مرت محاكمة يسوع بمرحلتين، المرحلة الأولى في بيت رئيس الكهنة وكان الهدف منها جمع الشهادات ضد يسوع من أجل تقديمه إلى بيلاطس بتهمة التحريض السياسي ضد روما، والمرحلة الثانية في قصر بيلاطس الذي تولى بنفسه إجراءات المحاكمة.
إن كل ما وصل إلى يدي مما كتبه الباحثون المحدثون في العهد الجديد عن محاكمة يسوع، يركز على ما ورد في التقليد المرقسي ولا يعير اهتماماً لما ورد في إنجيل يوحنا. فيسوع قد اعترف أمام قضاته أخيراً بأنه المسيح وبأنه ابن الله، وملك اليهود، وحُكم عليه بالموت لما تثيره هذه الألقاب من تداعيات سياسية في ذلك الوقت. ولكن أجوبة يسوع على قضاته في التقليد المرقسي ليست على هذه الدرجة من المباشرة والوضوح.
في بيت رئيس الكهنة: "فذهبوا بيسوع إلى رئيس الكهنة. فاجتمع الأحبار والشيوخ والكتبة كلهم. وكان الأحبار والمجلس (=السنهدرين) كافة يطلبون شهادة على يسوع ليقتلوه فلم يجدوا. ذلك بأن أناساً كثيرين كانوا يشهدون عليه زوراً فلا تتفق شهاداتهم. فقام بعضهم وشهدوا عليه زوراً وقالوا: قد سمعناه يقول: سأنقض هذه الهيكل الذي صنعته الأيدي وأبني في ثلاثة أيام هيكلاً لم تصنعه الأيدي. وهذا أيضاً لم تتفق عليه شهاداتهم." (مرقس 14: 53-59. قارن مع متى 26: 57-61. أما لوقا فلم يورد في روايته مسألة الشهود هذه).
بعد ذلك يجري الحوار التالي بين يسوع وقضاته:
مرقس: "فقام رئيس الكهنة في وسط المجلس وسأل يسوع: أما تجيب بشيء؟ ما هذا الذي يشهد به هؤلاء عليك؟ فظل صامتاً ولم يجب بشيء. فسأله أيضاً رئيس الكهنة: أَأنتَ المسيح ابن المبارك؟ فقال يسوع: أنا هو. وسترون ابن الإنسان جالساً عن يمين قدرة الله وآتياً على غمام السماء. فشق رئيس الكهنة ثيابه وقال: ما حاجتنا بعدُ إلى شهود وقد سمعتم التجديف؟ ما رأيكم؟ فأجمعوا على الحكم بأنه يستوجب الموت. وأخذ بعضهم يبصقون عليه ويغطون وجهه ويلكمونه ويقولون له: تنبأ. وكان الحرس يلطمونه." (مرقس14: 53-65).
متى: "فقال رئيس الكهنة وقال له: ما هذا الذي يشهد به هذان عليك؟ فظل يسوع صامتاً. فقال له رئيس الكهنة: أستحلفك بالله الحي أن تقول لنا: أَأنتَ المسيح ابن الله؟ فأجاب يسوع: أنتَ قلت. وأنا أقول لكم: سترون ابن الإنسان جالساً عن يمين القدرة وآتياً على غمام السماء. فمزق رئيس الكهنة ثيابه وقال: لقد جدَّف فأي حاجة بنا إلى الشهود؟ ها قد سمعتم تجديفه. ماذا ترون؟ فأجابوا وقالوا: يستوجب الموت. فبصقوا في وجهه ولكموه، وآخرون لطموه قائلين: يا أيها المسيح تنبأ لنا من ضربك." (متى 26: 63-68).
لوقا: "وكان الذين يحرسون يسوع يسخرون منه ويضربونه ويغطون وجهه ويسألونه: من ضربك؟ وأوسعوه غير ذلك من الشتائم. ولما طلع الصبح اجتمع مجلس الشيوخ والأحبار والكتبة، فاستحضروه إلى مجلسهم وقالوا: إن كنتَ المسيح فقل لنا. فقال لهم: لو قلتُ لكم لا تصدقون، وإن سألتُ لا تجيبونني ولا تطلقونني. منذ الآن يكون ابن الإنسان جالساً عن يمين قوة الله. فقال الجميع: أَفأنتَ ابن الله؟ فقال لهم: أنتم تقولون إني أنا هو. فقالوا: ما حاجتنا بعد إلى شهادة وقد سمعنا ما نطق به لسانه؟" (لوقا 22: 63-71).
