ما
تحت الوعي
حوار
بين مفكرين
أرنولد
توينبي ودايساكو
إيكيدا
تقابل هذان المفكران
– توينبي وإكيدا – في لندن وأجريا حواراً
شفهياً مطولاً حول عدد من المسائل الحيوية
التي تجابه الإنسان الحديث في الشرق والغرب،
ودام حوارهما بضعة أيام. وقد سُجِّل الحوار
أولاً ثم أعاد ريتشارد ل. غيج Richard
L. Gage ترتيب ما قالاه
وأعدَّه للنشر. وقد نقَّح توينبي نصَّ الكتاب
ووافق عليه قبل مرضه الأخير.
ظهر الكتاب
بالإنكليزية سنة 1976 بعنوان على الإنسان أن
يختار بنفسه[1]
في الولايات المتحدة واليابان، وبعنوان اختر
الحياة[2]
في لندن عن منشورات جامعة أكسفورد. ثم أعيد
طبعه بالإنكليزية سنة 1982 في دار بيبرباك Paperback
للنشر بلندن. وهو يمثل زبدة ما توصل إليه هذان
المفكران في الكثير من الأمور.
وبالنظر إلى الأهمية
القصوى للكتاب فإنه، خلال السنوات التي تلت
صدوره، تُرجِم إلى اللغات التالية: الفرنسية
(1979) والإسبانية (1980) والألمانية (1982)
والإيطالية (1987) والبرتغالية (1986)
والأندونيسية (1987) والملايوية – لغة الملايو
– (1987) والتايية – لغة تايلاند – (1987)، كما
ظهرت الترجمات الهندية والأوردية والعربية
تباعاً في التسعينات.
ينقسم الكتاب إلى
ثلاثة أقسام رئيسية هي: "الحياة الشخصية
والاجتماعية"، "الحياة السياسية
والدولية"، "الحياة الفلسفية والدينية".
ومن القسم الأول اخترت الموضوع الذي عنوانه
"ما تحت الوعي" The Subconscious
لما وجدت فيه من وجهات نظر شرقية وغربية هامة،
منها ما هو جديد على القارئ العربي. (محمود. م. الهاشمي)
***
إكيدا:
في دراسة الذهن البشري، كانت العمليات
الذهنية الواعية – وهي الإدراك الحسي،
والتفكير، والإرادة – موضوعات للتأمل
الفلسفي مدة طويلة. وبرأيي أن كل الفلسفات
الغربية مبنية على دراسة الوعي. إلا أن الوعي
هو مجرد جزء من الحياة الإنسانية.
توينبي:
أجل، أوافقك؛ فالوعي ليس إلا السطح الظاهر
للنفس. إنه كالقمة المرئية من جبل جليدي جسمه
محجوب.
إكيدا:
ولهذا أعتقد أن الصورة الكاملة للنفس
الإنسانية متعذرة ما لم ينصرف الانتباه إلى
عالم ما تحت الوعي الكامن وراء الأعمال
والأفكار والرغائب البشرية.
توينبي:
إن ما تحت الوعي هو مصدر الحدوس التي بوسعها
أن توحي بالفكر العقلي، ولكن لا يمكن الوصول
إليها بالعقل مادام العقل يقيد نشاطه
بالمستوى الواعي. ومن الملاحظ أن بعض
المكتشفات التي يمكن أن تتم، والتي تمت أخيراً، وعُبِّر عنها بالمصطلحات المنطقية
وأثبتتها التجربة قد أحدثتْها أصلاً الحدوس
غير المنطقية وغير المبرهَن عليها التي تدفقت
إلى الوعي من "ما تحت الوعي".
إكيدا:
أجل، إن المكتشفات العلمية العظيمة،
كمبدَعات الفنانين العظام، هي في أغلب
الأحيان نتيجة الحدس الروحي.
توينبي:
مما لاشك فيه أن ما تحت الوعي هو ينبوع الشعر
والبصيرة الدينية. وهو إلى ذلك مصدر كل
الانفعالات والدوافع. والأحكام الأخلاقية
التي نصدرها على مستوى الوعي تميز بين
الانفعالات والدوافع الطيبة والشريرة. وكلما
أفلحنا في التعمق في ما تحت الوعي الذي ننقله
إلى وعينا اتسع مدى سيطرتنا الواعية على
انفعالاتنا ودوافعنا. والسيطرة الواعية تتيح
لنا التغلب على منتجات ما تحت الوعي التي
قررنا أنها شريرة وتشجيع منتجات الوعي التي
قررنا أنها طيبة.
