الأنثروبولوجيا في المجتمع الحديثم. بوطقوقة مقــدّمة انتقل الفكر الأنثروبولوجي مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين، في الدراسات الثقافية / الاجتماعية، من البحوث التاريخية والتطوّرية، إلى البحوث الميدانية، حيث تتمّ دراسة الثقافة كما هي في واقعها الراهن أثناء فترة الدراسة.
يقول / بريتشارد / إنّ أحب موضوعين للبحث كانا : موضوع العائلة وموضع الدين، وعلماء القرن التاسع عشر، لم يملّوا أبداً من الكتابة في هذين الموضوعين، وقد وصلوا فيهما إلى نتائج كانت محلّ نقاش بينهم لفترة طويلة. ولكن على الرغم من اختلاف هؤلاء العلماء اختلافاً شديداً، على ما يمكن استخلاصه من وقائع وبينات كانت تحت أيديهم، فقد كانوا يتّفقون على الأهداف التي يرمون إليها، وهي إثبات التطوّر. (وصفي، 1981، ص 29 )
فقد كانت المشكلات التي درسها علماء الأنثروبولوجيا، حتى وقت قريب، بعيدة عن مجالات الحياة اليومية، وكان من الصعب التوفيق بين المشكلات النظرية حول تطوّر الثقافة أو الانتشار الثقافي أو وصف الطرائق الثقافية، وبين مشكلات الصراع والتلاؤم التي كانت تجذب الانتباه، سواء داخل الثقافات الآخذة بالنمو، أو في مناطق الاحتكاك بين الثقافات .
فرغبة علماء الأنثروبولوجيا في دراسة أنماط حياة ،( غير مصابة بالعدوى) وما ينجم عنها من نسيان مظاهر التغيير الثقافي، كانت تضفي على أعمالهم صفة تختلف عن صفة الأبحاث المخبرية في العلوم الصحيحة والعلوم الطبيعيّة .( هرسكوفيتز، 1974، ص 305)
ولذلك انتقلت الأنثروبولوجيا إلى موضوع جديد يتعلّق بما يسمّى ب (الدراسة المتزامنة لمكوّنات الثقافة وعناصرها الأساسيّة والعلاقات المتبادلة فيما بينها ). وبرزت نتيجة ذلك النظريتان التاليتان في دراسة الثقافة الإنسانية: نظرية الاتّصال الثقافي، والنظرية التطوّرية الجديدة .
أولاً-نظرية الاتصال الثقافي (التثاقف والمثاقفة) : احتلّت مسألة تعريف كلمة التثاقف (المثاقفة )، وتحديد نطاق العمل الذي تنطبق عليه، مكان الصدارة منذ عام 1935، حيث قدّمت لجنة ” مجلس البحث الاجتماعي” تعريفاً لها كجزء من مذكرة أعدتها لتكون دليلاً في البحث عن التثاقف. وينصّ التعريف على أنّ : ” التثاقف يشمل الظواهر التي تنجم عن الاحتكاك المباشر والمستمرّ، بين جماعتين من الأفراد مختلفتين في الثقافة، مع ما تجرّه هذه الظواهر من تغيّرات في نماذج الثقافة الأصلية، لدى إحدى المجموعتين أو كلتيهما “. (هرسكوفيتز، 1974، ص 221)
وهذا التعريف يعني أنّ التثاقف (المثاقفة) هو تأثّر الثقافات بعضها ببعض، نتيجة الاتّصال بين الشعوب والمجتمعات، مهما كانت طبيعة هذا الاتّصال وأهدافه، وإن كانت معظم دراسات الاتصال الثقافي ركّزت بالدرجة الأولى، على نوع معيّن من عمليات التغيير، وهو التغيير الاجتماعي أو تغيير الحياة الاجتماعية، وانعكاس ذلك التغيير على الثقافة .
وثمةّ مفهوم آخر مرادف لكلمة (المثاقفة) وهو (المناقلة الثقافية Transculturation) الذي ظهر للمرّة الأولى في عام 1940. ويعلّل الباحث الكوبي / أورتيزOrtiz / استعمال هذا المفهوم بقوله : ” إنّني أؤيّد الرأي بأن كلمة المناقلة الثقافية، تعبّر بشكل أفضل من مراحل سياق الانتقال المختلفة، من ثقافة إلى ثقافة أخرى. لأنّ هذا السياق لا يشتمل فقط على اكتساب ثقافة أخرى، بل يتضمّن أيضاً بالضرورة، فقدان مقدار ما من ثقافة سابقة، أي الانتزاع منها. وهو ما يمكن تعريفه
بالتجريد الثقافي Deculturation) أضف إلى ذلك، أنّه يقود بالتالي إلى فكرة ظاهرة نشأة ثقافة جديدة، وهو ما يمكن تسميته ” التثقيف الجديد ” .( هرسكوفيتز، ص227)
وأيّا كان المفهوم (المثاقفة أو الانتقال الثقافي )، فقد مهّد لدراسة الأنثروبولوجيا وفق هذا الاتّجاه عدد من الباحثين في أمريكا وأوروبا، أسهموا إلى حدّ بعيد في وضع أسس الأنثروبولوجيا الحديثة .
1- في أمريكا : تعدّ الباحثة الأمريكية / ماغريت ميد / الرائدة الأولى في تبنّي الاتجاه التواصلي (التثاقفي) في دراسة التغيير الاجتماعي / الثقافي. فقد أجرت / ميد/ في أوائل الثلاثينات من القرن العشرين دراسة على مجتمع من الهنود الحمر في أمريكا، ومدى تأثّره بالمستعمرين البيض، من خلال احتكاكه بهم، ولاحظت الاضطرابات التي حصلت في الحياة الاجتماعية التقليدية عند الهنود الحمر نتيجة لذلك. فقد كان مجتمع الهنود الحمر في فترة الدراسة، يعيش حالة من الصراع الشديد، بين الأخذ بالثقافة الجديدة الوافدة، وبن الثقافة القديمة التي اعتاد عليها، ولا سيّما أنّه لم يكن قد تكيّف بعد مع الأوضاع الجديدة.