من قراءة هذه الروايات الثلاث نخرج بالملاحظات التالية:
1- في رواية مرقس ومتى يُساق يسوع إلى بيت رئيس الكهنة بعد منتصف ليلة وقفة عيد الفصح في الرابع عشر من نيسان. أما في رواية لوقا ففي صباح اليوم الأول من عيد الفصح في الخامس عشر من نيسان.
2- لم تكن الأعراف اليهودية تسمح بعقد المحاكمات ليلاً، ناهيك عن أن استجواب السنهدرين ليسوع قد حصل في يوم الفصح المقدس الذي ينطبق عليه ما ينطبق على يوم السبت من عدم القيام بأي عمل، ويُدعى أيضاً بالسبت أي يوم الراحة.
3- انعقد مجلس السنهدرين ليلاً وفي بيت رئيس الكهنة، وهذا مخالف لنظام السنهدرين الذي يجتمع نهاراً وفي مكان خاص في الهيكل بعد موافقة الوالي الروماني. ولا يكون اجتماعه قانونياً خارج هذه الشروط.
4- عندما وصل يسوع كان السنهدرين منعقداً بأعضائه البالغ عددهم نحو 70 عضواً. فكيف تسنى لرئيس الكهنة إيقاظ هؤلاء من نومهم وجلبهم إلى مقره خلال الفترة الفاصلة بين القبض على يسوع في البستان ووصوله إلى المقر؟ والرد هنا بأن المجلس قد أُعلم مسبقاً بالاجتماع قبل وقت كافٍ غير منطقي، لأن القبض على يسوع لم يكن مؤكداً وهروبه كان محتملاً.
5- في رواية مرقس ومتى لم يكن رئيس الكهمة المزمع على استجواب يسوع قد أعد شهوداً يشهدون ضد يسوع، وجيء بشهود عرضيين تضاربت شهاداتهم. وهذا شيء مُستغرب لأن قرار قتل يسوع قد اتُّخذ قبل القبض عليه بوقت كافٍ، وكان على الأحبار والشيوخ والكتبة تجهيز قضية مُحكمة قانونياً لتقديمها إلى بيلاطس، ولكن مثل هذا لم يحدث.
6- في جواب يسوع على سؤال "هل أنت المسيح ابن الله؟" يضع مرقس على لسانه قوله: "أنا هو. وسترون ابن الإنسان…إلخ". أما عند متى ولوقا فإن يسوع يتقدم بإجابة مخاتلة يمكن أن تُفهم بأكثر من طريقة عندما يقول: "أنت قلت" عند متى، أو "أنتم تقولون إني أنا هو" عند لوقا. فهل قصد يسوع من ذلك إلى القول: "أنت قلت ما هو صواب" أو "أنت قلت ذلك لا أنا"؟! إن الباحثين في العهد الجديد ما زالوا حتى الآن في خلاف حول مؤدى إجابة يسوع.
7- وحتى لو افترضنا جدلاً بأن يسوع قَبِلَ لقب ابن الله، فإن هذا لا يُعد كفراً أو تجديفاً بالنسبة إلى العقيدة التوراتية. فمسيح الرب هو ابن بالتبني للإله يهوه. نقرأ في سفر المزامير على لسان داود: "إني أُخبر من جعة قضاء الرب. قال لي: أنت ابني، أنا اليوم ولدتك." (المزمور 2: 7). ونقرأ في سفر صموئيل الثاني على لسان يهوه في وصف علاقته مع سليمان: "أنا أكون له أباً وهو يكون لي ابناً." (2صموئيل 7: 14).
