشكل الروحي للوحدة العربية القومية
الذي بزغ إبان الاستقلالات القطرية، وليس هو الشكل الروحي الذي ظهر مع
جماعات الإسلام السياسي. بل ربما هو شكل روحيّ للانتماء إلى الفضاء الحرّ
المشترك للإنسانية، الذي يمكّن الشعوب العربية (بالجمع) بما هي وحدات
روحية، من الالتحاق بالتاريخ الكوني، أي بما نسمّيه الحاضر الفعليّ الذي
يتحقق الإنسان داخله كعلّة تأسيسية منجزة وبانية لأفقها التاريخي.
في 1935 عندما كانت ألمانيا ترزح تحت نازية هتلر، تساءل هوسرل عما هو
"الشكل الروحي لأوروبا"؟ يكمن الجواب على هذا السؤال، في إظهار الفكرة
الفلسفية الكامنة في تاريخ أوروبا (أوروبا الروحية)، أو هو ما يعني نفس
الشيء، إظهار الغائية الكامنة فيها، التي تتحدّد من منظور البشرية عموما،
كانبثاق وبداية لتطوّر حقبة جديدة للإنسانية، حقبة الإنسانية التي لا تريد،
ولا تستطيع أن تعيش، ابتداء من الآن، إلا في شكل حرّ لوجودها ولحياتها
التاريخية على أساس أفكار العقل، على أساس مهام لامتناهية(1).
ربما نتساءل بدورنا عن الشكل الروحي لعالمنا العربي، هذا العالم الذي لا
يمكننا اختزاله في وحدة اللغة والعقيدة والجغرافيا والتاريخ أي ضمن بنية
التشميل الذي يتلف التنوّع الروحي، والتعدّد اللغوي، والاختلافات الثقافية
التي تمتدّ بعيدا إلي ما قبل ظهور الإسلام وانتشار اللغة العربية التي
تتعايش مع لغات أخرى كالأمازيغية وغيرها، ولم تستطع لحدّ الآن أية نزعة
إقصائية تقويضها، رغم التهميش الممنهج الذي طالها منذ 14 قرنا وما يزيد.
لن يكون الشكل الروحي لعالمنا العربي الجديد متحققا إلا إذا غدا أفقا
للانتماء المشترك للإنسانية، أي إذا غدا إرادة حرّة لا تستطيع أن تعيش سوى
داخل شكل روحيّ يستجيب لحياتها الحرّة، يتعلّق الآمر بإدماج انتماءات هذا
العالم المتعددة التي تعلي من شأنه كخصوصية داخل الأفق الكوني للإنسانية.
تأسيس هذا الشكل الروحي الجديد لما نسمّيه عالمنا العربي يبدأ منذ اللحظة
التي شرع من خلالها شباب الشعوب العربية في ترديد : "الــــــشـعب يريد…"
ليست عبارة "الشعب يريد" مجرد شعار جماهيريّ فضفاض، بل هي تعبير عن فكرة،
نبعت عن عمق حياةٍ يقظةٍ عازمةٍ على استعادة إرادتها، وهو ما يعني أنّ
عبارة "الشعب يريد" هي كيفية من كيفيات ظهور الذاتية المشتركة التي تحوز
الآن وعيها وتتهيأ لتحمّل مسؤولية مصيرها، فالمصير غدا شأنها الخاص،
والتحكم في المصير ينبعث من إرادتها في العيش داخل نمط حرّ للوجود. ليس هو
نمط الغفلية الاجتماعية الذي سلبها إرادتها الحرّة، وأعفاها من المسؤولية.
تحدّد عبارة الشعب يريد بما هي فكرة ناتجة عن اتساع حركة التكوين الثقافي
مسارا مغايرا للشعب، وليس المراد بـ "الشعب" وفق هذه الفكرة سوى هذا
التشكّل الجديد للأفراد الذين صاروا ذاتية مشتركة، أي صاروا وجودا
بيإنسانيا. هكذا تتبلور داخل هذا الوجود تفاعلية مجتمعية، يكون عزمها
منصبا على إنشاء عالم مغاير يتيح لها أن تستثمر إمكانيتها الخاصة لإنجاز
تغيير جذريّ يمكّنها من ولوج المجال الكوني للإنسانية.