وفي المقابل، وجدت / ميد / أيضاً، أنّ المستعمرين البيض لم يهدفوا إلى التبادل (التفاعل) بين الثقافتين، وإنّما أرادوا للهنود الحمر أن يندمجوا في ثقافتهم بصورة كاملة. وعلى الرغم من موقف البيض هذا، فلم يسمحوا للهنود الحمر أن يشاركوا في أنشطتهم، أو أن يتعاملوا وإياهم على قدم المساواة .(Freidle, 1977, p.491)
وقد تمّ اللجوء إلى الطرق المقرّرة التي استطاع علماء الأنثروبولوجيا بوساطتها، النفاذ إلى العناصر الثقافية الكامنة تحت الأشكال الثقافية، لكي تزوّدهم بأساس لتقريب السياسة التي ستضع إدارة شؤون الهنود في أيدي الهنود أنفسهم. وعهد للمكتب الخاص بالهنود، إلى علماء الأنثروبولوجيا المحترفين الذين قاموا بتغطية الدراسات الاقتصادية والسياسية، التي يهتمّ بها الحاكم بالدرجة الأولى، وميادين الدين والفن والقيم، وبنيان الشخصيّة ونظم التربية، وأنماط الضبط الاجتماعي الأخرى. (هرسكوفيتز، 1974، ص 307)
وبهذا، لم يعد تطبيق مكتشفات علم الأنثروبولوجيا في أمريكا، مقتصراً على استخدام المفهومات والأساليب ووجهات النظر الأنثروبولوجية، في معالجة المشكلة الهندية فحسب، بل امتّدت طرائق دراسة القضايا العملية لتشمل مشكلات الجماعات المتمدّنة أيضاً، والتي أصبحت تمثّل غالبية سكان أمريكا .
2
-في أوروبا : ففي إنكلترا، ركّز معظم الباحثين جلّ اهتماماتهم على دراسة عمليات التواصل الثقافي (التثاقف) عند الشعوب الأفريقية، وما أحدثه من تغيير ثقافي. وفي هذا الإطار، دعمت دراسات / هرسكو فيتز/ فكرة النسبية الثقافية، حيث تساءل : كيف يمكن أن نطلق أحكاماً تقييميّة على الثقافة البدائية، تلك الثقافة التي لا تعرف الكتابة؟ وأنّ كل فرد ينتمي إلى هذه الثقافة، يفسّر الحياة الإنسانية في حدود ثقافته الخاصة؟
ولذلك، فمن الخطأ أن تسعى الثقافة الغربية (الأمريكية أو الأوروبية) لإطلاق أحكام مسبقة على الثقافات الأخرى، وتتّخذ من هذه الأحكام مبرّراً أساسيّاً للممارسات الاستعمارية، على أهل تلك الثقافات. (فهيم، 1986، ص 149)
وكذلك الحال في فرنسا، حيث اتّخذ العديد من الباحثين الفرنسيين مواقف مشابهة لموقف / هرسكوفتز / في دعم تبنّي مفهوم النسبية الثقافية ومناهضة النزعة الاستعمارية، التي تنظر إلى التثاقف على أنّه عملية تقوم على أساس من السيطرة، ورفضوا بالتالي الفوارق التثاقفية والاستعلاء الغربي على الشعوب الأخرى .
وفي هذا الاتّجاه الفرنسي التحرّري، كتب / جيرار لكلرك / : إنّ الاستعمار قد أتاح للأنثروبولوجيا شروط عمل وتسهيلات لم تتح للباحثين من قبل، وبذلك أسهم التقدّم الحاصل في العلوم الإنسانية في نشر فكرة تجدّد العلوم الإنسانية الفرنسية. فالإنسانية لم تعد مميّزة بتبعيتها للزمان، بل بتنوّعها المكاني على مرّ الزمن، وبتعدد المدنيات التي لا يحقّ لواحدة منها أن تكون الوحيدة أو الفريدة. ولذلك، يجب أن نتناول حالة الثقافة النسبية، تلك المدرسة التي تعتبر نفسها بالأساس، محصّلة طبيعيّة لنتائج علم الأنثروبولوجيا .( فهيم، 1986، ص 157)
وإذا كان مفهوم النسبية الثقافية عكس اتجاهاً أيديولوجياً خاصاً، وارتبط بمرحلة تاريخية معيّنة، فإن الظروف التي رافقته، تغيّرت بعد الحرب العالمية الثانية، حيث بدأت الشعوب في المجتمعات المستعمَرة تنال استقلالها وتقرّر مصيرها بنفسها، ولم تعد بحاجة إلى دفاع الأنثروبولوجيين للدفاع عنها وإثبات وجودها في إطار النسبية الثقافية.
ولذلك، كان من الضروري إيجاد فكر انثروبولوجي جديد ينسجم مع هذه المستجدّات الاجتماعية والسياسية والثقافية. فكان أن تخلّى عدد من الأنثروبولوجيين عن النسبية الثقافية، واتّجهوا مرّة أخرى إلى إحياء الفكرة التطوّرية، تحت اسم (النظرية التطوّرية الجديدة) .
ثانياً-النظرية التطوّرية الجديدة : ظهر في نهاية النصف الأول وبداية النصف الثاني من القرن العشرين، عدد من الأنثروبولوجيين الذين بدأوا يضعون نظرية خاصة لدراسة المجتمعات الإنسانية ومراحل تطوّرها، وموقع التغيير الثقافي في ذلك. وكان من أبرز هؤلاء، عالم الآثار الإنكليزي (جوردن تشايلد )، والأميريكيان : (جوليان ستيوارد) و (ليزلي هوايت) الذي دعا إلى عدم استخدام النظم الأوروبية كأساس لقياس التطوّر، وضرورة إيجاد محكّات أخرى يمكن قياسها وتقليل الأحكام التقديرية بشأنها .
