في اليوم الأوّل من العام الدراسيّ الجديد حذّرني مدير المدرسة الثانوية
التي قدِمْتُ إليها ضاجّة بروح الفلسفة. قال لي: ثمّة "شلّة" في الصفّ "س"
تعمل على إشاعة الشّغَب والفوضى، ومتى نَبَس أحدهم بكلمة أرسليه إليّ
فنجبره على توقيع تعهّد خطّي ثم نتولّى أمره". وبما أنّ المدير سلطة،
والسلطة (كما شاع وساد) لا تُناقش ولا تُعارَض، بادر المدرّسون إلى هزّ
الرؤوس موافقة، مردّدين جُمَله ذاتها، كما أن المدير كان بدوره يردّد
الجُمَل نفسها لسلطة أعلى تمارس "الببّغائيّة"، والكلّ يجترّ السلطة
بالوعي واللاوعي. وحين دخلتُ الصف "س" وجدتني أمام مراهقين بعمر السابعة
عشرة، قلتُ: صباح الخير، فردّوا : صباح النور، قلتُ: كيف حالكم يا
أصدقائي؟ أجابوا : جيّدين. تأمّلتُ ملامحهم فرأيتها ملامح إنسانيّة،
دقّقتُ النّظر في"الشلّة" التي حذّرني منها المدير وأعوانه و"حاشيته"
فاكتشفتُ أطفالاً يتوقون للتّعبير عن ذواتهم، نزعتُ من رأسي التفكير بهم
كـ"متآمرين" كما قيل لي فوجدتهم ظرفاء يمكن التّحاور معهم، حتى أن واحداً
منهم أعطاني بحميميّة شديدة قطعة البسكويت الوحيدة التي كانت معه حين شعر
أنه غير مرفوض من جهتي. وبعد فترة قصيرة صارت حصّة الفلسفة تُنتظر بلهفة،
وبدوري لم أرسل أيّاً من أفراد "الشلّة" "المتآمرين" إلى الإدارة.
لم أكن لأتطرّق إلى مسألة قد يُظن أنها شخصيّة، لولا شعوري بأنها ليس
شخصيّة البتّة، فمجتمع المدرسة ما هو إلا صورة -ولن أقول مصغّرة- عن مجتمع
أعمّ تحكمه سلطة الحقيقة الواحدة المطلقة التي لا تُناقش، حتى أن الخروج
عليها يعني واحداً من اثنين إما "العمالة والخيانة" وإما "الكفروالزندقة".
ترتبط العمالة والخيانة بالخروج على الحقيقة الواحدة المطلقة الملازمة
للاستبداد السياسي، كما يرتبط الكفر والزندقة بالحقيقة الواحدة المطلقة
اللّصيقة بالتطرّف الديني. وبين هذا وذاك تبرز وجاهة السؤال عن
الديمقراطية؟ عن سبب غيابها، بل كرهها وإقصائها؟!.
كان الدكتور"فؤاد زكريا" قد قدّم تحليلاً شديد الهدوء والعقلانيّة لسلطة
"الحقيقة الواحدة المطلقة" تلك، وكان ذلك في بحثه المُقدَّم إلى مؤتمر
الفلسفة الأول الذي انعقد في عمان، وقد صدرت بحوث المؤتمر المذكور تحت
عنوان الفلسفة في الوطن العربي المعاصر،ط1،بيروت 1985)، فقد تحدّث عن
توازي ضيق الأفق في التفسير الديني مع ازدياد الاستبداد السياسي، وبيّن أن
زوال حكم العقل، وانعدام النّقد والمناقشة وتأكيد السلطة المطلقة، هي
قواسم مشتركة بين التطرّف الديني والاستبداد السياسي، وكلاهما يساند وجود
الآخر ويدعمه حتى لو حاربه وقاتله. كما بيّن أن التطرّف الديني لا يظهر