فإذا كان يسوع هو المسيح فعلاً فإن ذلك يستدعي بالضرورة أن الرب قد جعله ابناً بالتبني. وإذا لم يكن هو المسيح فإنه ادعاء بنوته للرب هو ادعاء شخص فاقد الرشد يستحق الجلد والتأديب لا المحاكمة والصلب.
8- تَركَّز استجواب رئيس الكهنة ليسوع حول ادعائه للقب المسيح أو ابن الله، ولكنه لم يستجوبه عما إذا كان ينشط بدافع من هذا الادعاء ويدعو لنفسه كملك، أو عما إذا كان قد مارس التحريض ضد روما. والشهادة الوحيدة التي حصلوا عليها ضده وكانت شهادة ضعيفة وهي أنه قال: "سأنقض هذا الهيكل الذي صنعته الأيدي وأبني في ثلاثة أيام هيكلاً آخر لم تصنعه الأيدي". وقائل هذا الكلام إما أنه يستهزئ بعبادة الهيكل التي تقوم على تقريب الذبائح الحيوانية، ويدعو إلى عبادة الله بالروح، أو أنه شخص مختل يدَّعي ما لا طاقة لبشر عليه. وفي كلا الحالين فإنها مسألة لا تعني السلطة الرومانية بشيء. من هنا فإن المرء يعجب من رفع السنهدرين القضية إلى بيلاطس للفصل بها في ظل عدم وجود قضية من حيث الأساس.
يوحنا: في رواية يوحنا لا يقوم رئيس الكهنة باستجواب يسوع عما إذا كان المسيح أو ابن الله. وبالتالي لا يوجد ادعاء ليسوع بقبول هذين اللقبين أو نفيه لهما. وهذا ما يُكسب رواية يوحنا مصداقية أكثر من الرواية الإزائية. والنقطة الجوهرية في جواب يسوع هنا هي أنه كان يُعلّم علناً ولم يقم بأي نشاط سري:
"فسأل رئيس الكهنة يسوع عن تلاميذه وعن تعليمه. فأجابه يسوع: كلمت الناس علانية وعلّمت في المجمع وفي الهيكل حيث يجتمع اليهود، وفي الخفاء لم أتكلم بشيء. لماذا تسألني أنا؟ اسأل الذين سمعوني عما كلمتهم به فهم يعرفون ما قلت. ولما قال هذا لطمه واحد من الخدام كان بجانبه وقال له: أَهكذا تجاوب رئيس الكهنة؟ فأجابه يسوع: إن كنت قد أسأتُ في الكلام فقل لي أين الإساءة، وإن كنت قد أحسنتُ في الكلام فلماذا تضربني؟ فأرسل به حنان موثقاً إلى قيافا رئيس الكهنة. وذهبوا بيسوع من عند قيافا إلى دار الحاكم." (يوحنا 18: 19-28).
في هذه الرواية، وعلى عكس رواية التقليد المرقسي، فإن رئيس الكهنة لم يسأل يسوع عما إذا كان هو المسيح ابن الله، ويسوع من ناحيته لم ينطق بالتصريح المجلجل: "أنا هو" أو بالتصريح الغامض: "أنت قلت" أو "أنتم تقولون إني أنا هو". وهذا يعني أن تهمة ادعاء يسوع المسيحانية لم تكن النقطة المحورية في الاستجواب المبدئي. لقد كان رئيس الكهنة مهتماً بمعرفة طبيعة تعاليم يسوع، وعندما سأله عن تلاميذه كان مهتماً بمعرفة مدى انتشار دعوة يسوع وعدد الذين آمنوا به أو تبعوه. وعلى عكس التقليد المرقسي أيضاً فإن رئيس الكهنة لم يحشد الشهود ضد يسوع من أجل ترتيب قضية يرفعها إلى الوالي الروماني لإدانة يسوع بتهمة التحريض ضد روما. فلماذا رُفعت هذه القضية إلى بيلاطس؟
في قصر بيلاطس: إن ما جرى في قصر بيلاطس هو أكثر غموضاً مما جرى في بيت رئيس الكهنة. فالشهادات الإزائية هنا تناقض بعضها البعض مثلما تناقض شهادة يوحنا.