فقد أكّد / هوايت / في كتابه ” علم الثقافة ” المنشور عام 1949، أنّ من المهمّ ألاّ تقتصر النظرية التطوريّة على تحديد مراحل معيّنة لتسلسل النمو الثقافي، وإنّما لا بدّ من إبراز العامل أو العوامل التي تحدّد هذا التطوّر. ويمثّل عامل ” الطاقة ” في رأيه، المحك الرئيس لتقدّم الشعوب. أي أنّ المضمون التكنولوجي في ثقافة ما، يحدّد كيانها الاجتماعي واتّجاهاتها الأيديولوجية. (فهيم، 1986، ص203)
وقد انقسم هذا الاتّجاه الثقافي التطوّري، إلى ثلاث مدارس تنادي كلّ منها بمجموعة من القضايا العامة : (وصفي، 1971، ص 455)
المدرسة الأولى : تأخذ بالمسلّمة القائلة بأن التاريخ إنّما يتجه في تتابع وحيد حين تتطوّر النظم والعقائد، استناداً إلى مبدأ الوحدة السيكولوجية لبني البشر. ومن هنا تتطوّر الثقافة في العالم الإنساني، حيث تتشابه الظروف العقلية والتاريخيّة .
المدرسة الثانية : تأخذ بالمنهج المقارن حين تعالج هذا التتابع التطوّري للنظم والمعتقدات الإنسانية، بعقد المقارنات المنهجيّة المنظّمة بين الشعوب والثقافات، في سائر المراحل المبكرة لأطوار الثقافة، بحثاً عن المصادر الأثنولوجية للسمات الثقافية.
المدرسة الثالثة : تأخذ بفكرة البقايا أو المخلّفات والرواسب الثقافية، على اعتبار أنّ هذه البقايا القائمة في المجتمع، إنّما هي شواهد من الناحية المنطقيّة، وأنّ المجتمع قد مرّ في مراحل أقلّ تطوّراً ومراحل أكثر تركيباً وتطوّراً.
وقد مهّدت أفكار التطوّرية الجديدة، إلى نشوء تخصّص أثنولوجي جديد يبحث في العلاقات المتبادلة بين البيئة الطبيعية والثقافة، وعرف فيما بعد باسم الأيكولوجيا الثقافية ((Cultural Ecology-. والتي تستند إلى النظرية البيئية التي يعود تاريخها إلى / هيبوقراط / اليوناني، ومن ثمّ إلى / مونتسيكو / الذي وضع أسس هذه النظرية (المدرسة) والتي يتبعها بعض علماء الأنثروبولوجيا في العصر الحديث. وتتلخّص آراء هذه المدرسة، بأنّ العوامل الطبيعيّة للمنطقة، ولا سيّما الظروف المناخيّة، قد كوّنت المظهر الخارجي للأفراد، وعيّنت طراز حياتهم. وقضت على كلّ فرد لا يملك الصفات التي تتّفق وتلك البيئة (حمدان ،1989، ص 101 )
ويعتمد الأيكولوجيون الثقافيون في تفسير التباين بين ثقافات الشعوب المختلفة، على ظاهرة التنوّع البيئي كما يهتمّون بالكشف عن كيفيّة تأثير الثقافة مع ما يحدث في البيئة من تغيرات جذرية، على تكيّف الفرد وتفاعله الاجتماعي. (Freidle, 1977, p307)
وتتلخّص وجهة نظرهم هذه، في جملة (التأثير القوي / الطاغي للبيئة) وأنّ أثر البيئة كبير على الثقافة في مجالات كثيرة. ويستشهدون على ذلك، بسكان الأسكيمو، وسكان أوستراليا الأصليين، وتأثّر ثقافة كلّ من هذه الشعوب بالبيئة المحيطة. ولكنّ ثمّة معارضون في العصر الحديث لهذه النظرية، لأنّهم يرون أنّ كثيراً من البيئات المتشابهة، تضمّ ثقافات وحضارات مختلفة. (حمدان،
ص 101 )
وهكذا بدأت الأنثروبولوجيا تأخذ مساراً جديداً لتأكيد النسبية الثقافية والاتّجاه العلمي / الموضوعي في الدراسات الأثنولوجية، حيث بذلت محاولات جادة للنظر إلى الثقافة من خلال مفهومات أفراد المجتمع وتصوّراتهم، وليس من منطلق الباحث الأثنولوجي ونظرته الخاصة .
وكان من نتيجة ذلك، ظهور أربعة اتّجاهات في الدراسة الأثنولوجية، استمرّت حتى نهاية السبعينات من القرن العشرين، استطاع الأنثروبولوجيون بعدها أن يوحّدوا اهتماماتهم ويوجّهوا دراساتهم الاجتماعية / الثقافية، من أجل تحرّر الإنسان وتقدّمه .
وفيما يلي عرض موجز لهذه الاتّجاهات الأربعة :
1- الاتّجاه التغييري الموجّه :
بعد تلاشي الاستعمار وحصول معظم المجتمعات المستعمرَة على استقلالها، قلّ اهتمام الأنثروبولوجيين بدراسة عملية المثاقفة، واتّجهوا إلى دراسة طبيعة التغيّرات الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن استخدام التكنولوجية الغربية الحديثة إلى المجتمعات التي خضعت للاستعمار، بقصد تنميتها وتطويرها. وشجّعتهم على ذلك، الحكومات الغربية المنتجة لهذه التكنولوجية، والهادفة من ورائها إلى تحقيق تغيّرات أيديولوجية معيّنة / سياسية وثقافية واجتماعية /.