عندما ينتشر المدّ الديمقراطي المستنير، إذ أنّ الديمقراطية تفرض سيادة
حكم العقل وانكماش السلطة المطلقة، وعملية الاختيار الحرّ بين اتجاهات
سياسية واجتماعية متعدّدة، تفترض قْدْراً لا بأس به من العقلانية يسمح
بالمقارنة بين هذه الاتجاهات والتفضيل بينها، بعد أن يكون كل منها قد شرح
برنامجه بوضوح، وفي مثل هذا الجوّ يذبل التطرّف من تلقاء نفسه، دون حاجته
إلى القمع أو إلى خوض معارك دمويّة. ويعتقد زكريا أن هذا هو السبب الحقيقي
للعداء بين الحركات الدينية المتطرّفة وبين الديمقراطية، وكثيراً ما يُقرأ
في أدبيّات هذه الحركات كلامٌ عن الأصل "الغربي" لكلمة الديمقراطية، وكيف
أنها فكرة "مستوردة" انبثقت أصلاً عن المجتمع اليوناني وارتبطت بنموّ
الحضارة الغربية ولا تصلح لظروف مجتمعنا العربي الإسلامي…إلخ. ولكن حقيقة
العداء بين التطرّف الديني والديمقراطية تبتعد عن كل هذه المزاعم الواهية،
فالديمقراطية بما تفترضه من عقلانية ومن روح نقديّة ترتكز على المناقشة
الحرّة، تهدم بلا معركة الأرض التي يرتكز عليها التطرّف الديني وتزيل من
عقول الناس مفهوم " السلطة المطلقة التي لا تُناقَش". إن الديمقراطية لا
تحارب هذا الفكر المتطرّف، وإنما تزيل أسباب وجوده، فالتطرّف الديني لا
يُضّطهد في النظام الديمقراطي، بل إنه ببساطة لا يجد التربة الصالحة
للظهور، أما الاستبداد السياسي فإنه يعطي التطرّف كل مقوّمات وجوده ويهييء
له المناخ الذي يسمح له بالازدهار، ولكن سرعان ما يقمعه بعنف إذا تجاوز
حدوداً معينة، وهو لا بدّ من أن يتجاوز هذه الحدود لأنّ التطرّف لا يمكن
حصره، وهكذا، فإن الاستبداد يدخل مع التطرّف في علاقة شديدة التعقيد، إذ
ينفعه ويضرّه في آن معاً، وينعشه ثم يخنقه في حركة جدليّة مأساويّة لا
مفرّ منها ومع ذلك فإنكَ لو سألتَ المتطرّف الديني، أيهما عدوّك الأكبر،
الحاكم المستبد الذي يفتح لك الأبواب ثم يقمعك أم الحاكم الديمقراطي الذي
لا يضّطهدك ولكنه لا يعطيك فرصة الظهور؟ لكان جوابه الذي أثبتته أحداث
التاريخ أن العدو الحقيقي هو الأخير.
ولأن الحقيقة الواحدة المطلقة التي تناولها فؤاد زكريا محلّلاً ليست إلا
السلطة بأوجهها المتعدّدة فقد يجوز لنا القول أيضاً إنها "الصّنم" الذي
بدأ الوعي في العالم العربي الإسلامي بتحطيمه منذ اندلاع ثورة الشعب في
تونس ضد نظامه الحاكم مع بداية عام 2011ثم انتفاضة الشباب والشعب المصري
بدءاً من 25يناير/كانون الثاني2011 ضد نظام حسني مبارك الأشدّ
ديكتاتوريّة(إنْ صحّ التعبير) من نظيره التونسي زين العابدين بن علي.
