إلى من تتوجّه امرأة فقيرة معدمة حينما تجد نفسها مطرودة من رحمة العائلة،
مشرّدة وملعونة في مجتمع لا يكنّ للأنثى كبير الودّ؟ حتما ستتوجّه إلى
الله كملاذ أخير. ألم تكن فكرة الربّ أصلا بحثا عن مُحاور حميم حينما تشتدّ
سهام العزلة؟
تحكي "جبارة" بطلة رواية صافيا عزّ الدين "بوح إلى الله" حياتها وتسرد على
الله شقاءها وتشكو إليه ذاك الاحتقار الذي يكنّه لها مجتمعها المغربيّ حيث
ينظر إليها الرجال على أنّها بضاعة لا تصلح سوى للاستهلاك ولا يرى فيها
أبوها خيرا، فيسلّط عليها جهله وقسوته ويتصرّف معها كأنّها آلة لا أكثر.
مع مرور الصفحات والمحن تصل جبارة إلى اكتشاف سلطة جمالها، فتجرّب
الدعارة ثمّ السجن، ويراودها حلم مغادرة قريتها المتخلّفة والذهاب إلى حيث
المتعة الحسّية والحرية. تحكي المغربية صافيا عزّ الدين من خلال بطلتها
جبارة حكاية شابّة ريفية اكتشفت شيئا فشيئا ذكورية مجتمعها القرويّ، وبدأت
تتحسّس كيف يعاملها باستعلائية فجّة، بلا رحمة ولا أدنى شفقة.
لا تتدخّل الروائية إلا في تدوين كلام جبارة، إذ تتركها تحكي حياتها
المضنية بنفسها وبشراسة. وذلك على شكل سيرة ذاتية محمومة، تقول عبرها حنقها
الشديد الذي يصعب كبحه. لكنّ عترافاتها على مرارتها، لا تخلو من خفّة روح
عذبة كثيرا ما تخفّف من شدّة سوداوية النص وما يحمل من فضح لمختلف أشكال
اضطهاد النساء وما يتعرّضن له من كراهية وقسوة.
يرصد نص صافيا عزّ الدين (مطبوعات ليو شيير) بذكاء وفي لغة شفافة حياة
الكثيرات من النساء. صرخة أدبية أخرى ضدّ وضع المرأة المزري في المغرب
الأقصى والوطن العربي كله.
تدخلنا الكاتبة في الموضوع مباشرة في مطلع الرواية الذي رأيت أن أنقله إلى العربية هكذا:
" تافافيلت هي الموت. ومع ذلك لقد ولدت فيها. اسمي جبارة ويبدو أنني جميلة
وإن كنت لا أعلم. ولكن ما دمت فقيرة وأسكن في هذا البرّ الخالي، فلا
ينفعني في شيء أن أكون جميلة. أعيش مع أبي وأمي وإخوتي الأربعة وأخواتي
الثلاث. يتكاثر الفقراء كالأوغاد ما دام الأمر مجانا. على كلّ حال، لا أحد
قال لي آنذاك أنني كنت جميلة. هذه الأشياء لا تقال عندنا. فلا قيمة للجمال،
فلا منفعة يمكن أن تجني منه صاحبته في قرية تافافيلت. فضلا على أن لا أحد
يعرف ما هو جميل أو ما هو ليس كذلك. فلا يقدر أبي مثلا ولا أمي أن يقولا
لكم إن كنت جميلة أم لا. سيكتفيان بالقول إنّ : "جبارة، فتاة محبّة للعمل!"
الجمال كلمة بعيدة عنّا، تنتمي إلى عالم الأثرياء فقط. لنقل، في هذه
البداية، أنني عاملة مجتهدة. لسنا متعلّمين بما فيه الكفاية في هذه
المنطقة، فأنا لم يهذّبني أحد قط، وإنما شبعت إهانات ودفعا وصراخا في وجهي
وشبعت منعا. نعم كلّ شيء ممنوع. كلّ شيء حرام عندنا، فحتّى أنا حرام، وهذا
أيضا أمر لم أكن أعرفه."
وتعود في نهاية النص إلى معضلة الحرام ثانية لتقول لله بفرنسية بسيطة جميلة:
" تضربني حماتي اليوم وتهينني باستمرار كما تخلق لي المتاعب مع الجميع.
تُبكيني كلّ يوم. ينبغي أن تختفي من حياتي وإلى الأبد، وليس هناك إلا أنت
يا ربّي الذي يستطيع قبض روحها. لماذا لا تقدّم ساعة أجلها قليلا؟ حرام أن
أقول هذا أو هو عار؟ لست أدري! فأنا لا أعرف بالأحرى ما هو الحرام ولا
الحلال؟ لا أحسن التفريق بين المخزي وما هو من المعاصي. لم أفقه ما معنى
الحرام؟ ما هو حرام بالنسبة لشخص ليس بالضرورة كذلك في نظر آخر. فكيف
الخروج يا الله من هذه الورطة؟ لم يكن في استطاعتي فعل أيّ شيء، ولم يخطر
على بالي أبدا أنّ امتهان الدعارة قد يكون حراما. في اعتقادي لم يكن الأمر
سوى مسألة قلّة حياء لا أكثر.
في البيت ضيوف هذا المساء، ولكن لم أتكفّل بتحضير العشاء ولا تقديمه
لأنّني غير طاهرة جرّاء العادة الشهرية. هكذا يقولون. غير طاهرة؟ أقول
لهؤلاء المعتوهين أنّ المرأة لا يمكن أن تكون سوى طاهرة وأنهم خرجوا كلهم
من فرجها وهم هنا اليوم بفضل هذا الدم يقدحون ويطلقون تفاهاتهم باسم الله.
يا للهول! أنا مسجونة في غرفة بسبب الحيض. في المرة القادمة سأضع شيئا من
دم حيضي في أكلهم.
يُنظر إليّ على أنني نجسة طيلة أسبوع كامل في الشهر! إنه لأمر مخز.
والأدهى والأمرّ هو أنني لا أستطيع حتى القيام بصلواتي حينما أكون"غير
طاهرة". ولكن مهما تكن حالتي، لا أحد يستطيع أن يمنعني من التحدّث إليك يا
إلهي. فليذهبوا جميعا إلى الجحيم!
تُؤمر النساء بعدم إظهار زينتهنّ كي لا يفتن الرجال وهكذا تخطر على بال
الرجل أمورا مشينة وأنا المسؤولية التي يطلب منها أن تختبئ. إنّه لأمر
غريب! بأيّ حقّ أصبح أنا رهينة كائن لا يستطيع التحكّم في نفسه؟ على الرجل
أن يتهذّب وليس أنا التي ينبغي أن تختفي من على وجه الأرض."
الأحد أكتوبر 23, 2011 1:45 pm من طرف هذا الكتاب