لقد أعطت الظروف السياسية الجديدة ، دفعة كبيرة لدراسة حركية التغييرات الناجمة عن عمليات نقل التكنولوجية الحديثة إلى الثقافات التقليدية في المجتمعات المتخلّفة. وقدّ قدّم العالم الأنثروبولوجي الأمريكي / جورج فوستر/ في كتابه ” الثقافات التقليدية والتغيير التكنولوجي – عام 1963″ تحليلاً للعوامل التي تساعد في قبول التغيير، والعوامل التي تحبطه، وركّز في مناقشة هذه العوامل على المضمونات الاقتصادية والثقافية والنفسيّة .( فهيم، 1986، ص 207)
إلاّ أنّ الأهداف التي كانت وراء نقل التكنولوجية إلى المجتمعات التقليدية تحت مصطلح ” التنمية”، أثارت الكثير من القضايا الأخلاقية، ولا سيّما تلك الأضرار التي قد تصيب الإنسان وبيئته، وذلك بسبب عدم حاجة المجتمعات النامية إلى هذه التكنولوجية، أو عدم مناسبة استخدامها في تلك المجتمعات. وعلى الرغم من ذلك، فقد كان لهذا الاتّجاه أثر كبير وواضح في الأنثروبولوجيا التطبيقية.
2- الاتّجاه التطبيقي :
أدّى تنامي الاتجاهات التحرّرية في الفكر الأنثروبولوجي، في الستينات والسبعينات من القرن العشرين، إلى تراجع توظيف الأثنولوجيا لخدمة الأهداف السياسية، أيّاً كانت طبيعة دراساتها وأنواعها. ونشأ بدلاّ من ذلك تخصّص جديد يعرف بـ ” الأنثروبولوجيا التنموية ” حيث يقوم الباحثون الأنثروبولوجيون بتقديم خبراتهم المعرفية / النظرية والميدانية / التطبيقية، في خدمة المشروعات الاقتصادية والاجتماعية. أي أنّ نتائج الدراسات الأنثروبولوجية التطبيقية، أصبحت توظّف لخدمة الدول النامية في عمليات التغيير التنموي المخطّط.
واستناداً إلى ذلك، أصبحت مسألة استخدام المعرفة الأنثربولوجية (إيجاباً أو سلباً) من القضايا الهامة التي أثارت اهتمام الباحثين والمسؤولين على حدّ سواء. وهذا ما دفع الجمعية الأنثربولوجية الأمريكية إلى تشكيل لجنة في عام 1968، لبحث المسؤوليات الأخلاقية التي يجب أن يتحمّلها الباحثون الأنثروبولوجيون، تجاه المجتمعات التي يقومون بدراستها، ولا سيّما تلك المصلحة التي تستخدم نتائج البحوث الأنثروبولوجية من أجلها.
وانتهى ذلك إلى إصدار بيان ” وثيقة الأخلاقيات الأنثروبولوجية ” عام 1973، حدّدت بموجبها علاقة الأنثروبولوجيين بالأفراد (الجماعات) المدروسين من جهة، ومسؤولياتهم تجاه الدول في المجتمعات المضيفة من جهة أخرى .وهذا كلّه يدخل في مسؤوليات الباحث الأنثروبولوجي، ولا سيّما الأمانة المهنية والأخلاقية، وحماية الأفراد الذين يتعامل معهم. وكان من نتيجة ذلك، ظهور ثلاثة اتّجاهات فرعية بشأن إجراء الدراسات الأنثروبولوجية واستخداماتها .
الاتجاه الأول : ذو نزعة تقليدية، يرى أنّ القيم العامة والسياسة، لا علاقة لهما بالعلوم الاجتماعية، وما على الباحث الأنثروبولوجي إلاّ تقديم الحقائق التي يحصل عليها كما هي ومن دون الاهتمام بنتائجها، على اعتبار أنّ العلم منفصل عن القيم الأخلاقية .
وهنا يقترح / جورج غيرفيتش/ تعريفاً لاجتماعية المعرفة يشمل موضوع هذا الاختصاص مع اعتبارات منهجية أساسية. وإذا اقتصرنا على الحدّ الأدنى منه، كانت اجتماعية المعرفة (سوسيولوجيا المعرفة) هي أولاً دراسة الترابطات الوظيفية التي يمكن إيجادها بين جانبين :
أ
ولها : أنواع المعرفة المختلفة، ودرجة تبلور الأشكال المختلفة داخل هذه الأنواع من المعرفة وأنظمتها المختلفة، أي (تراتب هذه الأنواع) .
وثانيهما : الأطر الاجتماعية، بما فيها المجتمعات الشاملة، والطبقات الاجتماعية، والمجموعات الخاصة، والتعبيرات المجتمعية المختلفة (العناصر الميكرو اجتماعية ).
وهذا المشروع لا يتمّ إلاّ بدراسة مدقّقة لجوانب أخرى، تتلخّص في :
1- العلاقة بين تراتب أنواع المعرفة، وتراتب المستحدثات الأخرى للحضارة.
2- دور المعرفة وممثّليها، والأنماط المختلفة للتعبير والتواصل، ونشر المعرفة .
3- مظاهر الاقتراب والابتعاد بين أنواع المعرفة المختلفة، وذلك بحسب ارتباطاتها بأطر اجتماعية معيّنة .
4- الحالات الخاصة من التباعد بين الأطر الاجتماعية والمعرفة .( لبيب، 1987، ط3، ص21-22)
ويتضمّن عمل / غيرفيتش / هذا محاولتين أساسيتين ؛ تصنيف أنواع المعرفة وأشكالها من جهة، وتحديد العلاقة بين المعرفة والأطر الاجتماعية من جهة أخرى.
ا
لاتجاه الثاني : ركّز على فكرة مبدأ النسبية الثقافية الذي يتناول في جوهره، مشكلة طبيعية ودور القيم في الثقافة. ويمثّل معالجة علمية استقرائية لمشكلة فلسفية قديمة، مستخدماً معطيات حديثة عن شعوب عديدة، لم تكن من قبل في متناول الباحثين، وهي مستمدّة من دراسة أنظمة القيم في مجتمعات ذات تقاليد وعادات وأعراف مختلفة .
ويعبّر عن مبدأ النسبية الثقافية باختصار : على أنّ الأحكام فيها تبنى على التجربة، ويفسّر كلّ فرد التجربة حسب ثقافته الخاصة. فثمّة أمثلة توضح لنا تأثير المفاهيم لدى شعب ما، على نظرة هذا الشعب إلى العالم الطبيعي .. فالهنود في الجنوب الغربي من الولايات المتّحدة الأمريكية، يقولون بوجود ستة اتّجاهات رئيسية بدلاً من أربعة، فهم يضيفون (الأعلى والأسفل) إلى الشمال والجنوب والشرق والغرب، وذلك انطلاقاً من وجهة النظر القائلة بأنّ الكون ذو ثلاثة أبعاد. وهم في ذلك واقعيون تماماً.
