قبل
أن يكون ريموند تاليس Raymond Tallis فيلسوفاً معروفاً ومتميّزاً، فإنّه
طبيب ماهر، يحاول دائماً في كتاباته وتأمّلاته أن يوفّق بين تفكيره
الفلسفيّ وعلمه الطبّيّ، وفي هذا الإطار فقد نشر مؤخّراً في مجلّة الفلسفة
الآن Philosophy now مقالة مطوّلة قادته إلى "بلاد العجائب"، إلى منطقة
الوعي والإدراك، حيث حاول جاهداً أن يفهم ماهية عقله من خلال تفكيره،
منطلقاً من ملاحظات وتأمّلات قادته إليها ممارسته لمهنة الطبّ في عيادة
للأمراض العصبية، تعامل فيها على مدى سنوات مع عديد المرضى المصابين
بالصرع وبأمراض عصبية أخرى.
وقد أكّدت له تلك التجربة الطبّية الطويلة مع أولئك المرضى أنّ هناك
شرطاً ضرورياً لوعي الإنسان، وهو وجود دماغ قادر على العمل وفق نظام
معيّن، وطبعاً ليس هذا بالجديد لأنّه أمر يعرفه القاصي والداني وتثبته
مجريات الحياة اليومية. لكنّ تاليس، خلافاً للمنظّرين بوحدة العقل
والدماغ، لا يعتقد بأنّ الوعي مطابق للفعالية العصبية في القشرة الدماغية،
أو في جذع الدماغ، أو في المهاد أو في أيّة ناحية عضوية في الجملة
العصبيّة. دون أن يعني ذلك أنّه يعتقد أنّ في داخله روحاً غير مادّية، أو
أنّه يؤيّد الثنائية الديكارتية "شبح في الآلة". بل على العكس من ذلك، فهو
يؤكّد أنّه ملحد غير ديكارتيّ، لكنّه يعترف بعجزه أمام ملاحظة أنّ الإنسان
مهما بدا متصلّباً وبذل من جهود فلن يعثر على مشاعر وعواطف وأفكار
واستنتاجات في أجزاء معيّنة من دماغه، أو حتى موزّعة في جميع أنحاء
الدماغ. لذلك، ورغم أنّ عمل الدماغ ضروريّ لكلّ مظهر من مظاهر الوعي، من
أصغر وخز للشعور إلى أكبر احترام للذات، إلا أنّه ليس كافياً للوعي،
وخصوصاً لذلك النوع من الوعي الذي يميّز بني البشر.
ولكي يبسط تاليس موضوع الشرط الكافي والشرط الضروريّ، يضرب المثال
التالي: ثمّة شرط ضروريّ، أو مجموعة من الشروط، لكي يحدث شيء ما، وبدونها
لن يحدث؛ فالشرط أو مجموعة الشروط الكافية، هي تلك التي تكفي لتأكيد أنّه
يحدث. فمثلاً من أجل أن تصدمني الحافلة رقم 97 في لندن، يجب أن أكون
موجوداً في لندن. ولكنّ وجودي في لندن ليس كافياً، وإلا يجب أن أكون أكثر
ميلاً لتجنّب المكان. ثمّة شيء آخر ضروريّ ـ على سبيل المثال ينبغي أن
أكون في شارع معيّن؛ وينبغي أن تكون الحافلة 97 في نفس الشارع، وينبغي،
وأنا مشغول البال بمعضلة العقل والجسم، أن أمشي أمام الحافلة؛ وينبغي أن
ينشغل السائق، الذي ربّما يفكّر كذلك في معضلة العقل والجسم، عن رؤيتي لكي
لا يوقف الحافلة في الوقت المناسب.
ويعترف تاليس بأنّ الأدب الفلسفيّ حول الشروط الضرورية والكافية
(والفرق بين "الأسباب" و"الشروط") معقّد بشدّة، لكنّ النقطة الرئيسية في
رأيه هي أنّ هناك فجوة بينهما، أو بكلام آخر ثمّة شيء لازم للانتقال من
واحدة منهما إلى الأخرى. وهنا يشدّد تاليس على أنّنا لن نحرز تقدّماً في
فهم الوعي وعلاقته بالدماغ كعضو مادّيّ وبوجودنا العضويّ المادّيّ، ما لم
نكتشف تلك الفجوة ونشكّل فكرة عمّا يمكن أن يوجد فيها.