مرقس: "وما أن أسفر الصبح حتى اجتمع للشورى الأحبار والشيوخ والكتبة والمجلس كله، ثم أوثقوا يسوع وساقوه وأسلموه إلى بيلاطس. فسأله بيلاطس: أَأنتَ ملك اليهود؟ فأجابه: أنت تقول. وكان الأحبار يتهمونه اتهامات كثيرة، فسأله بيلاطس ثانية: أما تجيب بشيء؟ اُنظر كم يشهدون عليك. فلم يجب يسوع بشيء حتى تعجب بيلاطس. وكان يطلق لهم في كل عيد سجيناً، أيّ واحد طلبوا. وكان المسمى براباس مسجوناً مع رفقائه الذين اجترموا القتل في فتنة. فصعد الجمع وأخذوا يطلبون ما تعودوا أن يمنحهم. فأجابهم بيلاطس: أَتريدون أن أُطلق لكم ملك اليهود؟ لأنه كان يعلم أن الأحبار كانوا قد أسلموه حسداً. فأثار الأحبار الجمع لكي يختاروا إطلاق براباس. فخاطبهم بيلاطس ثانية وقال لهم: وأي شر عمل؟ فازدادوا صراخاً: اُصلبه. وأراد بيلاطس أن يرضي الجميع فأطلق لهم براباس. وبعدما جلد يسوع أسلمه للصلب." (مرقس 15: 1-15).
لا يخبرنا نص مرقس هذا عن الاتهامات الكثير التي وجهها الأحبار إلى يسوع أمام بيلاطس، ولكن يبدو أنها تركزت حول نقطة هامة واحدة وهي ادعاء يسوع بأنه ملك اليهود. وهنا نجد أن الأحبار قد خاطبوا بيلاطس بما يفهمه كروماني لا يعرف شيئاً عن مصطلحات الدين اليهودي، فقالوا "ملك اليهود" عوضاً عن "المسيح" أو "ابن الله". وعندما سأله بيلاطس: "أأنت ملك اليهود؟" وأجابه يسوع: "أنت تقول ذلك"، فهم بيلاطس هذا الجواب على حقيقته، أي: "أنت تقول ذلك لا أنا". ولذلك لم يجد في المتهم علة، وقال للطالبين صلبه: "وأي شرٍّ عمل؟". ولو أنه فهم من إجابة يسوع ادعاءه الفعلي لملوكية اليهود لسارت المحكمة في اتجاه مختلف تماماً، ولَمَّا أعلن بيلاطس عن قناعته ببراءة يسوع. وفي جميع الأحوال فإن ادعاء أي شخص بأنه ملك شيء، والعمل بموجب الادعاء شيء آخر. ومتهمو يسوع لم يقدموا لبيلاطس من البينات ما يدل على قيام يسوع بالدعاية لنفسه كملك أو بالتحريض السياسي ضد السلطة المدنية أو السلطة الرومانية، فحاول أن يجد له مخرجاً بجعله السجين الذي يطلقه للهيود كل عام في عيد الفصح.
وهناك نقطة إجرائية مهمة لم تُراعَ في هذه المحاكمة، وهي أن يسوع لم يكن خاضعاً لسلطة بيلاطس ولا للسلطة المدنية في مقاطعة اليهودية، وإنما لسلطة هيرود أنتيباس ملك الجليل باعتباره مواطناً جليلياً، ولهيرود وإدارته المدنية فقط الحق في محاكمته. وهذا ما يجعل محاكمة يسوع باطلة من الناحية الإجرائية. وقد انتبه لوقا وحده إلى هذا الخلل الإجرائي، فأشرك هيرود في محاكمة يسوع ولكنه جعل محكمة بيلاطس في النهاية مسؤولة عن إصدار هذا الحكم الباطل.
