لا
شك أنّ مجتمعا كسولاً، منكمشاً، وبلا محفّزات فكرية قوية، مجتمعاً مقيّداً
داخل إطارات اجتماعية ضيّقة ومؤسّسات حكومية بالية، مجتمعاً بلا نقابات
فعالة ولا هيئات مدنية مراقبة، يصبح مادّة ضخمة لمعرفة مجهولة وتشكٍّ
عقيم، يصبح موضوعاً ذا قوام غفْل، فالإفراط في البطالة والكسل والشكوى
العليلة، والاعتياد على نوع من التنظيم الاجتماعي الأجوف يشكّلان تزايدا
كمّياً ضارّا ومبالغاً في البعد عن مجريات الحياة والتفكّك الأسريّ،
والتجهيل العامّ. يضاعف الكسلُ من الجهل، والجهل من الخواء، وتقوى وتزيد
الروح الخنوعة، والمتآلفة مع بُنى اجتماعية ثبت خواؤها ولما تبدل بغيرها،
من مسافة النأي وضآلة الفعالية الاجتماعية.
غياب النقابات، غياب القدرة والحيويّة لدى النّخبة المجتمعية العاملة
والكتل المهنية، من معلّمين ومهندسين وأطبّاء ومحامين وغيرهم.. يحيا الفرد
بلا نقابة ولا تنظيم مدنيّ حديث، داخل جسده كما لو أنه يسكن حبيس جزيرة
منعزلة. المجهول لا يتكلّم ولا يفصح ولا يحضر، إنه يبتعد ويغترب ويشيخ.
كلّ مجهول بلا فم، وكلّ بعيد بلا ضوء. الكسول أيضاً لا يتكلّم، وإن تكلّم
كرّر ما لا يعرف، أي كرّس جهله بنفسه وإجهاله لغيره. بتنظيم جحيميّ تمّ
إفقاره وإرهابه لعقود طويلة، التنظيم الذي تنشئه الدول القمعية ملحقة
النقابات بأجهزتها المخابراتية القمعية. إنّه مجتمع - فرد مجهول ونكرة
ومستغَلّ في آن. ثمّة ما يشبه استثماراً للجهل بالعودة العمياء إلى الفكر
الغيبيّ. لم يعد محلّ معرفة لأنه فقد إمكانية جدارة الحضور والفعل. إنه لا
يحضر ليس لأنه غير موجود بل لأنه لم يعد يعرف. لكن كيف لنا الجزم بحطه في
الجهل، بعدم قدرتنا على تحليل ما هو مجهول فيه؟ نحن لا نعرف من لا يتكلّم،
من لا يترجم صمته إلى كلام، ومن في الآن ذاته وهو يتكلّم يشكّ في مدى صواب
كلامه. نحن لا نعرف من لا ينحت حضوره عبر كلامه. فأن تتكلّم هو أن ترى حتى
ولو كنت غائباً وأن تحضر هو أن تثبت في الحضور الذي هو تبيان لك على ما
أنت فيه، على ما تمضي إليه وأنت تعبّر وتتكلّم. عندما تعجز عن التعبير
تسقط في وحل جهلك بك. هنا، في التخبّط بين الوحل، ينقذك المطلق الذي
يتكلّم على كلّ فم ويملأ كلّ لسان. لكن كلّ فم ليس فمك على كلّ حال، وأيّ
لسان ليس لسانك. المطلق الكلاميّ قتلٌ للتكلّم الفرديّ. والجهل العامّ
تسويق لمعرفة عامّة مزيّفة. هكذا يشبه الجهل المعرفة، والعمل الكسل. جهلك
بك سبب أكيد لجهل الآخر لك.
كيف لا يمكنك التعبير عن نفسك؟ ما الذي أوصل نفسك أن تفقد قدرتها على
التعبير؟ ألأنّك لم تكتسبه أصلاً فغدا فقدانك التعبير كفقدانك للاشيء!
يأتي الفقدان من عدم استعمال ملكة ما أو إهمالها أو نسيانها. نسيان كلمة
يشبه قتلها. أن تفقد هو أن تكون فيما مضى قد امتلكت أو اكتسبت. المكتسب
والمملوك قدرة وقوّة. حينما لا تستعمل هذه القدرة ولا تستغلّ قوّتها أو
تنساها أو تهملها، تلجأ القوّة ذاتها بما هي قوّة وطاقة إلى إنكارك
وإجهالها لك. حينها فجأة – تحت ضغط قوّة الفقد وشراسة الحرمان – تدرك أنك
فقدت وما عاد ممكناً لك العودة لامتلاك ما فقدت. ذلك أنّ القوّة المفقودة
لما كان ملكاً ومكتسباً تنحرف إلى قوّة مضادّة لما تريد أن تتملّكه من
جديد. إنها تنزع نفسها من جوهرها، وتثبت قواها على ما يحطمها بدل أن
ينميها، حينها تتنازع النفس وتصارع داخلها عقيمة دون جدوى. يتحوّل المجتمع
إلى مادّة مجهولة ليس من قبل الدّارس أو المحلّل بل من قبل المجتمع نفسه.
كلّ ما يصدر عن جهل لا يبنى عليه علم، وما لا علم به لا بناء عليه، ولا
هدم. وإذا ما حدث للمجتمع المجهول من قبله أن يتكلّم لن يجد ما يعرف حتى
يحوّله إلى طاقة كلام وقوّة تعبير. إتاحة الفرصة لمجتمع كهذا بامتلاك
الكلام وتصديره يحوّله إلى كلام غيبيّ، أو بتأويل قول فريد لباروخ
سبينوزا: "مشيئة الله مأوى الجهل". هنا يستثمر دعاة الغيب جهل المجتمع
لنفسه. تنبع جدوى الأشياء من بهائها، من قوّتها على الحضور، ولا حضور لما
لا يتكلّم، ولا فعل لمن لا يوجد داخل كلامه كفكر حيّ، كقوّة معرفة أصلية
وطاقة خلق تتجاوز الشكوى إلى الإبداع، والسخف إلى ابتكار ثريّ، والفقر
القاحل إلى غِنى مرفرف.