ربّما يكون من السهل أن نشير إلى تلك الفجوة بمصطلحات فضفاضة. فالدماغ
يتطلّب، أوّلاً، جسماً، ليس فقط ليبقى على قيد الحياة، بل كذلك لوجود شيء
ما يعمل معه وله. كما أنّ الدماغ المحتوى في الجسد يتطلّب وجود بيئة
جسديّة معينة. ولعلّ المنظّرين لوحدة العقل والدماغ يقرّون بالكلام
السابق، بغضّ النظر عن ادّعاءاتهم باكتشاف وجود هذا الجزء أو ذاك الجزء من
الوعي في هذا الجزء أو ذاك الجزء من الدماغ، فهم يصرّون بشدّة على أنّ
الوعي ما هو إلا خلاصة النشاط الدماغيّ العضويّ. أمّا تاليس فيؤكّد أنّ
هناك الكثير وربما الكثير جدّاً من الأمور الضرورية لربط الوعي بالدماغ
الإنسانيّ. فنحن البشر لسنا مجرّد كائنات حيّة، بل نحن أشخاص يعملون في
فضاء عامّ مختلف عن كلّ ما هو موجود في أيّ مكان آخر في الطبيعة. هذا
الفضاء هو العالم الإنساني أو مجتمع العقول، وقد تأسّس بجهود مشتركة على
مدى تاريخ طويل يعود إلى زمن سحيق. ويرى تاليس أنّ هذا الشرط الإضافيّ
يبيّن بوضوح عدم جدوى البحث عن الوعي في نشاط الدماغ الفرديّ، وعدم جدوى
التنقيب في أجزاء من ذلك الدماغ عن الظواهر اليومية للوعي، مثل الحبّ، أو
الاستنتاج، أو الإعجاب بالنكات، أو… أو… الخ.
لقد قام تاليس على مدى سنوات عديدة بإدارة عيادة للصرع. والصرع هو حالة
مرضية يوجد فيها نشاط كهربائيّ شاذّ في الدماغ، ممّا يسبّب اضطرابات في
الوظيفة الطبيعية للدماغ على شكل نوبات، وتحدث الحالة بشكل عفويّ مع أنّ
أحداثها مرتبة بوضوح، كما تعتمد مظاهر النوبات على موقع انتشار تلك
الشحنات الكهربائية الشاذّة ومدّتها. ومن أبرز تلك المظاهر المميّزة:
فقدان الوعي والتشويش الذهنيّ والحركات الاختلاجية. يمكن تفسير هذه
المظاهر بسهولة بكون الشحنات الشاذّة تحلّ محلّ النشاط الكهربائيّ
الطبيعيّ للدماغ، وهذا يتوافق تماماً مع كون النشاط العصبيّ الطبيعيّ شرطا
ضروريّا، لكنه ليس كافياً، للوعي. أمّا الأعراض الإيجابية للصرع مثل
الاختلاجات والتشنّجات، فيمكن تفسيرها وفهمها كذلك بنفس الطريقة، لأنّ كون
تلك الحركات عبارة عن تشنّجات بدون معنى، يوضح كيف أنّ النشاط العصبيّ
المجرّد في الدماغ القائم بذاته ليس كافياً لتفسير السلوك الإنسانيّ
العاديّ. ومن الممكن أن نرى هذا عندما نراقب المريض بعد انتهاء النوبة
ونتأمّل في طريقة ارتكاسه لها. فإذا كنّا لا نستطيع بسهولة أن نربط بين
غياب الوعي والحركات الإيقاعية النمطية التي تشاهد في بعض النوبات، وبين
شحنات دماغية شاذّة، فإنّ هناك فرضية قويّة تقول: إنّنا نستطيع أن نربط
بين شحنات كهذه وبين قرار المريض بعد النوبة بمراجعة الطبيب، والترتيب مع
صديق/ة لمراقبة الأطفال عندما يقوم بذلك، واستعداده على خلاف العادة لأن
يثق بالطبيب، ويقبل نصائحه، ويرغب في مباشرة خطّة علاجية تستمرّ طيلة
الحياة.
من هنا ينبغي، برأي تاليس، التمييز بين النوبة الصّرعية والشخص الذي
يعاني منها والتصرّفات التي يحاول من خلالها أن يتعامل معها. على أنّ
البعض لن يعجبهم هذا التمييز بين معاناة النوبة وبين التعامل معها. فعالم
الأعصاب المشهور كولن بلاكمور Colin Blakemore، وهو أحد كبار المنظرين في
وحدة العقل والدماغ، كان يعتبر أنّ جوهر السلوك الاعتياديّ يبقى هو نفسه
حتى عندما يعاني المريض سلسلة من النوبات، ويرى بلاكمور في كتابه "تقنيات
العقل" الصادر عام 1988 أنّ "الدماغ البشري بما أنه يأخذ في حسبانه جميع
تصرفاتنا…. فهو لا يدرك (بالمعنى العلميّ) محاولة التمييز الحادّ بين
التصرّفات التي تنتج عن الانتباه الواعي وتلك التي تنتج عن منعكساتنا أو
عن مرض أو أذية في الدماغ".