وإنّ من يقول بوجود قيم ثابتة، سيرى أنّ لدى بعض المجتمعات أنظمة تجعله يؤمن بضرورة إعادة التحقّق من صحّة نظريته. فهل ثمّة قيم أخلاقية ثابتة؟ أم أنّ القيم الأخلاقية تكون ثابتة طالما اتّفقت مع اتجاهات شعب ما، في فترة زمنية معيّنة من تاريخه؟ والإجابة عن هكذا أسئلة، تؤلّف إحدى إسهامات علم الأثروبولوجيا الكبرى في تحديد مكان الإنسان في العالم وتحليل مقوّماته. (هرسكوفيتز، 1974، ص65-66)
وهذا يتطلّب عدم التدخّل في شؤون الآخرين، وضرورة وضع قواعد أخلاقية تضبط استخدام النتائج التي تتوصّل إليها الدراسات الأثنولوجية. إلاّ أنّ بعض الأنثروبولوجيين يرى أنّه من الصعوبة أن يكون الباحث محايداً تماماً تجاه ما يجري أمامه أو حوله. ولذلك ، فإنّ مسؤولية الباحث الأنثروبولوجي، توجب أن يطلع الأفراد الذين يتعامل معهم على نتائج بحثه، واختيار أفضل السبل لتغيير واقعهم، وبما يتناسب مع إمكاناتهم المادية والبشرية من جهة، وأوضاعهم الثقافية من جهة أخرى .
الاتّجاه الثالث : يرى أنّه يتوجّب على الباحث الأنثروبولوجي، أن يتّخذ موقفاً أيديولوجياً محدّداً قبل القيام بالدراسة. وقد أكّدت الأنثروبولوجية البريطانية (كاتلين جوف) رائدة هذا الاتجاه، في كتابها ” ثورة العالم وعلم الإنسان ” الصادر عام 1968، أنّ على الأنثروبولوجيين أن يحدّدوا موقفهم تجاه أمرين : إمّا خدمة الاستعمار أو مناهضته. وذلك من خلال تبنّي أيديولوجية غربية واضحة المبادىء والأهداف، ولا سيّما تجاه مصالح المجتمعات النامية .
وإذا كانت الثقافات تقيّم أحياناً، بعبارتي : (متمدّن و بدائي )، فإنّ هاتين العبارتين بسيطتان بساطة خادعة، إذ دلّت المحاولات لتحديد الفرق بينهما، على وجود صعوبات غير متوقّعة. غير أنّ التمييز بين هاتين العبارتين المتضادتين، هام بالنسبة للأنثروبولوجيين، بشكل خاص. فكلمة (بدائي) تستخدم عادة، لوصف الشعوب التي جرى التقليد على أنّ يهتمّ بها – غالباً- علم الأنثروبولوجيا، وهي الشعوب التي منحت دراستها عالم الأنثروبولوجيا معظم المعطيات الأولية اللازمة له.
ويؤثّر المفهوم الذي يتضمّنه مثل هذا الاستعمال في الكثير من الأحكام، على طرائق حياة الشعوب. وتدلّ آثار الماضي التي يكشف عنها التنقيب في الأرض، أنّ التبدّل المستمرّ – وإن كان بطيئاً – هو القاعدة العامة. وبالتالي، يمكن أن نستخلص أنّه ما من شعب حيّ يعيش اليوم، كما كان يعيش أجداده أو أجدادنا. (هرسكوفيتز، 1974، ص74)
ثالثاً-النظرية الماركسية تعدّ النظرية (المادية التاريخية) الركيزة الأساسية للفكر الماركسي ولكنّها لم تجد طريقها إلى الفكر الغربي، إلاّ بعد انتصار الثورة الاشتراكية في روسيا عام 1917، حيث بدأت أعمال (فلادميير لينين) قائد هذه الثورة، تترجم إلى اللغات الأوروبية الرئيسة.
وهذا ما أدّى إلى النهوض الثوري في العديد من البلدان الأوروبية، ومن ثمّ تأسيس الأحزاب الشيوعية، ردّاً على الفكر الفاشي (الألماني والإيطالي) من جهة، وإيجاد الحلول للأزمة الاقتصادية العالمية التي خلقتها الرأسمالية – آنذاك – من جهة أخرى.
فقد أصبحت المادية الجدلية المنهج الأساس في العلوم الإنسانية، ولا سيّما في تفسير جوهر المجتمع الإنساني ومبادىء تطوّره. وهذا ما أظهر قيمة المادية التاريخي كفلسفة مؤثّرة وفاعلة، في دراسة الظواهر الطبيعية والاجتماعية والفكر الإنساني، وفق منهج فلسفي يعتمد على الفكرة الثورية العلمية في تحليل الواقع وتفسيره .
وتنطلق الماركسية من طريقة الحصول على العيش في كلّ مجتمع، باعتبارها أساس بنيته. وذلك من خلال إقامة الصلة بين هذه الطريقة، وبين العلاقات التي يدخل فيها الناس ضمن عملية الإنتاج. فالعلاقات الإنتاجية إذن، تشكّل الأساس الرئيس والقاعدة الحقيقية لكلّ مجتمع. (رونتال ويودين، 1984، ص 431-433)
فقد جاء في الموسوعة الفلسفية (السوفيتية) أنّ الماركسية تنظر إلى الإنسان : ” على أنّه موجود اجتماعي. ويعتبر من وجهة النظر البيولوجية، أعلى مرحلة في مراحل تطوّر الحيوانات على الأرض. وبينما يكيّف الحيوان نفسه مع الطبيعة، فإنّ الإنسان يكيّف الطبيعة مع نفسه من خلال ما يقوم به من نشاط إنتاجي. والإنسان أيضاً، لا يمكن أن يعيش بمعزل عن الناس الآخرين، وبالتالي فهو منصهر في ظروف اجتماعية محدّدة “.