وتفترض مناقشة هذا الصنم تحديده أولاً، فما الصنم؟
لغويّاً: هو تمثال قد تكون مادته خشباً أو حجراً أو معدناً أو غير
ذلك، وكان يُعتقد أن عبادته تقرّب من الإله، والصّنم هو نفسه الوثن. إنه
تجسيد لإله على هيئة حسيّة مجسّمة، وتاريخيّاً: كان الوعي الأسطوري للعالم
يتم عبر الإله "الصّنم"، وقد كان من غير الممكن فهم شرّ العالم وخيره من
دون إله للخير وإله للشر، كما أنه من غير الوارد تفسير تغيّرات الطبيعة
وتحوّلاتها من دون إله المطر والخصب…إلخ وعلى هذا المنوال نَحَتَ الإنسان
آلهته، فالإله فكرة قدّها الإنسان مجسّداً لها على هيئة تمثال. غادر عصر
الآلهة وظلّ النّحت فنّاً يحاكي الأشخاص والطبيعة والأفكار والرؤى
والأحلام والخيالات الخصبة مجسّداً إيّاها على هيئة منحوتات "تماثيل"
تترجم رؤى جماليّة وأخلاقيّة معيّنة. وحيث أن النّحت لغة إنسانية عالية،
واستنطاقٌ لصمت المادة السّرمدي، وقدرة على الحوار حتى مع جماداتٍ عصيّة،
وبثّ للرّوح الإنسانية في المحيط. فإن الصنم المقصود للتّحطيم ليس بمنحوتة
فنيّة على الإطلاق، لأن له دلالات مختلفة ترتبط بإصرار العقل على التشبّث
بمفاهيمه التي تشيّأت على هيئة أصنام، كما أنها ترتبط بالإنسان وقد صار
عبداً لصنم قدّه بنفسه.
وبالعودة إلى الحقيقة الواحدة المطلقة "الصّنم" الذي بدأ الوعي الثوري
بتحطيمه في الشارع التونسي أولاً ثم المصري الذي بدأ تواليه في شوارع أخرى
من العالم العربي الإسلامي، قد يحقّ لنا القول إن الانقلاب على الصّنم ما
هو إلا انتفاض الإنسان للتحرّر من أناه العليا من حيث هي أنا عليا سلطويّة
ترتبط بالحقيقة الواحدة المطلقة التي لا تُناقش والتي تستعبد
الأنا..الأنوات ولا تكفّ عن الاستعباد. وكما أنه حريّ بالنبي "محمد" أن
يكون قدوة الأمة الإسلامية وقبلتها من حيث هو ثائر متمرّد على الأصنام،
التي طالما عاثت استعباداً بالناس في ذلك العصر، حريّ بالشعوب العربية
الإسلامية "الآن" أن تكون أيضاً قدوة للأجيال القادمة كمحطّمة عظيمة
للأصنام التي استعبدتها مبتلعة كرامتها الإنسانية، فتحطيم الأصنام البشرية
ثورة ضد قولبة الإنسان وتحنيطه، ثورة ضد التّشييء، تشييء الروح والإنسان.
والسؤال هنا : ما الأصنام التي بدأت الشعوب العربية الإسلامية للتوّ
بتحطيمها؟
لقد نفضت هذي الشعوب الغبار المتراكم على الوعي عبر اختراق حاجز "الخوف"
ونزع "القداسة" عن الأشخاص والمفاهيم دفعة واحدة. وبما أن الثورة على
الصّنم تفترض أولاً وقبل كل شيء ثورة على العقل الذي قدّ فكرته، فكرة
الصّنم، سنرى أن الثورة التونسية ومن بعدها المصرية تنطويان على تمرّد على
العقل أولاً، ولكن أي عقل؟ إنه العقل الذي تكلّس تحت وطأة المفاهيم
المقدّسة التي لا تُناقَش ولا تُعارَض حتى باتت مسلّمات تقتضي التّنكيل
بمن تسوّل له نفسه الخروج عليها. إن "الفكرة" "الصّنم" هي المبتغى الأوّل
في مغامرة التّحطيم. قال "تولوستوي" مرّة : "الكل ّ يفكّر في تغيير العالم
لكن لا أحد يفكّر في تغيير نفسه". ويبدو أن ذلك الذي ينوي تغيير نفسه قد
بدأ يتبرعم، فالإنسان الذي انتفض في تونس ومصر وينتفض هنا وهناك ربما قصد
تغيير نفسه أولاً عبر الانعتاق من وعيه الزّائف، والرّغبة في استعادة
إنسانيته التي هدرها عند عتبة قصر الحاكم، فهذا الإنسان هو نفسه من منح
الحاكم حقّ استعباده وهو نفسه الآن يثور على عبوديّة صنم من صنعه، إذن: إن
ثورة الإنسان في تونس كما في مصر ثورة على الذات أولاً، ذات تائقة
للتغيير، ولم تعد تحتمل نفسها في سجن الصّنم. إنها الثورة الأهم من حيث
شروعها للعمل على إعادة نسج الوعي من جديد عبر التفلّت من مفاهيمه القديمة
الرثّة وأملاً في إفراز مفاهيم جديدة. حقاً إن الطريق مازالت طويلة جداً
وشاقّة جداً، لكن مشوار الألف ميل لن يكون من دون الخطوة الأولى.