متى: يقتفي متى إثر لوقا في جميع تفاصيل روايته، ولكنه يضيف إليها عنصرين؛ الأول تدخّل زوجة بيلاطس لصالح يسوع: "وبينما هو جالس للقضاء أرسلت إليه امرأته تقول: لا تتدخل في قضية هذا البار لأني تألمت أشد الألم من أجله في الحلم.". والثاني قيام بيلاطس بغسل يديه أمام الجميع كناية عن براءته من دم يسوع: "قال لهم: وأي شر عمل؟ فكانوا يزدادون صراخاً قائلين: ليصلب. فلما رأى بيلاطس أنه لم يستفد شيئاً بل تفاقم الشغب، أخذ ماءً وغسل يديه قدام الجميع قائلاً: إني بريء من دم هذا البار. أنتم وشأنكم فيه. فأجاب الشعب بأجمعه: دمه علينا وعلى أولادنا."
ولو أن جملة "دمه علينا وعلى أولادنا" وردت في إنجيل يوحنا، لقلنا مع الباحثين اليهود بأنها تنسجم مع الكراهية التي يعلنها مؤلف إنجيل يوحنا لليهود، ولكن ورودها عند متى الذي يُعتبر الأكثر عبرانيةً بين الإنجيليين، هو دلالة على أصالتها.
ويقول الباحثون اليهود في العهد الجديد إن مؤلفي الأناجيل، لاسيما متى، قد بالغوا في إظهار بيلاطس بمظهر البريء من دم يسوع وحمّلوا اليهود وحدهم مسؤولية إعدام يسوع، ممالأة لروما بعد الحروب اليهودية التي دمر فيها الرومان أورشليم وقتلوا مئات الآلاف من أهل مقاطعتها عام 70م. ولكن المسيحيين كانوا زمن تدوين الأناجيل، أي فيما بين عام 70 وعام 110م، عبارة عن جماعات سرية مضطهدة من قبل السلطات الرومانية، وبقوا على هذه الحال لأكثر من قرنين قادمين. وبالتالي لم يكن لديهم سبب لممالأة روما، وإنما العكس هو الصحيح. ولا أدل على ذلك من أن سفر الرؤيا في العهد الجديد قد أشار إلى روما تحت لقب بابل الكبرى، وأم بغايا الدنيا وأدناسها، وتنبأ بخرابها كمقدمة لحلول مملكة الرب (سفر الرؤيا: 16-18). وهناك اتجاه في البحث الحديث في تاريخ المسيحية، يقول بأن المسيحيين في روما لم يُتهموا باطلاً من قبل نيرون بتسبيب الحريق الهائل الذي التهم معظم أجزاء المدينة، وإنما فعلوا ذلك بدافع ما ورد في سفر الرؤيا، واعتقادهم بأن زوال مدينة روما هو مقدمة لانتصار البشارة.
لوقا: "ثم قام الحضور بأجمعهم فمضوا به إلى بيلاطس، وأخذوا يتهمونه قائلين: إننا وجدنا هذا يفسد الأمة ويمنع أن تعطى الجزية لقيصر، ويزعم أنه المسيح الملك. فسأله بيلاطس: أأنت ملك اليهود؟ فأجاب: أنت تقول ذلك. فقال بيلاطس للأحبار والجموع: إني لا أجد علة في هذا الرجل. فكانوا يشددون قائلين: إنه يثير الشعب وهو يُعلّم في كل اليهودية من الجليل إلى هنا. فلما سمع بيلاطس ذكر الجليل سأل: هل الرجل جليلي؟ فلما عرف أنه من ولاية هيرودوس بعث به إليه وهو يومئذ نازل في أورشليم.
"فلما رأى هيرودوس يسوع فرح جداً لأنه كان يريد من زمن بعيد أن يراه لما سمع عنه، ويرجو أن يرى آية يأتي بها. فسأله عن مسائل عديدة فلم يجبه عن شيء. ووقف الأحبار والكتبة يشتكون عليه باشتداد. فازدراه هيرودوس مع عسكره وسخر منه فألبسه ثوباً براقاً وردّه إلى بيلاطس. فصار هيرودوس وبيلاطس صديقين في ذلك اليوم وكانا قبلاً متعاديين.