وأنا لذلك أعتقد
أنه من الأهمية بمكان للخير الإنساني أن
نستكشف أعماق ما تحت الوعي في النفس البشرية
لنُخضِع الكثير من هذه الانفعالات والدوافع
للسيطرة الواعية ما أمكننا ذلك. إن هذا نشاط
روحي مُجْزٍ، ولكنه إلى ذلك نشاط صعب. فما تحت
الوعي يشبه ربَّ البحر الأسطوري الإغريقي
بروتيوس. إنه يحاول أن يتملص من السيطرة،
ويستاء من السيطرة عندما يخضع لها، ويملك
وسيلة بارعة لأخذ ثأره من الوعي لأنه تحكَّم
به ولفكِّ ارتباطه به حين تتم السيطرة عليه.
إكيدا:
إن أول من استخدم مناهج العلم الطبيعي
لاستكشاف ما تحت الوعي هو عالِم نفس الأعماق
تسغموند فرويد. ومن الطبيعي أنني أقدر تقديراً
كبيراً عمله وعمل الآخرين في النصف
الأخير من القرن التاسع عشر. ولكن حتى في
الأزمان القديمة، كان العلماء البوذيون قد
بحثوا في عمق النفس الإنسانية دون مستوى
الوعي.
توينبي:
أوافق على أن اكتشاف الأعماق ما تحت الواعية
للنفس وسبرها، اللذين لم يبدآ في الغرب إلا
حديثاً في زمن فرويد، كانت الهند السبَّاقة
فيهما على الأقل في زمن البوذا ومعاصريه
الهندوس؛ أي قبل فرويد بـ 2400 سنة على الأقل.
والمحاولة الغربية الحديثة لاستكشاف ما تحت
الوعي والسيطرة عليه لم تتخطَّ المرحلة
القديمة الساذجة والفجة. وقد تابع الهندوس
والبوذيون هذا البحث مدة أطول وقطعوا شوطاً
أكبر. وينبغي للغربيين أن يتعلموا الكثير في
هذا المجال من التجربة الهندية والآسيوية
المشرقية. وفي الكتب والمقالات التي نشرتُها،
جذبت انتباه قرائي الغربيين إلى هذه الحقيقة
التاريخية، بوصفها جزءاً من محاولتي
المستمرة مدى الحياة أن أساعد الإنسان الغربي
الحديث على التخلص من اعتقاده الخاطئ المضحك
أن الحضارة الغربية قد تفوقت على كل الحضارات
الأخرى ببزِّها لها.
إكيدا:
إنني أفهم هذا بوضوح وأحترم جهودك المخلصة في
هذا الاتجاه. فهناك مفكران بارزان في المدرسة
الهندية الفيجانافادية Vijanavada للفلسفة، وهما
أسانغا Asanga وفاسوبندهو Vasubandhu
(وكلاهما من القرن الرابع الميلادي) أضافا
مفهومات جديدة إلى الحواس الست المعروفة حتى
ذلك الحين. فقد كانت الحواس الست التقليدية هي
البصر، والسمع، والشم، والذوق، واللمس،
والحاسة السادسة هي التي تضبط الحواس الخمس
الأخرى بالتفكير العميق (مَنَس–فيجنانا manas-vijnana)
والقدرة على التبصُّر العميق في طبيعة الحياة
(ألايا–فيجنانا alaya-vijnana). والحاسة
السابعة، وهي القدرة على الاستنباط، تتضمن
التفكر العميق؛ وفي هذه المقولة يقع قول
ديكارت: "أنا أفكر؛ فأنا موجود." وقد تابع
المفكرون الغربيون هذه المقولة إلى نقاط
بعيدة. أما فاسوبندهو فقد مضى أبعد من ذلك
ليكتشف الحاسة الثامنة التي بها كان قادراً
على أن ينظر بعمق أشد، ومن غير وهم، في طبيعة
الحياة الإنسانية. وتشيهي Chih-I
من الصين (من
القرن السادس للميلاد)، بتطويره فكر
فاسوبندهو، استنبط حاسة تاسعة هي (أمالا–فيجنانا
amala-vijnana)
التي تصل إلى الفكر الروحي الجوهري الذي
ينشِّط كل العمليات البسيكولوجية الأخرى.
وأصبح فكره البذرة التي نمت منها بوذية تيين–تاي
T’ien-t’ai.
لقد ألمعت باختصار إلى هؤلاء الرجال لأظهِر
أن المفكرين البوذيين حاولوا منذ الأزمان
القديمة أن يفهموا المناطق العميقة في الحياة
وراء عالم الوعي.