إن البداهة التي يفترضها الوعي في تفتّحه هي الإمساك برأس الخيط أولاً،
ورأس الخيط هو الصّنم الأكبر الذي بتحطيمه تتهاوى الأصنام الصغرى(إنْ صحّ
التعبير) على التوالي. والصّنم الأكبر هنا والآن يمثله "الديكتاتور"، إنه
الوجود الذي يشيع الكره والعداوة بين البشر، وإذا ما خاطب الناس تفشّت روح
المؤامرة والحذر، منه وبه يروج الفساد وينتعش الانحلال الأخلاقي في
المجتمع. إنه الشخص الطّافح حقداً وانتقاماً. في عهده يتسلّل الخوف
مختلساً الحبّ من البيوت والشوارع ومن كل مكان، خوف المحكوم من الحاكم
ورعب الحاكم من المحكوم، وكل يبتدع وسائل خداع الآخر تفادياً لخطره
المباغِت، يلجأ المحكوم إلى التّهليل والتّصفيق، فيزداد الحاكم شدّة
وتعنيفاً، ولا مانع من تحالف مع الشياطين لأجل دوام "قداسة"
الديكتاتوريّة. ولأن الديكتاتور عبد بامتياز استعبده كثر قبل أن يصل قصر
الديكتاتورية فإن عدوّه الأول والأخير هو الحرية والأحرار، لهؤلاء ينصب
الفخاخ ولا يتوانى عن النّصب.
إن الوعي العميق بهذه الحقيقة وتنامي الرغبة في الانقضاض عليها ولّد
مفاهيم انقلابيّة على الوعي ذاته كي ينعتق من خوفه أولاً وكي يتصدّى لمن
استعبده ثانياً، لطالما حكم هذا الوعي منذ قرون وقرون. أصنام نُحتت لتنسجم
دائماً مع السلطة أيّاً كان نوعها، فمن صنم الحاكم، إلى صنم رجل الدين،
إلى الشيخ أو الكبير في السن، وما يتبع ذلك طبعاً من صنم الرجل، ربّ
الأسرة، ربّ العمل، ثم صنم الحسب والنّسب والجاه والطبقيّة الاجتماعيّة،
ويبقى الصّنم الأشدّ فتكاً بالإنسان هو المال والثروة، المال الوسيلة وقد
استحالت غاية، غاية كل سلطة. "المال الصّنم" يركع له الديكتاتور أولاً.
إنه الصّنم المعبود الذي تُباع الأجساد وتُشترى لأجله، ولنواله يُتاجَر
بالشّرف والأخلاق والكرامة، به ولأجله تُنتهك حُرُمات الأوطان. إنه المالك
للإنسان المتوهِّم ملكيّته، فالمال ذلك الصّنم المعبود هو الطاغية
وهوالمالك الأكبر. بإدراك الوعي لقذارة الفساد في عمق أعماقه وفي متونه
وسطوحه يكون قد ثار محطّماً صنمه المعبود الأكثر قذارة…صنم المال.
مع تهاوي صنم الديكتاتور العظيم الجبّار الذي طالما كان أكذوبة كبرى
صدّقها الوعي تحت وطأة التّهديد والوعيد، تزول من الوعي سلطة "الواحد"
فينتعش بأوكسجين الكثرة والتعدّد، ويستتبع ذلك تحطيم صنم "الحزب الواحد،
الحاكم، القائد للدولة والمجتمع" ذلك الذي أتقن على مرّ عقود لعبة القول
والفعل دفعة واحدة، قول أخلاقي مقابل فعل لا أخلاقي. هكذا، وبعد تحطيم
الوعي للصنم الأكبر سيتمكن من مواصلة تحطيم أصنامه وتحرّره من جموده
وعبوديّته، لأن للحرية سحرا لا يقدر الوعي على التخلّي عنها، فهو متى
قاربها سيستقتل لأجلها، ولن يقبل بعدها بالعودة إلى سجن العبوديّة،
وسيبادر إلى رفض أي جهة تعلن نفسها ممثلة، أو متبنيّة له، فمن انتفض ضدّ
السلطة محطّماً صنمها لن يرضى بعد ذلك الرّضوخ لأي جهة كانت معارِضة
للسلطة وترغب الآن في السلطة لتستحيل بعد فترة صنماً يقمع من يعارضه.