وهكذا يرى ماركس، أنّ جوهر الإنسان ليس شيئاً مجرّداً وكامناً في نفس كلّ فرد، بل هو في حقيقته نتاج العلاقات الاجتماعية التي يعيش في إطارها. فهو نتاج تطوّر الجنس البشري كلّه، يستوعب (يمتلك) المعرفة التي حصل عليها الجنس البشري عبر تاريخه الطويل. ولذلك، تعدّ التشكيلة الاجتماعية / الاقتصادية، مرحلة تاريخيّة معيّنة في تطوّر المجتمع، وأنّ أساسها هو أسلوب الإنتاج الذي تتميّز به وحدها.
إنّ هذا المفهوم في الفكر الماركسي، يتيح للأنثروبولوجيين أن يكشفوا عن الظواهر العامة للأنظمة الاجتماعية في عدد من البلدان . كما يتيح في الوقت ذاته، التمييز بين الاختلافات السائدة فيما بينها داخل نطاق التشكيلة ذاتها، إذ تأخذ كلّ تشكيلة من التشكيلات الاجتماعية والاقتصادية، كياناً اجتماعياً خاصاً لـه قوانينه من حيث النشوء والتطوّر، والتحوّل إلى تشكيلة أخرى .( برمان، 1983، ص 200-201)
لقد وجّه الأنثروبولوجيون المعاصرون اهتمامهم إلى دراسة التباين القائم بين نظرية ماركس عن المادية التاريخية، ونظرية المادية الثقافية التي وضعها الأنثروبولوجي الأمريكي المعاصر / مارفيل هاريس /. فالماركسيون الحديثون يتّفقون مع دعاة نظرية المادية الثقافية، على أنّ الأوضاع المادية للحياة الإنسانية، لها الأولوية في الدراسات الأنثروبولوجية، وتتفوّق في أهميّتها على النظم الاجتماعية والأنساق الفكرية والمعتقداتية .
إلاّ أنّ هؤلاء الماركسيين الحديثين، يركّزون على الاقتصاد كنسق متكامل من العلاقات الاجتماعية والقيمية والتكنولوجية، في حين يركّز الماديون الثقافيون على الأوضاع الأيكولوجية (البيئيّة) ويعتبرونها نسقاً من العلاقات البيولوجية.Kessing, 1981, p.170))
وعلى الرغم من ذلك، يرى / هاريس / أنّ الماديين الثقافيين كالماديين الدياليكتيكيين، من حيث الهدف الذي يمكن تحقيقه من خلال دراسة التحدّيات (المحدّدات) التي يتعرّض لها الجنس البشري، ولا سيّما متطلّبات الغذاء والسكن وأدوات الاستعمالات المختلفة. يضاف إلى ذلك تأثيرات البيئة، وما يتعلّق بالقضايا البيولوجية / الوراثية، على التكاثر البشري .
ولذلك يؤكّد / هاريس / أيضاً، أنّ على الماديين الثقافيين الأخذ بتنوّع وجهات النظر السياسيّة عند الأنثروبولوجيين، شريطة أن يكون الهدف النهائي الذي يجمع فيما بينهم هو ” العمل على تطوير الثقافة الإنسانية ” Harris, 1968, p.325))
رابعاً-النظرية المعرفيّة إنّ الانتقادات التي وجّهت إلى الاتجاه البنائي / الوظيفي، بسبب اعتماده على سلوكات الأفراد الظاهرة وما يقوم بينهم من علاقات على أرض الواقع، وإغفاله الجانب الحركي (الديناميكي) في دراسة الثقافة الإنسانية، أدّت إلى تبنّي نظرية جديدة في الدراسة تتناسب مع التغييرات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية. ومن هنا برزت فكرة النظرية المعرفية في دراسة الثقافة الإنسانية، والتي تبحث في طرائق تفكير الناس وأساليب إدراكهم للأشياء، والمبادىء التي تكمن وراء هذا التفكير والإدراك، ومن ثمّ الوسائل التي يصلون بوساطتها إلى كلّ منهما .. فهم أصحاب المجتمع، ومن العدل أن نتعرّف إلى آرائهم فيها .
كما جاءت النظرية المعرفية ردّاً على الماركسية، التي يقول فيها عالم الاجتماع الفرنسي المعاصر / ميشيل فوكو / : أنّها أثارت في نفسه الكثير من الاهتمامات، ولكنها أخفقت في إشباع هذه الاهتمامات إخفاقاً شنيعاً. بل إنّه ذهب إلى حدّ القول : ” إنّ الماركسية كانت تجتذب إليها الشباب، ولكنّهم كانوا يدركون بسرعة أنّها مجرّد نوع من أحلام المراهقة، التي تدور حول إمكان وجود عالم آخر أفضل من هذا العالم الذي نعيش فيه .”
ولذلك، ابتكر / فوكو/ تخصّصاً جديداً أضفى عليه ” تاريخ أنساق الفكر ” في إطار ما أطلق عليه مصطلح ” إبستيمة Episteme ” والمستمد من أصل الكلمة اليونانية التي تشير إلى العلم والمعرفة. ولذا يمكن ترجمتها بعبارة ” إطار المعرفة “. ويحدّد فوكو ثلاثة (انقطاعات) أساسية يتميّز كلّ منها بإطار معرفي خاص :
الانقطاع الأوّل : حدث في أواسط القرن السابع عشر وأدّى إلى القضاء على الاتجاه الذي كان سائداً من قبل، نحو إبراز و (توكيد) أوجه الشبه بين الأشياء المختلفة، أو بين (مخلوقات الله كلّها) حسب ما يقول / أوتو فريدريش Otto Friedrich / وظهور الميل الذي ساعد (عصر العقل) نحو إبراز و توكيد أوجه التفاوت والاختلاف والتفاضل بين الأشياء. وهو ميل سيطر على تفكير القرن الثامن عشر بوجه خاص.