بينما يرى تاليس من جهته أنّ هذا يُظهر بوضوح سخافة نظرية وحدة العقل
والدماغ. لكنه يقبل بأنّ هناك بعض الظواهر التي يبدو أنها تضع علامة
استفهام كبيرة حول التمييز الحادّ بين النوبات الصرعية التي يمكن أن تفسّر
بشكل وافٍ بنشاط الدماغ القائم بذاته، وبين الوعي الإنساني الطبيعيّ الذي
لا يمكن تفسيره كذلك. فعلى سبيل المثال، هناك أشكال من الصرع تصيب الفصوص
الصدغية (وهي جزء من القشرة الدماغية)، وتؤدّي إلى تولّد صور معقّدة
بشدّة، أو سيناريوهات كاملة غريبة. فهل هذا يعني أنّ الدماغ القائم بذاته
يستطيع بمفرده أن يولّد الوعي أو على الأقل أجزاء من الوعي؟
على أنّ التحدّي الأكبر الذي يواجه تاليس باعترافه، يكمن في بعض
الملاحظات التي وضعها جراح الأعصاب الشهير وايلدر بنفيلد Wilder Penfield
الذي شارك في تطوير تقنيات جراحية لمعالجة بعض حالات الصرع غير القابلة
للسيطرة بوسائل أخرى، وذلك بقيامه باستئصال النسج الدماغية القابلة
للإثارة والتي يرجّح أنّ النوبات تنطلق منها. وبما أنّه كان من الحيويّ
ألا تُستأصَل أجزاء الدماغ الضرورية للتكلّم وللوظائف الأساسية الأخرى،
فقد كانت العمليات تجرى للمرضى وهم مستيقظون (الدماغ نفسه لا يعاني
الألم)، بحيث أن "بينفيلد" استطاع قبل الاستئصال أن يرسم خارطة لمواقع
الوظائف المختلفة في الدماغ باستخدام أقطاب كهربائية محفزة. وعندما أثير
الفصّان الصّدغيان تكلّم بعض المرضى عن خبرات معقّدة، أو ذكريات غنيّة
ومفصّلة. وبدا هذا داعماً بقوّة للفكرة التي تزعم أنّ الدماغ القائم بذاته
يمكن أن يكون أساس الوعي المعقّد. وتوافق ذلك مع تجربة التفكير الشهيرة
التي وضعتها قيد التداول الفيلسوفة الأميركية المعاصرة هيلاري بوتنام
Hilary Putnam، والتي اقترحت أنّ "دماغاً في وعاء" تتمّ استثارته بموادّ
مناسبة عبر نهاياته العصبية، يمكن أن يصدّق أنّه كان في العالم الواقعيّ.
لكنّ تاليس لا يوافق على أنّ خبرات المصابين بالصرع، ولا حتى ملاحظات
بنفيلد تسوّغ مثل هذا الاستنتاج. فلنأخذ مثلاً "الذكريات" التي رواها مرضى
بنفيلد (شوهدت، بالمناسبة، لدى 5 بالمائة ممّن عالجهم ولم تكرّر من قبل
جراحين معاصرين)، فهي في الأساس ذكريات "ثانوية" أو "مدوّرة". وأيّ واحد
ليست لديه تجارب يتذكّرها بالطريقة العادية لن يفسّر ما كان يحدث على أنّه
ذاكرة، وبشكل أقلّ بكثير على أنّه ذاكرة ذات مضمون أو أهمّية خاصّة. أي
إنّ ظواهر بنفيلد، مثلها مثل الخبرات الكاذبة لصرع الفصّ الصدغيّ، هي
ببساطة ذواكر سابقة أعيد تنشيطها، وتدور حول تجارب وخبرات حدثت في العالم
الواقعي، ليس بواسطة دماغ معزول، بل بواسطة كائن إنسانيّ مكتمل. وإذا كانت
الخبرات الطبيعية تحتوي بالتأكيد على ما يمكّننا من التمييز بين الواقعيّ
والمتخيّل، فإنّ الفعالية الكهربائية في الدماغ المعزول في تجارب بنفيلد
تمتلك على ما يبدو شيئاً من ذلك، لأنّ تاليس يرى أنّ الخبرات تحت كلّ
الظروف (مثلاً عندما لا يكون المريض في حالة نوبة أو مستثاراً كهربائياً)
تحتوي بشكل مؤكّد على شيء ما واقعيّ في مكان آخر، أو يحدث فعلاً لشخص
حقيقيّ.