بتحطيم الأصنام تعود الكرامة المهدورة، وبأفولها تسود الحرية وتنتعش
الديمقراطية، والديمقراطية لم ولن تكون إلا أسلوب حياة، عيشاً ومكابدة.
بأفول الأصنام تسود المحبّة والتآخي والاعتراف بالآخر ويخبو الكذب، كذب
التسامح السلطوي، وزيف "المنح"، منح حرية الرأي والتعبير، ومن ذا الذي
يمنح الحرية للبشر الأحرار أصلاً بالفطرة؟ وهل الوجود الإنساني إلا وجود
حر؟ وهل الحرية إلا نسغ الحياة النابع من مسامات الإنسان وخلاياه؟.
ولو شئنا أن نسمّي الوعي الجديد "الوعي الشاب" كونه وعياً انقلابيّاً على
وعي شيخوخيّ مترهّل وعميق الجذور في الثقافة العربية الإسلامية من جهة،
وكون العنصر الشبابي كان السبب في إشعال فتيل الثورة التي غدت شعبيّة
بامتياز من جهة أخرى، سنرى أن هذا الوعي الشبابي الجديد من حيث هو وعي
كوني إنساني شديد الصّلة بمفاهيم الحرية والعدالة الاجتماعية، وبمباديء
حقوق الإنسان، ومن حيث هو إدراك عميق لقسوة التّهميش والإقصاء، يحطّم
صنماً آخر من أصنامه عبر اكتناه ماهيّة "المركز والمركزيّة" التي تستمدّ
سلطتها من تكريس "الهامش والهامشيّة". إن وعي الهامش بأهميّته بالنسبة
للمركز يفكّك المسلّمات فتسقط كل النماذج والمقولات الجاهزة التي اعتاد
الوعي تداولها دون تفكير أو تمحيص. لقد استيقظ الوعي الشاب قاصداً تفتيت
صنم "الكبير في السن" بعد قرون طويلة من سبات ثقافي يؤبّد سلطة الكبار في
السن ويحصر الحكمة في الشيوخ. هكذا، تتهاوى سلطة اللغة الموروثة التي
تحنّط الأفكار وتنقلها بشكل متواتر للأجيال، والأمثولة الأولى التي تسقط
ها هنا هي تلك التي تقول: (إلي ما لو كبير.. ما لو تدبير) ليبدأ عهد جديد
يعيد النّظر فيما حمله الوعي من سلطة متوارَثة عبر اللغة بغية التحرّر من
العقل التقليدي الذي اعتاد التقليديّة. ولا شكّ أن التحرّر من العقل
التقليدي بما يحمله من إرث ضخم من الجهل والخرافة و..و.. يعني أيضاً تحطيم
صنم الذكوريّة والتفوّق الذّكوري، وتهافت الثقافة التي تخوّل للرّجل
إمكانيّة الانفراد بالفعل وتقرير المصير، وتقصي المرأة بعيداً عن كل فعل
سياسي يصنع الحاضر ليقرّر المستقبل، هكذا، فإن الوعي الجديد الشاب وعي لا
يقصي المرأة، بل يعمل على تكريس حضورها كحضور إنساني، واع، عاقل، محتج،
ثائر. فالتسامح "الآن" تسامح حقيقي لم يعد في مجال دون آخر، كما أنه لم
يعد مقصوراً على جنس دون آخر لأن الكل يحتوي ويشارك ويتفاعل، و"الكل" في
مجتمع إنساني، مدني، ديمقراطي يعني مجموع "ذوات" تعقل وتفكّر وتشعر
وبالتالي مجموع "أنوات" هي كيانات حرة مستقلة.