"فدعا بيلاطس الأحبار والعظماء والشعب وقال لهم: قد قدمتم إليّ هذا الرجل على أنه يُفسد الشعب. وها أنا قد فحصت عن الأمر قدامكم ولم أجد في هذا علة مما تشتكون به عليه، ولا هيرودوس أيضاً لأني أرسلتكم إليه. فهو إذن لم يقترف ما يستوجب الموت. فسأطلقه بعدما أجلده. وكان لا بد من أن يطلق لهم في كل عيد رجلاً. فصاحوا بأجمعهم: اقتل هذا واطلق لنا براباس. وكان ذاك قد وُضع في السجن لفتنة حدثت في المدينة وقتل، فناداهم أيضاً وهو يريد أن يطلق يسوع، فصرخوا قائلين: اُصلبه، اُصلبه. فقال لهم ثالثة: فأي شرٍّ عمل؟ إني لم أجد عليه ما يستحق الموت. فسأطلقه بعدما أجلده. فألحّوا عليه بأعلى أصواتهم طالبين أن يُصلب واشتد ضجيجهم. فقضى بيلاطس بإجابة طلبهم، فأطلق لهم الذي وُضع في السجن لأجل فتنة وقتل، ذلك الذي طلبوه، وأسلم يسوع لمشيئتهم." (لوقا 23: 1-24).
يقتفي لوقا هنا إثر رواية مرقس بحذافيرها، ولكنه انتبه إلى ما لم ينتبه له مرقس ومتى من لا شرعية محاكمة بيلاطس ليسوع باعتباره مواطناً جليلياً، فجعل بيلاطس يحيل يسوع إلى ملك الجليل هيرود أنتيباس الذي كان في أورشليم للمشاركة بعيد الفصح. لقد كان هيرود يعرف كل شيء عن يسوع وتعاليمه من خلال التقارير التي كانت تُرفع إليه عن نشاطاته. وقد فكر مرة باعتقاله واستجوابه (لوقا 13: 31-32) لِما رآه من تجمع الناس حوله وتداولهم لمعجزاته، ولكنه لم يفعل بعد أن تأكد من أنه لا يشكل خطراً على سلطته. من هنا لم يكن لدى هيرود ما يستجوب يسوع عنه، بل كان تواقاً لرؤية بعض معجزاته التي سمع عنها. ولكن يسوع رفض التحدث إليه. وعلى الرغم من أن متهمي يسوع قد رافقوه إلى مقر هيرود وكرروا شكاياتهم عليه، إلا أنه لم يستجوبه بشكل فعلي وردّه إلى بيلاطس معتقداً ببراءته من التهم وبأنه مجرد صاحب أوهام وخيالات يستوجب السخرية والهزء أكثر مما يستوجب الإدانة والعقاب.
يوحنا: في قصر بيلاطس كما في بيت رئيس الكهنة، لم يُسأل يسوع عما إذا كان المسيح أو ابن الله. أما بخصوص ادعاء الملوكية فقد لخص يسوع في جوابه الشهير: "ليست مملكتي من هذا العالم" طبيعة رسالته البعيدة عن الهمّ السياسي والقومي لليهود:
"فخرج إليهم بيلاطس وقال: بماذا تتهمون هذا الرجل؟ فأجابوه: لو لم يكن مجرماً لما أسلمناه إليك. فقال لهم بيلاطس: خذوه أنتم فحاكموه كما تقضي شريعتكم. فأجابه اليهود: لا يحق لنا أن نقتل أحداً، فعاد بيلاطس إلى دار الولاية ثم دعا يسوع وقال له: أأنت ملك اليهود؟ أجاب يسوع: أتقول هذا من عندك أم قاله لك آخرون؟ فقال بيلاطس: أفأنا يهودي؟ إن أمّتك والأحبار أسلموك إليّ، فماذا فعلت؟ أجاب يسوع: ليست مملكتي من هذا العالم. ولو كانت مملكتي من هذا العالم لدافع عني رجالي لكي لا أُسلم إلى اليهود. ولكن مملكتي ليست من ههنا. فقال له بيلاطس: أفأنت ملك إذن؟ أجاب يسوع: أنت تقول إني ملك. لهذا ولدتُ وأتيتُ إلى العالم لأشهد للحق، فمن كان من أبناء الحق يصغي إلى صوتي. فقال له بيلاطس: ما هو الحق؟ وبعدما قال ذلك خرج ثانياً إلى اليهود وقال لهم: لم أجد سبباً لتجريمه. وقد جرت العادة عندكم أن أطلق لكم سجيناً في الفصح. أتريدون أن أطلق لكم ملك اليهود؟ فعادوا إلى الصياح: لا تطلق هذا بل براباس. وكان براباس لصاً.