الانقطاع الثاني : حدث بعد الثورة الفرنسية بقليل، ويتمثّل في ظهور فكرة الثقدّم التطوّري في المجالين : الاجتماعي والعلمي، على السواء. وتعتبر هذه الفكرة بمنزلة الإطار المعرفي الذي يميّز العصر الحديث ويسيطر عليه سيطرة تكاد تكون تامة.
أمّا القطع الثالث : هو ما يمكن أن يتبلور فيما يمرّ به العالم الآن، ويصبح قطعاً في مجرى التاريخ. وعلى الرغم ممّا كتبه حول هذه النقطة، فإنّه لم يقدّم أي تحديد دقيق واضح المعالم لذلك (القطع ). كما أنّه لم يقدّم أي تفسير مقنع عن الطريقة التي تتمّ بها هذه التوقّعات والانكسارات، أو الانقطاعات وأسباب حدوثها.
ولكن، إذا كانت المعرفة قوّة، كما يقول / فوكو / فإنّه انتهى من ذلك إلى الاعتقاد بأنّ القوّة والمعرفة تتضمّن إحداهما الأخرى بالضرورة، وأنّ كلاًّ منهما تتطلّب الأخرى وتؤدّي إليها. وعلى هذا الأساس، فإذا كان كلّ عصر من العصور التي تكلّم عنها، قد أفلح في تكوين صور وأشكال معرفية جديدة وتطويرها وإبرازها، بما يعبّر عن ذلك العصر ومقوّمات الحياة فيه، ويمكن عن طريقها التعرّف إليه، فهذا يعني في نهاية الأمر أنّ كلّ عصر من هذه العصور، إنّما كان يمارس في حقيقة الأمر، أشكالاً جديدة من القوّة .( أبو زيد، 2001،ص94)
وقد أعطى هذا الاتّجاه المعرفي مفهوماّ جديداً للثقافة وطبيعتها الفكرية الثقافية، باعتبارها تشكّل (خريطة معرفية إدراكية) كما قال / جيمس داونز / في كتابه ” الطبيعة الإنسانية “. فالخريطة الإدراكية لأي شعب من الشعوب، تحتفظ بملامح عامة ومقوّمات أساسية وثابتة، ولكنها – مع ذلك – لا تخلو من بعض الاختلافات والتفاصيل الدقيقة من جيل إلى آخر، لا بل من فئة اجتماعية إلى فئة أخرى، وفي المرحلة الزمنية الواحدة. وهذا يعني أنّ لكلّ مجتمع، تصوّراته الخاصة عن العالم والكون، تختلف عن تصوّر غيره من المجتمعات الأخرى (أبو زيد، 1977، 249 )
تبلورت النظرية المعرفية في الدراسات الأنثروبولوجية / الثقافية، في الستينات من القرن العشرين، ومن خلال مدرستين رئيسيتين : المدرسة البنائية في فرنسا، والمدرسة الأثنوجرافية الجديدة في أمريكا .
1- المدرسة البنائية :
يعدّ / كلود ليفي ستروس / مؤسّس المدرسة البنائية في الدراسات الثقافية / الأنثروبولوجية. فهو يعرّف النظرية البنائية (البنيوية) بأنّها تقوم على التمييز بين الصورة والمضمون، بحيث تكمن أصالتها في طريق تصوّرها للارتباط بينهما. ولكن ما أخذ على / ستروس / هو أنّه أدرك المجتمع كقواعد لا كتصرّفات .. أي أنّه يصطنع لنفسه معقولية كاملة على أساس يردّ البشر والزمر الاجتماعية إلى وظيفة محدّدة، بدلاّ من أن يبني هذه الوظيفة على علامات مشخّصة، يعتقدونها فيما بينهم. (أوزياس، 1973، ص 46 )
ويأخذ مفهوم البنية عند/ ستروس / طابع النسق (النظام)، حيث تتألّف البنية من مجموعة عناصر، يمكن لأي تحوّل في أحدها أن يحدث تحوّلاً ما في العناصر الأخرى.ولذلك يقول / ستروس / إنّ العبرة في دراسة الظواهر (النظم) الاجتماعية، إنّما هي للوصول إلى العلاقات القائمة فيما بينها. والدافع إلى ذلك، هو أنّ حقيقة الظواهر الاجتماعية ليست في ظاهرها كما تبدو عياناً للملاحظ، بل تكمن في مستوى أعمق من ذلك بكثير، ألا وهو مستوى دلالتها. (ابراهيم، 1976، ص 35)
ومن هنا فإنّ مهمّة الباحث الأساسية، في العلوم الإنسانية عامة والأنثربولوجية خاصة، تكمن في التصدّي للظواهر الإنسانية الأكثر تعقيداً، أو الأكثر تفكّكاً وعدم اتسّاق. وذلك بقصد الكشف عن عوامل هذا التعقيد أو هذا الاضطراب. والوصول بالتالي إلى البنية أو (البنى) التي تحدّد العلاقات الكامنة في الظواهر والأشياء .
وإذا كان / ستروس / يعتبر (البنائية) منهجاً وليست نظرية أو فلسفة خاصة، فإنّه من جهة أخرى يحدّد هدف الأثنولوجيا بالكشف عن العمليات المعرفية (العقلية والإدراكية) عند الأفراد داخل المجتمعات الإنسانية، بغية الوصول إلى تفسير حول تعدّد الثقافات واختلاف بعضها عن بعض. وهذه العمليات تنشأ وتتبلور داخل العقل الإنساني من خلال التعلم، حيث يتعلّمها الفرد منذ الصغر عن طريق اللغة، وتكوّن ما أطلق عليه (الأبنية العقلية، التي تشكَّل الثقافات على أساسها. ولذلك، يمكن أن تتّخذ هذه البناءات الشكلية للتركيب اللغوي، نماذج يقتدي بها الباحثون في العلوم الإنسانية والاجتماعية، كما يمكن أن تتحقّق معها الدقّة العلمية عند دراسة الإنسان. (زكريا، 1980، ص 9)
لقد سعى / ستروس / إلى أن يربط بشكل منهجي ، بين الدراسات اللغوية والاجتماعية والأثنولوجية، وكان لهذه المحاولة أصداء كبيرة وعميقة في الفكر الأنثروبولوجي التقليدي الخاص بالعلوم الاجتماعية المختلفة، بل وفي الدراسات الأدبية والإنسانية بوجه عام .( حجازي، 1972، ص 180)
إنّ العلاقات الاجتماعية في أي نظام اجتماعي، لا يمكن أن تفهم إلاّ في إطار عملية التواصل والتبادل بين الأفراد الذين يشكّلون هذا النظام الاجتماعي. وذلك عن طريق دراسة العمليات العقلية التي تحكم تفكير هؤلاء الأفراد، وتوجّه سلوكاتهم وعلاقاتهم ضمن البنية التي تؤلّف ثقافتهم .