إنّ شعبا يريد معناه أنّه الآن بصدد استعادة ماهيته الجوهرية، فماهية
الشعب هي إرادته، والإرادة عزم على تصريف الوعي المشترك الذي تبلور من خلال
حركة التكوين الثقافي داخل فكرة الحرية. هنا نتساءل مع هوسرل عن النتائج
التي تترتب عن حركة التكوين داخل دوائر من الشعب تتسع باستمرار، وبالطبع في
الدوائر العليا السائدة الأقلّ انهماكا في هموم الحياة. واضح أنّ ذلك لا
يقود ببساطة إلى تغيير منسجم للحياة العادية المرضية عموما داخل الدولة
والأمة، بل على الأرجح إلى انشقاقات داخلية كبيرة تدخل من خلالها ثقافة
الأمة الواحدة ذاتها بأسرها في ثورة. سينشب صراع بين المحافظين الراضين
بالتقليد ودائرة البشرية الفلسفية. من الأكيد أن هذا الصراع سيدور في مجال
السلطة السياسية. لقد ابتدأ الاضطهاد من بدايات الفلسفة. إن الناس الذين
يتطلعون في حياتهم إلى تلك الأفكار سيتمّ نبذهم. ومع ذلك: "إن الأفكار هي
أقوى من القوى المادية"(2).
العلاقة الناظمة ما بين أزمة الروح الأوروبية التي تحدث عنها هوسرل في
العام 1935 والتي بدأت تدشّن لانطلاق حركة جديدة لتاريخ البشرية تبلورت من
خلال شكل حرّ للوجود مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وبلغت أوجها بسقوط
جدار برلين في العام 1988 الذي تهاوت معه الأنظمة الشمولية لأوروبا الشرقية
وتفكك الاتحاد السوفييتي، وما بين أزمة الروح العربية التي تفجّرت خلالها
الثورات العربية التونسيةـ المصرية، اليمنية، البحرينية، الليبية وعمّ
صداها كل البلاد العربية بدون استثناء متوهّم، هي علاقة الروح الكونيّ التي
تتقدم كفكرة للحرية التي تستعيد من خلالها البشرية- المنتمية لجغرافيات
منغلقة على ثقافة تمارس وصايتها بطريقة مستبدة على الكائن الإنساني، فتشل
قدرته على العزم، وعلى ابتكار وجوده الخاص- وعيها اليقظ بما هو وعي بحريتها
المتأصلة، أي أنها تستعيد انتسابها للفضاء الحرّ للوجود، أو الشكل الروحي
للبشرية، إنّه الشكل الذي لا ينفي انتماء كلّ أنا بشرية إلى مجالها الخصوصي
المرتبط بالتاريخ واللغة والعقيدة والثقافة، والذي سيغدو مميزا لتنمية
شخصيتها، في حال تحلل الروابط الشمولية التي غدت تنتمي لثقافة الماضي، فهذا
الشكل سيحتفظ بمجال الخصوصية خارج نمط التقديس، سيجعل من الخصوصية كيفية
مغايرة لإثراء تجربة هذه الأنا البشرية التي غدت داخل الشكل الروحي منتمية
لأفق الروح الكوني، والذي صار بمقتضاه كل شخص إنسانا كونيا، فردا منتميا
للمجتمع الإنساني، فردا معنيا بالحرية التي تكتسح فكرتها أرضه التي ينتمي
إليها. لقد غدوت إذن هذا الأنا الذي يريد والذي ينتمي لهذا النحن اليقظ
والذي عزم قراره على استعادة إرادته. إنه العزم الذي يتردد لا كشعار أجوف،
من خلال عبارة "الشعب يريد" ولكن كبداية لكيفية مغايرة لوجوده البيانساني،
كيفية تجد طريقها من خلال الامتناع الحاسم عن الانتماء إلى الفضاء الغفل
للوجود، الفضاء الذي تسوده خصوصية القطيع، والعلاقات الاستبدادية التي غدا
من خلالها كل طاغية- الأنا المطلق- الذي يصرف إرادته على الشعب.