"فأمر بيلاطس بأن يؤخذ يسوع ويُجلد. ثم ضفر الجنود إكليلاً من الشوك ووضعوه على رأسه، وألبسوه رداءً أرجوانياً وأخذوا يدنون فيقولون وهم يلطمونه: السلام يا ملك اليهود. ثم خرج بيلاطس وقال لهم: سأُخرجه إليكم لتعلموا أني لم أجد سبباً لتجريمه. فخرج يسوع وعليه إكليل الشوك والرداء الأرجواني. فقال لهم بيلاطس: خذوه أنتم فاصلبوه فإني لم أجد سبباً لتجريمه. فأجابه اليهود: إن لنا شريعة وهذه الشريعة تقضي عليه بالموت لزعمه أنه ابن الله. فلما سمع بيلاطس هذا الكلام اشتد خوفه، فدخل دار الولاية وقال ليسوع: من أين أنت؟ فلم يجب يسوع بشيء. فقال له بيلاطس: ألا تكلمني؟ أفلست تعلم أن لي سلطاناً أن أطلقك وسلطاناً أن أصلبك؟ فأجابه يسوع: لم يكن لك عليّ سلطان البتة إذا لم تكن قد أُعطيتَ من فوق. فالذي أسلمني إليك له خطيّة أعظم من خطيّتك. فحاول بيلاطس عندئذ أن يخلي سبيله، ولكن اليهود صاحوا: إن أخليت سبيله فلستَ محباً لقيصر لأن من يدّعى المُلك يُعد خارجاً على قيصر. فلما سمع بيلاطس هذا الكلام أمر بإخراج يسوع وجلس على كرسي القضاء في موضع يُقال له البلاط وبالعبرانية جباثة. وكان ذلك اليوم يوم تهيئة للفصح والساعة نحو السادسة (=الثانية عشر ظهراً). فقال لليهود: هوذا ملككم. فصاحوا: اُقتله، اُصلبه. قال لهم بيلاطس: أأصلب ملككم؟ فأجاب الأحبار: لا ملك علينا إلا قيصر. فأسلمه إليهم ليُصلب" (يوحنا18: 28-40 و19: 1-16).
في هذه الرواية، وأكثر من الروايات الثلاث السابقة، تبدو قضية يسوع بلا أساس يستند إليه بيلاطس في إدانة يسوع. ولم يكن استخدام بيلاطس لقب ملك اليهود في الإشارة إلى يسوع عندما قال: "أتريدون أن أطلق لكم ملك اليهود؟" أو "هوذا ملككم" إلا من قبيل السخرية المرة من المسألة برمَّتِها. فلماذا رضخ لضغط اليهود؟ إن كل الظروف المحيطة ببيلاطس في تلك الفترة كانت تدعوه لعدم إصدار حكم الإعدام في حق بريء. فلقد اشتكى عليه اليهود أمام المفوض الروماني العام في دمشق بعد المجزرة التي قام بها ضد المحتجين على استيلائه على جزء من أموال الهيكل وصرفها على جر مياه الشرب إلى أورشليم. كما اشتكى عليه السامريون بسبب مجرزة مماثلة، ورُفعت هذه الشكاوى إلى القيصر الذي كان يفكر بعزله من منصبه بسبب سوء استخدام السلطة والإفراط في العنف، وبالتالي فإن بيلاطس لم يكن ينقصه شكوى أخرى بإعدام بريء تُضاف إلى تلك الشكاوى. ومن الملفت للنظر أنه في نهاية عام 36م (أي بعد عام على إعدام يسوع) استُدعي بيلاطس إلى روما لاستجوابه بشأن التهم الموجهة إليه ولم يعد إلى فلسطين بعد ذلك. وفي عيد الفصح من عام 37م تم عزل رئيس الكهنة قيافا من منصبه. فهل كان لإعدام يسوع علاقة بذلك؟