2-المدرسة الأثنوجرافية الجديدة :
ظهرت هذه المدرسة في أمريكا مع بدايات الستينات من القرن العشرين، مترافقة مع المدرسة البنائية سابقة الذكر. وتستند هذه النظرية إلى نتائج علم اللغة، والعلاقة المتبادلة بين علم اللغة والأثنولوجيا، والاستفادة بالتالي من هذين العلمين في تبنّي منهج متكامل للبحث في العلوم الاجتماعية .
وقد برز اهتمام الأمريكيين بالصلة بين اللغة والثقافة، منذ عام 1964 حين اقترح / ديل هايمز / مصطلحاً جديداً لتلك الصلة، يتمثّل في (الأنثروبولوجيا اللغوية) والذي يعتمد على دراسة اللغّة في إطارها الاجتماعي . (حجازي، 1972، ص 154).
وانطلاقاً من هذا المصطلح، بدأ الأنثروبولوجيون اللغويون المعاصرون يهتمون بتطوير المدخل اللغوي في دراسة الثقافة، بحيث تؤدّي دراساته عن أصل اللغة ومراحل تطوّرها، إلى مجالات دراسيّة جديدة حول تطوير الأسس الاجتماعية والإعلامية، التي تقوم عليها الحياة الإنسانية الحاضرة والمستقبلية .(Freidle,1977,p.280) ولذلك قام عدد من الباحثين الأنثروبولوجيين في أمريكا، بإجراء دراسات لغوية بقصد تأكيد علمية دراسة الثقافة الإنسانية، وذلك من خلال وصف الثقافة وتحليلها وفقاً لتصوّرات الأفراد ومفاهيمهم، التي تتجلّى في سلوكاتهم اللغوية .
واستناداً إلى هذا المنهج التحليلي، أظهرت نتائج دراسات أثنوجرافية متعدّدة، اختلافات الأسس والمعايير بين الشعوب، والتي يصنّف الأفراد بموجبها في المجتمعات المختلفة مفاهيمهم واتّجاهاتهم، فيما يتعلّق بتصنيف الأشياء المختلفة، كالألوان أو الطعام أو الحيوان أو النبات، وغيرها من مكوّنات البيئة المحيطة. وهذا يعني أنّ الأثنوجرافيا الجديدة، تسعى إلى دراسة الثقافة من خلال وصفها وتحليلها، كما يراها أصحابها، وليس كما يراها الباحث الأنثروبولوجي، وذلك بالاعتماد على تحليل اللغة التي يستخدمها أفراد المجتمع.
لقد برز اهتمام الأثنوجرافيين الجدد منذ بداية السبعينات من القرن العشرين، بالدراسات الميدانية لجمع المعلومات عن اللغات والثقافات المرتبطة بها، ونشرت كتب كثيرة حول ذلك. إلاّ أنّ هذا الاتجاه – على الرغم من أهميته في دراسة الثقافة –واجه نقداً من بعض الأنثروبولوجيين الأمريكيين ذاتهم، ولا سيّما / جيلفورد جيرتز/ الذي دعا إلى ما يسمّى الآن بـ (الأنثروبولوجيا الرمزية )، وطالب أن يهتمّ الباحث بالمعنى والرمز المصاحبين للممارسات الثقافية، بدلاً من الاعتماد على ما يقوله الأفراد عن ثقافتهم. ورأى أنّه ليس من المهمّ مطلقاً أن نسعى إلى تأكيد تكامل العناصر الثقافية، لأنّها ليست إلاّ مجموعة منفصلة من العواطف والمعتقدات والقواعد، التي يتناقض بعضها مع بعض في أحيان كثيرة .( فهيم، 1986، ص 234)
وتأسيساً على ما تقدّم، نجد أنّ فروع الدراسات الأنثربولوجية المعاصرة، تعدّدت وتنوّعت تحت مظلّة علم الأنثروبولوجية العامة .، مماّ أدّى إلى زيادة المشتغلين في هذا الميدان، من الباحثين والأكادميين، في العالم عامة، وفي أوروبا وأمريكا خاصة. ومع ذلك، فإنّ الأنثروبولوجيا ما زالت تعاني من التشتت وعدم إثبات هويتها وشرعيتها كعلم من العلوم الإنسانية / الاجتماعية، وثمّة محاولات جادة من الأنثروبولوجيين المحدثين لإنقاذه ورسم معالم مستقبلية له، تكون واضحة وثابتة تتناسب مع معطيات العصر، ومتغيّراته السريعة والمتلاحقة.
وهذا ما يعطي للأنثروبولوجيا المعاصرة دوراً هاماً في تعزيز السلام العالمي وتأكيد إنسانية الإنسان، وذلك من خلال المواقف التي يتبنّاها الأنثروبولوجيون في مناهضة التفرقة والتمييز، واستعمار الشعوب الأخرى والسيطرة على مقدّراتها. وتعزيز دور الدراسات الأنثروبولوجية، الإيجابي والفعّال في خدمة القضايا الإنسانية، وفي مقدّمتها التحرّر بأشكاله المختلفة، والبناء والتنمية الشاملة، ولا سيّما في البلدان التي تسعى إلى ذل