نقدم
في ما يلي مساهمة ثالثة صدرت في الملفّ الذي نشرته صحيفة "لومند" بتاريخ
21 نوفمبر 2008 محوصلة به أعمال الملتقى الذي التأم بمدينة لومان الفرنسية
حول موضوع "من أين أتينا؟ عودات إلى الأصل" .المساهمة كانت لـ"إزابيل
توماس- فوجيال" Isabelle Thomas-Fogiel وهي أستاذة جامعية في الفلسفة
المعاصرة بجامعة باريس1 بانتيون-الصربون.
كيف نتجنّب قصّة البدايات، غير المحتملة
من المفيد أن نبلور طوبولوجيا للأصول، فيها تتجاور الفروق وعليها تتأسّس الهويات
تقترح علينا الفلسفة الراهنة نموذجين للأصل. فهي، إما تحجّر البحث عنه
أو إنها تظهر، على العكس من ذلك، انشغالا (مفرطا) به. يندّد النموذج
الأوّل بالإدعاء القائل بإمكانية الوصول إلى سبب أوّل، بحجة أن العلم لا
يقرّ بدايات، بل فقط، ترابطات بين وقائع وأحداث. ويعني صرف النظر عن هذا
المنع، أن نتراجع درجة بعد أخرى إلى حدّ السقوط في العدم، لأنه، لماذا
يوجد شيء، بدل من أن لا وجودَ لشيء ما؟ إذا كان الجواب بأنّ هناك إلها أو
طبيعة، فهذا يعني أننا نوقف هذا التراجع باستعمال سحر "كلمة/حقيبة" نتيجة
جهلنا بالأمر. هذا الرفض، الذي يأخذ منبعه لدى "كانط"، يغذّي العديد من
الفلسفات المعاصرة التي تحثّنا على التفكير في ما هو مؤسّس، مثل الكلام.
وفي المقابل نستطيع أن نلاحظ التضخّم الذي تأخذه كلمة (أصيلُ originaire)
في الظاهراتية (phénoménologie (. فـ"هايدغر" يعرّفها كجوهر ويكشف مثلا عن
الذي بدونه لا يمكن للفن أن يكون فنّا، بل شيئا آخر، شيئا من الطبيعة أو
غرضا من أغراض التقنية. لكنّ البحث عن المصدر الأصليّ يساوي هنا في أغلب
الأحيان، تعيين "أوّلٍ" زمنيّ أو مبدئيّ (مؤسس).
والأمر يبدو كذلك لـ"هايدغر"بخصوص اللغة الألمانية وأيضا لـ "مرلو
بونتي"، بخصوص ما يسمّى الفضاء الأصليّ الذي يُدرَك انطلاقا من الصورة لدى
البدائيّ، ومن رسوم الكهوف أو رسوم الأطفال. إن البحث عن الأصل يحملنا إلى
التفكير في "قبْلٍ" مثالي وفي التاريخ كاحتجاب أو استتار له. هذان
النموذجان يشكلان مصدرا لثلاث صعوبات: إقامة ممنوع من التفكير فيه باسم
العلم، من جهة، تعيين أصل انطلاقا من ماض يكون أكثر أصالة، من جهة أخرى
وبالتشارك بين الاثنين تنظيم الزمن حسب مستقبل مشرق وماض توافقيّ وسلميّ.
فهل لهذه الصعوبات أن تتفكّك وتنحلّ؟
في ما يخص الممنوع المعرفي، نستطيع إثبات أن الفلسفة تبقى عقلانية دون
نسخ مناهجها على مناهج العلم. والأمر كذلك مثلا في ما يتعلق بما يسميه
"بيتر بيتراوسون" أو "كارل أوتو أبيل" الحجة المتعالية، التي تبحث عن شروط
تحقق الأحداث التي – بدون هذه الشروط - تكون غير ممكنة وغير مفكر فيها.
ليست هذه الشروط حدثا أو سببا أو بدءا، بل هي ما هو( دائما مفترضٌ مسبقا).