توينبي:
لا شك أن جهود هؤلاء الرجال قد أدت إلى أهم
النتائج، ولكنني أعتقد أنه حتى السطح الواعي
للنفس، الذي هو نسبياً ممكن الفهم، ليس
بالمقدور فهمه فهماً كاملاً وصحيحاً ما لم
نره كمجرد جزء لا يُجتزأ من النفس الكلِّية
التي تهيمن فيها الأعماق ما تحت الواعية على
السطح الواعي بمقدار ما تكون هذه الأعماق ما
تحت الواعية غير مفهومة أو مجهولة. والفائدة
في نقل هذه الأعماق ما تحت الواعية، أو على
الأقل الطبقات العليا منها، إلى الوعي هي في
أننا حين نغدو واعين لها، نتمكن من السيطرة
عليها، بدلاً من أن تسيطر علينا من حيث لا
ندري.
وأنا أعتقد أن
الفيلسوف البوذي الهندي فاسوبندهو والفيلسوف
البوذي الصيني تشيهي قد اخترقا، بوعيهما،
الطبقات الدنيا لما تحت الوعي (إن الكلمة
المكانية – "الدنيا" – غير وافية، وقد
تكون مضلِّلة، ولكن المفردات المكانية،
المستخدمة استعارياً، هي المفردات الوحيدة
التي بحوزتنا لوصف الظواهر النفسية). وأعتقد
كذلك أن الطبقة الجوهرية في الأغوار ما تحت
الواعية في النفس الإنسانية تتماثل مع
الحقيقة الجوهرية الكامنة تحت الكون برمَّته.
إكيدا:
إنني أشك أن الحقيقة الجوهرية التي تحدثتَ
عنها والكامنة خلف الكون تنسجم مع ما يسميه
الفكر البوذي قوة الحياة الكونية، التي هي
مصدر كل الظواهر في الكون. ولكنني، لكي أنتقل
إلى مستوى أشد ملموسية، أود أن أسألك عن رأيك
في علوم المناهج المستخدمة في استكشاف
الظواهر النفسية. فقد كان استكشاف هذا الحقل
الخاص من ذهن الإنسان يحفزه ما قدَّمه
ونمَّاه التحليلُ النفسي الفرويدي وعلمُ نفس
الأعماق.
ومن الممكن أن تصنَّف
الفروع المتعددة من علم النفس تقريباً في
مجموعتين: إحداهما علم نفس الوعي، الذي يعالج
المستوى الواعي للنفس الإنسانية. والأخرى هي
علم نفس الأعماق، الذي يعالج المستويين
الواعي وما تحت الواعي، ولكنه يستثني كل
الظواهر غير القابلة للإثبات الموضوعي.
توينبي:
إن الدراسة الغربية الحديثة للنفس الإنسانية
أحدث بكثير من الدراسة الغربية للوجه المادي
وغير الحي من العالم الظاهراتي. ولقد كان
المنهج العلمي الغربي الموضوع لدراسة الوجه
المادي للظواهر ناجحاً داخل مجاله. وأصبح
اعتباره كبيراً لأنه طُبِّق دون مناقشة في
دراسة الوجه النفسي للظواهر عندما بدأ الغرب،
أخيراً، بدراسة هذا الوجه أيضاً. وكما قلنا،
فإن البوذيين والهندوس بدؤوا بدراسة النفس في
الهند قبل زهاء 2400 سنة من الأوربيين. وفي
الهند لم يَسِر البحث على خط الدراسة السابقة
الناجحة والمبرهَن على سلامتها للوجه المادي
للظواهر. وتبدو لي المقاربة الهندية غير
المادية لدراسة الظواهر النفسية أكثر وعداً.
فالمحاولة الغربية الحديثة في إحداث علم نفسي
على خط العلم المادي القائم من قبلُ قد تضع
العلم النفسي في خطر أن يُضلِّله التشابه
الزائف. ولعل دراسة الظواهر النفسية تكون
أقرب إلى الحقيقة إذا تمت، بالطريقة الهندية،
على خط مستقل لها يتلاءم مع طبيعة هذا الموضوع
النفسي المدروس.
إكيدا:
هذا صحيح بالتأكيد. فالمستويات العميقة من
الحياة الإنسانية تختلف جوهرياً بطبيعتها عن
التجلِّيات السطحية؛ فهي تتجاوز الزمان
والمكان. ولهذا فإن محاولات قياسها بالمعايير
المكانية والزمانية من المحتمل ألا تجعلنا
نقترب كثيراً من الطبيعة الحقيقية لقوة
الحياة نفسها. ومن ثَمَّ، كما قلتَ، يبدو أن
من الممكن للمنهج الهندي في الاستبطان أن
يُنتِج معرفة أصحَّ من محاولات التخمين حول
الظواهر النفسية ذات المستوى العميق على أساس
المناهج المستخدَمة في تحليل الظواهر
الواعية.