«الشعب يريد» كيفية للتحرر عن طريق الامتناع بما هو الخطوة الحاسمة نحو
تهاوي الطاغية، والامتناع كما يقول- أتين دي لابوسيه- هو خلاص من عبودية
الطاغية، فللبلد إذا أراد ألا يتحمل مشقة السعي وراء ما فيه منفعته يتعين
عليه أن يمتنع عما يجلب ضرره. الشعوب إذن حسب "لابوسيه" هي التي تترك
القيود تكبّلها أو قل إنها تكبّل نفسها بنفسها ما دام خلاصها مرهونا بالكف
عن خدمته، الشعب هو الذي يقهر نفسه بنفسه ويشق حلقة بيده… و لكن إذا كان
نوال الحرية لا يقتضي إلا أن نرغب فيها، وكان يكفي فيها أن نريد، أكنّا على
وجه الأرض شعبا يستفدح ثمنا لا يعدو تمنّيها، أو يقبض إرادته عن استرداد
خير ينبغي شرائه بالدم، ويستوجب فقده على الشرفاء أن تصبح الحياة مرة عندهم
والموت خلاصا. إن الشرارة تستفحل نارها وتعظم كلما وجدت حطبا زادت اشتعالا
ثم تخبو وحدها دون أن نصبّ ماء عليها، يكفي ألا نلقي إليها بالحطب كأنها
إذا عدمت ما تهلك، تهلك نفسها وتمسي بالقوة وليست نارا. كذلك كلما نهبوا
طمعوا، كلما دمروا وهدموا، كلما مونّاهم وخدمانهم زادوا جرأة واستقووا
وزادوا إقبالا على الفناء والدمار. فإن امسكنا عن تموينهم ورجعنا عن طاعتهم
صاروا، بلا حرب وبلا ضرب، عرايا مكسورين لا شبيه لهم بشيء، إلا أن يكونوا
فرعا عدمت جذوره الماء والغداء فجفّ وذوى.(3)
إذن لا شيء يفصل الشعب عن الحرية سوى الرغبة في هذه الحرية، ما يمنح
الطاغية سلطة الوجود الفعلي ليس سوى فقدان الرغبة في الوجود الحرّ، وبقدر
ما يستعيد الشعب وعيه اليقظ تغدو الحرية ممكنة. "الحرية وحدها هي ما لا
يرغب الناس فيه، إلا أنهم لو رغبوا فيها لنالوها حتى لكأنهم إنما يرفضون
هذا الكسب الجميل لفرط سهولته"(4)
ها نحن نرى أن الامتناع عن خدمة الطاغية في تونس ومصر كان سبيلا لنيل
للحرية. هذا الامتناع خلق شرطا جديدا للحياة المشتركة لا يتمثل في تهاوي
الطغاة الواحد تلو الأخر، بل في التأسيس لكيفية من كيفيات التغيير الجذري
الذي لا يستهدف الإطاحة بالطاغية وحده، إنما أيضا تقويض البنية الأساسية
التي يرتكز عليها النظام الشمولي الذي ينتج الطغيان، ومن ثمة فإن هذه
الكيفية ليست سوى لحظة من لحظات التأسيس للتاريخ الذي تشارك فيه الإرادة
الحرة، التي ترجع مسار التجربة الإنسانية إلى مبدأ العقل. وما حدث في تونس
ومصر وما يحدث في ليبيا واليمن أسّس بشكل واضح لهذه الكيفية من كيفيات
التغيير.
بإمكاننا أن نستشرف حدوث تغيير وفق كيفية مغايرة بالنظر إلى مجتمعات أخرى
تنتمي إلى المجال الجغرافي للعالم العربي، يتعلق الأمر بالمجتمعات التي لم
تستكمل بعد مسارها الديمقراطي، وظلت رهينة مرحلة انتقالية بطيئة وعسيرة،
كما هو الشأن بالنسبة للمغرب والأردن، فهاتان الدولتان شرعتا بالفعل في
مسلسل إصلاحات خجولة ومترددة لم تستجب بعد لإرادة الشعب، ولعل الكيفية
الثانية التي يمكنها أن تحدث التغيير نحو مجتمع ديمقراطي إنما تتمثل في نزع
الاعتراف الشامل (بالمعني الهيجلي/ الكوجيفي). فالرغبة في الاعتراف الشامل
هي استرداد لسيادة الشعب، لأن جزءا من هذه السيادة ما زال محتكرا من قبل
العاهل الذي ما زال يمارس اختصاصات شبه مطلقة، ومازال يتمسك بصلاحيات واسعة
تمنحه صفة الراعي والساهر دوما على شعب- رعية يمنّ عليه ببعض الحقوق
الجزئية التي لا تلبّي رغبة العيش المشترك للكينونة الحرة، كما يمنحه النسق
من قبل الديمقراطي الموروث أيضا صفة الشخصية المقدسة التي تتعالى على كل
ما هو دنيوي متغير، ما دامت تندرج ضمن الثوابت التي تشكل أفق هوية تشكلت
سلفا، إذن ما زال الاعتراف بين الشعب أو العاهل غير مكتمل، ومن ثمة
فالعلاقة بين الطرفين غير متكافئة. وما دام أن شعبا لم تكتمل سيادته ليمارس
صلاحياته بالكامل دون وصاية من الراعي، فهو مسود، أي انه ما زال يرزح تحت
شكل من العبودية، فحريته جزئية ما لم يتخلص من رواسب الموروث العبودي، وما
لم يستردّ صلاحياته من العاهل، ومن ثمة فمعركته تنحو نحو نزع الاعتراف
الشامل، وهذه الكيفية لا تستهدف إسقاط العاهل وإنما إقرار صيغة جديدة من
الاعتراف المتبادل بين الشعب من جهة والعاهل من جهة أخرى. فتغدو السيادة
شأنا مجتمعيا، يحصل الشعب بمقتضاه على سيادته الكاملة، التي تضمن سيادة
العاهل الرمزية أي إرجاع العاهل إلى دائرة المعيش النسبي، وهو الإرجاع الذي
يحوز من خلاله على اعتراف حقيقي من الشعب ما دام اعترافا تعاقديا حرا، ليس
قائما على الإكراه، وليس قائما على النزعة الوصائية التي تؤسطر كينونته
وتصيّرها فوق الزمن والتاريخ والشعب. واستعادة العاهل من دائرة المطلق إلى
دائرة "النسبي" هي تأسيس لعلاقة جديدة تقوم على الرغبة، لا على التملق أو
الرهبة في حالة الخضوع الشامل، ولا على الصراع والتمرد في حالة المقاومة
أو العصيان.
