مجتمعنا في سبيله إلى الانحلال،
فلا غنى من تحويل جوهري، وهذا التغيير لا يمكن أن يتم بالطرائق التقليدية،
وأزمة بهذه الضخامة تتطلب كيما تحل أكثر من ثورة، تتطلب تغييراً جذرياً،
لا لنظام الملكيات وهياكل السلطة فحسب، بل أيضاً لبنى الثقافة والمدرسة،
الدين والإيمان، الحياة ومعناها… تغيير العالم وتغيير الحياة.. ماركس
ورامبو. غارودي.
المؤسسات بكافة أشكالها، والتي أنتجتها النظم العربية في سياق سيطرتها
السياسية، هرمت، وباتت قاصرة عن مواكبة تطور مجتمعاتها، أي باتت عاجزة عن
مواكبة مناخ العصر، لذا أصبح هدمها يشكل ضرورة تاريخية، يفترضها منطق
الصراع ذاته، وهو شيء بات لا بديل عنه.
في أغلب التشكيلات الاجتماعية التي هيمن فيها شكل إنتاج رأسماليّ تابع،
تبلورت دولة مشوّهة مطابقة لهذا النمط المحدّد من الإنتاج، أيّ دولة إذا
ما اعتمدنا التعريف السلبي في مقاربتها، سنلاحظ أنها عكس الدولة الحديثة؛
أي دولة لا ديمقراطية، دولة لاعلمانية، دولة تسيطر عليها سلطة سياسية أقلّ
ما يمكن أن يقال عنها إنها زمرة، هي أقرب إلى المافيا من أيّ شيء آخر.
ينطبق هذا التحليل على البلدان العربية دون استثناء، إن كان على مستوى شكل الإنتاج المهيمن، أو على مستوى شكل الدولة المطابق له.
أما إحالة هذا الشكل المشوّه من وجود الدولة إلى أسباب ثقافية أو حتى
أخلاقية، وذلك على قاعدة الاستناد إلى مصطلحات من طبيعة "الخصوصية"، فذلك
لا يعدو كونه تحليلاً شكلياً، أقل ما يمكن أن يقال عنه إنه تحليل
أيديولوجي، أقصد تضليليّا.
بمعنى آخر، لا يمكن فهم هذا الشكل المحدد من الدولة بالانطلاق في
التحليل من البناء الفوقي، كأن نقول إن الخصوصية الإسلامية لمجتمعاتنا، هي
التي فرضت آلية عمل هذا النموذج من الدولة، ونحن هنا لا نعرف المقصود
بالإسلام إن كان نمط إنتاج أو بنية ثقافية كانت وما زالت سائدة. وهو تحليل
غالباً ما يعتمده برهان غليون في مقاربته الدولة.
وأياً يكن الأمر، فإنّ المرحلة الراهنة راحت تسقط عن هذا الشكل المحدد
من نمط الإنتاج والدولة والبنى المطابقة له كل شرعية، سعى إلى تحقيقها
تاريخياً. وليست الانتفاضات التي راحت تعم البلاد العربية سوى دليل على
انتهاء هذه الشرعية. هذا عداك عن كونها –أي هذه الثورات- تمثل وعياً
جماعياً من قبل كافة الطبقات المسحوقة، بضرورة إسقاط هذه البنى السياسية
المتهالكة أصلاً. "فالتاريخ يتحرك في كل شبر من الأرض العربية، وكل جبروت
النظم الحاكمة لن تتمكن من وقف سيره المظفر إلى الأمام". إذن هو فعل تغيير
جذريّ، يعيد الحياة والدور للفاعلين الاجتماعيين وهم في معادلتنا هذه ليسوا
سوى القوى الاجتماعية الأكثر تضرراً من ممارسة النظم السياسية عبر العقود
الماضية. فالشعب قرر بأنه يريد، وهذا الشعار البسيط والذي أصبح مفتاحاً
للغز، يعكس طرفاً واضح الملامح : الشعب. كما يعكس فعل إرادة، ينقل هذا
الشعب إلى حيز الممارسة السياسية لفاعليته التاريخية، وهو فعل هدم، أي
تغيير جذري، وهو أيضاً فعل بناء أي طرح بديل أو قل إنه محتوى ومغزى جذرية
التغيير الجاري العمل عليه الآن.
إن فعل التغيير الجاري العمل عليه، هو فعل إيمان يقين بأن العالم قابل
للتحويل، وبأن الإنسان يملك القدرة على الخلق من جديد، وبأننا مسؤولون
شخصياً عن هذا التغيير.
لقد أطاحت الثورات التحررية العربية منتصف القرن الماضي، بالاستعمار
والنظم الرجعية المرتبطة به، بيد أنّ ما حلّ مكانها لم يكن حكومات تحرّر
وطني بقدر ما أثبتت صيرورتها اللاحقة أنها حكومات كومبرادورية الطابع عميلة
الهوى، لقد حلت نظم كومبرادورية محل النظم السابقة عليها، وتحولت بفعل
طبيعتها نفسها إلى تابع وعدوّ للشعب. ومن هنا أصبحت الإطاحة بهذه النظم
تفترض طرح بديل جذريّ لا أرى إسماً آخر له سوى حكومات تحرر عربي يقع على
عاتقها هندسة المرحلة المقبلة وإجراء تغييرات جذرية في النظام السياسي
الاقتصادي والاجتماعي.
لقد فشلت النظم، الجاري العمل على إسقاطها، في تحديث مجتمعاتها، وسيقت
في سبيل تبرير هذا الفشل كل الحجج الإيديولوجية الواهية، التي لم تكن قادرة
على الصمود أمام النقد الجاد؛ وحيث تكشف التاريخ عن عجز هذه النظم البنيوي
في أن تكون لا كومبرادورية ومرتبطة بالخارج، حلت عليها لعنة التغيير وتم
تقرير إسقاطها.
وكان على هذه النظم كي يكتب لها الصمود أمام المد الجماهيري، أن تنظم
ثورة مضادة، انطلقت من المستوى الأيديولوجي، حيث بدأت الطنطنة حول المخاوف
من تمزقات وصراعات طائفية، أو قبلية تهدد المجتمعات العربية في حال سقطت
هذه النظم، والأمور لن تقف عند هذا الحد، فكان لا بدّ للمؤسسة القمعية من
أن تدلي بجبروتها، فشنت حرباً نازية على الشعوب الثائرة، حيث أن التهويل
الأيديولوجي لم ينفع فكان لا بدّ إذن من القمع السافر. وفي كل هذه الحالات
أثبتت وقائع التجربة الراهنة أنّ هذه الفزاعات التي تسوقها النظم العربية
الحاكمة لا تعدو كونها فزاعات من ورق. وأن القرار الشعبي اتخذ بصدد إسقاط
هذه النظم وإسقاط شرعية من لم يسقط بعد. فالشرعية والكلمة الحاسمة الآن في
الشارع، فلنصغِ إذن إلى ما يريده الشعب.
الأحد أكتوبر 30, 2011 11:20 am من طرف هذا الكتاب