لقد ألمعتُ باختصار
إلى التيارات الرئيسية في الدراسة
البسيكولوجية الحديثة، إلا أنه في السنوات
الأخيرة تطورتْ عدة مدارس حديثة في الفكر
وحاولتْ أن تتخطى حدود علم النفس التقليدي.
ومن هذه التيارات البارابسيكولوجيا Parapsychology [علم نفس الخوارق]
التي تركز على البحث في الظواهر الخارقة
للطبيعة: قراءة الأفكار mind-reading،
والتخاطر عن بعد telepathy، والاستبصار clairvoyance،
والتحريك النفسي psychokinesis، وبعد النظر premonition.
وعلى حين أن بعض التجارب قد خضع للاختبارات
التي أجراها علماء أحياء الضمير، فإن الكثير
مما سُمِّي تجارب ناجحة لم يكن أكثر من حِيَل.
ومن الممكن أن يفسَّر بعضُ الظواهر الخارقة
للعادة تفسيراً كاملاً بمجرد التنقيب في
الطبقات ما تحت الواعية، من غير أن ننسبها إلى
الوظائف الإدراكية المزعومة الخارجة عن نطاق
الحواس.
توينبي:
لا ريب أنه كان ثمة نصيب ملحوظ من الخداع في
التجارب الغربية الحديثة في إنتاج الظواهر
النفسية وملاحظتها. ومن المحتمل أن الخداع
أسهل في البحوث النفسية منه في البحوث
المادية. مهما يكن من أمر، فأنا أعتقد أن
الأكثرية من الممثلين والراصدين قد قاموا
بعملهم بحسن نية، حتى في الأحوال التي لم تكن
فيها تفسيراتهم للظواهر مقنعة. وأظن أن هذا لا
يصح على الاستكشاف الغربي الحديث لما تحت
الوعي وحسب بل كذلك على اليوغا الهندية
والشَمَنية السيبيرية.
إكيدا:
بقطع النظر عن أحوال الخداع والخروج عن
الموضوع، فهناك ظواهر لا يمكن أن تفسَّر إلا
بالرجوع إلى شيء خارق للعادة. ومن الخطأ نبذ
البارابسيكولوجيا برمَّتها. فالتنويم
المغناطيسي، الذي كان يُعَدُّ حيلة، لا
علماً، قد برهن على أنه منهج قوي في العلاج
النفسي. ولا شك أن نظريات البارابسيكولوجيا
قد تخضع على الدوام لاختبارات الإثبات
الصارمة.
وهناك مدرسة فكرية
أخرى، متقدمة على البارابسيكولوجيا في
الاتجاهات السائدة في البحث البسيكولوجي، هي
الروحانية spiritualism،
التي تدرس الوجود المزعوم للروح. والروحانية
بانفصالها الكامل عن العلوم الوضعية قد تطورت
فيما يسمى بالإيمان الديني. ما آراؤك في هذه
المقاربات لعلم النفس الإنساني؟
توينبي:
إنني أؤمن أن كل الظواهر القابلة للرصد هي
ظواهر طبيعية. وكما أرى، فإن الظواهر الخارقة
للطبيعة التي هي موضوع للدراسة
البارابسيكولوجية هي في الحقيقة ظواهر
طبيعية من أنواع إما نادرة وإما شائعة ولكنها
أُهمِلَت في الغرب حتى فترة قريبة. وأنا بنفسي
كنت شاهداً مباشراً على أن الاتصال التخاطري
هو، كما أعرفه، حقيقي. وأنا أفترض أن كل
الكائنات الحية يتصل بعضها ببعض تخاطرياً،
وأن البشر، حتى بعد اختراع الكلام، قد
استمروا في الاتصال بعضهم ببعض تخاطرياً،
بالإضافة إلى الكلمة المنطوقة أو الكتابة.
إكيدا:
إن النتائج حول هذه الظواهر الخارقة للعادة
مهمة، ومن ثَمَّ مطلوبة. إلا أن الإفراط في
الثناء عليها، بوصفها نتائج صوفية ناجمة عن
نوع ما من القوة الاستثنائية، من الممكن أن
تكون له نتائج خطيرة. أولاً، إنها قد تسبب
الفهم الخاطئ أو الممارسة الخادعة. ثانياً –
وهو الأسوأ – هو أنها قد تسدُّ الطريق على
اكتشاف المعرفة الموثوقة والدقيقة حول هذه
الظواهر. ولكن إذا خضعت الأفكار والنتائج في
كل هذه المسائل للنقد الشديد الصرامة فإن كل
بحث قد يصبح مخزياً. وهذا يفضي إلى خنق
القدرات والإمكانات الإنسانية غير المكتشفة
حتى الآن.