كما يرى تاليس أن ذواكرنا العادية، وخبراتنا العادية الحالية، لا تكون
مفهومة إلا لأنها جزء من هذا العالم. ويقول موضحاً: "نعم نحن مقيمون في
هذا العالم بفضل كوننا متجسّدين، ونفهمه من خلال أدمغتنا؛ لكنّ ما يجعله
مفهوماً كـ"عالم" بالنسبة لنا ليس فقط الاستناد إلى خصائصه الفيزيائية، بل
كونه شبكة من الدلالات المستندة إلى مجتمع العقول الذي لسنا كأفراد سوى
جزء منه". ثمّ يشرح تاليس كيف أنّ "الدماغ في الوعاء" في تجربة التفكير
لبوتنام يستفيد بشكل مجاني من العالم المحيط به، وهو عالم عارض يحتوي في
الواقع، بالإضافة إلى الخبرات المثارة بالأقطاب الكهربائية، على أدمغة
مادية، وأقطاب كهربائية، وحاويات، وعلماء، إلى جانب المؤسسات والتدريبات
والمعارف التي تدعمهم. ويعتقد تاليس أن الإهلاسات التي يحدثها التحريض
الكهربائي أو الصرع في دماغ قائم بذاته، تجعل كهربائية الدماغ سبباً
كافياً للخبرة فقط لأنها تتطفل أيضاً على عالم حقيقيّ مجرّب سابقاً
بالطريقة العادية. ووفقاً لمبادئ الفلسفة المعاصرة، لا يوجد أيّ شيء مشترك
بين الإهلاسات والإدراكات الحقيقية، رغم أنهما يمكن أن تبدوا متماثلتين
بالنسبة لصاحبهما على الأقلّ.
ثمّة نقطة أكثر عمقاً تتعلّق بأنّ الوعي لا يكتمل إدراكه إلا لدى
البشر، وهو يسمو على العالم المادّيّ الذي تشكّل الكائنات الحيّة جزءاً
منه؛ فنحن عندما نجرّب شيئاً ما، تشير خبرتنا بشكل واضح وصريح إلى موضوع
وليس إلى ذات. وليس من السهل أن نشرح بمصطلحات بسيطة حسّ التمييز بين
الواقعي والمتخيل في ما نختبره. فمثلاً ـ يقول تاليس ـ عندما أنظر إلى
مرآة فأنا أنظر بطريقة سببية منطقية إلى مصدر الضوء الذي يصل إلى شبكية
العين. وهذا التوجه القصدي المعاكس للسببية هو أساس وجودنا في العالم، وهو
يرتكز بالطبع على التفوق المشترك للعقل بفضائه العام والذي به وحده نكون
بشراً أحياء. وقد بني هذا الفضاء بجهود ملايين الأفراد على مدى عشرات آلاف
السنين، لكنّ المنظّرين لوحدة العقل والدماغ يحاولون بجرّة قلم أن يحشروا
هذا الفضاء على عمقه واتساعه في دماغ فرديّ، أو حتى في أجزاء منه، فقط لكي
يتسنّى لهم أن ينفوا وجود الوعي خارج الدماغ كعضو، أو خارج الكائنات.
ثمّ يختم تاليس مقالته العميقة والشيّقة والمعقّدة في آن، بهذه الفقرة
التي يودعها خلاصة تأمّلاته حول الصرع: "لو كانت النبضات العصبية في دماغ
معزول تكفي لكي تشكّل عالماً ـ عكس تلفيق أجزاء من عوالم في ظلّ ظروف
شاذّة للغاية ـ لكان ينبغي أن نستطيع التمييز بين التعرّض لسلسلة نوبات
صرعية وبين الحياة مع الصرع، أو في الواقع الحياة بدون صرع. لقد تعوّدت أن
أرتجف عندما أسمع الإشارة إلى الناس المصابين بالصرع كـ(مصروعين). لكنّ
تعريف المريض بحالة دماغه أدّى إلى انهيار المسافة بينه وبين من يعالجه
(وقرّر ما إذا كانت نصيحتي له جيّدة أو لا). لم يكن هذا فقط تجريداً من
الإنسانية، بل كان كذلك كخطأ من الناحية الفلسفية".
الرد على هذا المقال
السبت ديسمبر 19, 2009 2:41 pm من طرف بن عبد الله