حينما يحوز الشعب وعيه باعتباره وجودا بيجسدانيا، فإنه لا يرضى بغير
الاعتراف الكامل بما هو أفق كوني لذاتيته المشتركة، ومن شأن هذا الأفق
الكوني أن يشمل مؤسسة العاهل ويجعلها منفتحة على العالم المعيش للوجود
البيانساني، ومستجيبة لإرادته، في نفس الوقت الذي تغدو فيه مؤسسة العاهل
نفسا ذات قيمة رمزية حقة تتمثل في كونها تتويجا للحرية، للإرادة المشتركة
ومبدأ الاعتراف الكامل الذي يتم إرساؤه بعد تجاوز حالة الصراع أو التمرد
والمقاومة التي تعبّر من خلالها الذاتية المشتركة عن إرادتها في نيل
الاعتراف، وبالتالي استعادة الوجود البيانساني الحرّ الذي يعني انكشاف
"الشعب" كشخصية مفهومية تعبّر عن التحقق الفعليّ للحقّ من خلال تملكه
للإرادة التي تصنع تاريخه الفعلي، وتجعله منتسبا إلى الأفق الكوني
للإنسانية.
لقد أوضحنا لحد الآن كيفيتين من كيفيات الإرادة، الكيفية الأولى وهي
كيفية الامتناع عن خدمة نظام الطاغية والتي تؤدي إلى تغيير جذري وتشكيل نسق
جديد للحياة المدنية، والكيفية الثانية التي تظل ممكنة اليوم هي كيفية نزع
الاعتراف الشامل الذي يؤدي إلى تغيير ديمقراطي يقوم على الفصل بين السلطات
في إطار ملكيات برلمانية حرة•.
لعل اكتمال هذين المشروعين وفق هاتين الكيفيتين هو علامة فاصلة سيدخل
فيها عالمنا العربي ( بصيغة المتعدد) إلى الأفق الكوني للإنسانية، الذي
يشبع إرادة الشعب في بناء شكله الروحي الذي يستجيب لغائية التاريخ،
والغائية كما يوضح هوسرل لا يمكن أن تصبح غائية بالمعنى الدقيق إلا إذا
تدخلنا نحن أنفسنا بحريتنا في التاريخ الذي نشارك فيه-نحن- أنفسنا و نجعل
منه غائية حقة، أي حركة تاريخية تكتمل فيها فعليا فكرة غائية ممتدة في
اشتراك بين الذوات.(5)
• انتهينا من كتابة هذا المقال قبل خطاب الملك محمد السادس للشعب يوم 9
مارس 2011 والذي يستجيب لإرادة الشعب ولحركة 20 فبراير حيث قرر العاهل
المغربي إجراء تعديل دستوري شامل يستند إلى سبعة مرتكزات أساسية منها تكريس
الطابع التعددي للهوية المغربية، وترسيخ دولة الحق والمؤسسات واستقلالية
القضاء وتوطيد فصل السلط …الخ
الهوامش: 1- ادموند هوسرل: أزمة العلو الأوروبية، ترجمة إسماعيل المصدق المنظمة العربية للترجمة بيروت 2009. ص 523.
2- المرجع نفسه ص 543
3- أتين دولا بوسيه: مقالة في العبودية الطوعية، ترجمة مصطفى صفوان منشورات الجمل-ألمانيا 2005. ص 18-19.
4- المرجع نفسه ص 20.
5- ادموند هوسرل: أزمة العلوم الأوروبية ص
الأحد أكتوبر 23, 2011 1:49 pm من طرف هذا الكتاب