لقد قلتَ إن الظواهر
التي تدعى خارقة ذات طبيعة عادية؛ وأنا أتفق
معك إلى هذا الحد. فعندما يُكتشَف خيط السبب
والنتيجة في الأشياء التي نعتقد أنها خارقة
للعادة بمصطلحات نتائج الاختبارات
البارابسيكولوجية فمن المحتمل أن تلك
الأشياء نفسها تُعَد عادية. وعالم الحيوانات
يقدم أمثلة متعددة على القوى التي هي في
ظاهرها خارقة للعادة – غرائز العودة إلى
الموطن عند بعض الطيور والقدرة على اجتياز
المسافات الكبيرة في الهجرة – التي فسرها
العلم بوضوح الآن. إن الملاحظة الدقيقة
والتجريب، إذا كانا صادقين، فإن الظواهر
الخارقة للعادة قد تكون قابلة للتفسير كذلك.
وقد تم الكثير من
الاتصال بين الأهداف والأفكار بالكلمات،
ولكن هناك أمثلة لا تُستخدَم فيها الكلمات.
والشرقيون يعلقون أهمية كبيرة على الاتصالات
بين السمات الروحية للبشر، وهذا النوع من
الاتصال (وهو يسمى باليابانية إيشين–دنشين ishin-denshin) لا يتم بعون من
الكلمات. ويبدو لي أن الطرق الخاطئة في تنمية
هذه الطرق الإنسانية الغيبية – أو ربما ليس
في تنميتها أبداً بل في السماح باحتقارها
وتركها تضمر – قد منعها من أن تظهر مفهومة كما
يمكن أن تكون.
وحدث ما يشبه ذلك في
حالة الحدس. ففي أكثر الأحيان يكون الثناء على
الحدس أقل بشكل واضح منه على العقل، وعلى غرار
التخمينات الحدسية الخاطئة التي تصير معرفة
عامة يُرفَض تصديق الحدس. وما دامت العملية
التي يجري بها الحدس غير واضحة فإنه يُدان
بسرعة بوصفه غير علمي. إلا أن الموقف الذي
يدينه يسبب إرغام المرء على الاعتماد الكلِّي
على العقل، وبهذا النحو يضحِّي بقدراته
الحدسية.
والوعي ذو المستوى
العميق يتجاوز العقل، ومن الممكن أن يعمل
بقدر كبير من الرهافة والسرعة والدقة. ورغم أن
هذه القدرة متأصلة في الحياة فإن التطور
الحضاري للجنس البشري قد أضعفها. والنتيجة هي
أن الإنسان أخذ يعتقد أنه يستطيع أن يؤدي دوره
على نحو مُرْضٍ، ولو كانت قدراته الواعية
العميقة خامدة. وبكلمات أخرى، فإن الوعي
البشري السطحي، ولاسيما العقل، قد قمع الوعي
الإنساني الأعمق.
توينبي:
هناك ميل لدى القدرة القديمة إلى الضمور
عندما تلحق بها قدرة جديدة. وهذا مؤسف، لأن
القدرة الجديدة نادراً ما تؤدي كل وظائف
القدرة القديمة، رغم أنها قد تؤدي بعض وظائف
القدرة القديمة بشكل أكثر فعالية، ومن الممكن
كذلك أن تؤدي وظائف جديدة لم تكن تؤديها
القدرة القديمة ولم تستطع ذلك. وعلى سبيل
المثال، فإن القدرة على التذكُّر تضعف عند
الشعوب التي أصبحت مثقفة. ولعل معرفة القراءة
والكتابة تشكو كذلك من استخدام الإذاعة
والتلفزيون بوصفهما وسيلتي اتصال. وعلى النحو
نفسه، أعتقد أن ما تحت الوعي قد ضمر عند البشر
ببلوغهم الوعي، الذي أتى معه العقل والثقافة.
وبوسعنا أن نرى العملية نفسها في شبكات
التكنولوجيا. فالأقنية قد ارتبك عملها بالسكك
الحديدية، والسكك الحديدية بالطرق العامة
للإكسبريس، والسفن بالطائرات، والخدمات
البريدية بالهواتف. ورغم ذلك فإن الوسائل
الجديدة لا تؤدي كل وظائف الوسائل القديمة
التي أضعفتها، ويبدو التقدم في المجالين
المادي والروحي مرتفعاً على حساب الخسارة
التي نتحملها باستياء.