والبحث عن " المفترض المسبق" يمكن أن يكون مسلكا كي نتدبّر أمر الأصل.
وعلى سبيل المثال، أمام معطيات علماء الآثار التي تلاحظ أنّ كلّ
المجتمعات الإنسانية تقيم طقوسا للموتى، أستطيع أن أتساءل بكلّ شرعية: ما
هو شرط هذا اللامتغير؟ أيُّ وَعْي يفترضه هذا الطقس؟ كيف ندرك الواقع
المُعاش لهذا الحدّ الغامض بين الحياة والموت والذي، في نفس الوقت، يرسم
ما بعد هذا الحدّ ذاته. أستطيع أن ألاحظ أيضا أنّ هذا الطقس هو قبل كلّ
شيء "فعل" وليس حدثا، أو طبيعة أو معطى بيولوجيّا. وُجِد هذا الفعل (مرّة)
ولكنه استمرّ في الوجود في شكل ابتداع متواصل للإنسانية لذاتها.
هذا الاعتبار يوفّر بعض العناصر لتجاوز الصعوبة الثانية. فليس الماضي
هو ما نستردّه (من مجد قديم)، بقدر ما هو ما نحييه وما نطوِّره من جديد.
هذا الفعل، المؤسّس للإنسانية، يمكن تصوّره كبدء دون إسقاط الحقّ عن
المستقبل.
لا يكون الأصل هنا طبيعة معطاة وسابقة لكلّ عهد وتاريخ، يتعين علينا
تعقب آثارها، بل أصلٌ مختارٌ ومطروحٌ علينا انجازه على الدوام. وبهذا
المقياس، ربما كان من الواجب أن نتناول من جديد، مع "بول ريكور" فكرة
الأصل كقصّة، إن لم نقل كبلورة خيالية تؤسسنا، طالما نحن نصنعها. عندما
ترفع هاتان الصعوبتان نكون قد رسمنا وسيلة للخروج من الصعوبة الثالثة. ذلك
أن كثيرا من الأفكار حول الأصل تجعل من الزمان (مثل الماضي الشاعريّ
والمستقبل الساطع) التمثّل الرمزيّ الوحيد الجاهز لدينا.
لكن، ألا يجدر بنا، و الحالة تلك، أن نتجاسر على بلورة تمثل مكانيّ
لمشاكلنا؟ على السؤال "من أين أتينا ؟"، لنقبل أن يكون الجواب: من أماكن
مختلفة، من ثقافات متنوعة، علينا أن ندركها من خلال الغيريّة التي تحملها
بالذات. غير أنّ هذه الـ"نحن" المكوّنة للأماكن الجمعية، لا تؤدّي إلى
مفهوم الأسبقية أو الأولية. فحقيقة أن نكون "جنبا إلى جنب" (وهو مفهوم
ينتمي إلى التمثّل المكانيّ) لا تنتج عنه أيّ فكرة أسبقية (مفهوم ينتمي
إلى التمثل الزماني). يمكن لنا إذن أن نقترح نوعا من طوبولوجيا الأصول،
تكون بقبولها تنوّع أماكن القدوم، قد أدمجت (في صلب مفهوم الأصل) فكرة
المجاورة.
يمكن تصور هذه المجاورة كفكرة ضفاف، أو كتقاطع أو تداخل بين تباينات،
وعن طريق هذا التداخل بالذات كمكوّن لهويات مستقبـِلة. هذا الرابط
الطوبولوجي يساعدنا على الخروج من خيار: إمّا "المستقبل الساطع" المتجاهل
أحيانا للتباينات أو "الماضي الأسطوريّ" الناكر غالبا (لوجود) هوية مشتركة.
إنّ إصباغ المكانيّة على الإشكال، المتمثّل في اقتراح طوبولوجيا
للأصول، يمكـّن من استشفاف إمكانية (إحداث) معابر لا تقام إلا بين ما هو
مُختلف، وضفاف لا توجد إلا بين ما هو متجاور، من دون أسبقية أو أولية،
وأماكن تتداخل في تناسق يجب إقراره على الدوام.