إيقاع وتزامنات الوعي
إن الزمن، كما كتب جورج لويس بورج Jorge Luis Borges "هو الجوهر الذي جبلتُ منه، الزمن نهر يجرُّني، بل إنني أنا الزمن". إن حركاتنا وأعمالنا تمتد في الزمن، تمامًا كما هو الحال بالنسبة لإدراكاتنا وأفكارنا أو لمحتوى وعينا. نحن نحيا في الزمن، وننظم الزمن، وبالتالي نحن كائنات زمنية حتى أعماق كياننا. لكن هل الزمن الذي نحيا فيه أو الذي ينظِّم حياتنا مستمر كما هو نهر بورج؟ أم علينا بالأحرى أن نقارنه بمتتالية من اللحظات المنفصلة التي تتوالى أو تتسلسل مثل حبات السبحة؟
كان مفهوم اللحظات المنفصلة في القرن الثامن عشر قد انتشر بين الفلاسفة إلى حدِّ أنَّ الفيلسوف ديفيد هيوم David Hume عبَّر عنه بقوله إنَّ الفكر ليس سوى "حزمة أو مجموعة من الإدراكات المختلفة التي تتابع بسرعة لا يمكن تصورها بحيث تكون في دفق وحركة مستمرين". ووفق وليام جيمس William James، الذي نقد هذه الرؤية في كتابه مبادئ علم النفس Principles of Psychology (1890)، كان "تصوُّر هيوم" قويًا جدًا بقدر ما كان مخفقًا. ورأى أنه كان يناقض الحدس. ويشير عندما يتحدث عن "تيار الفكر" إلى أنَّ الوعي يبدو بالنسبة للواعي مستمرًا دائمًا "بلا فواصل ولا تقطعات ولا انقسامات"، وهو لا يكون أبدًا "مجزأ ولا مقسمًا": حتى وإن كان محتوى الوعي أو محتويات الوعي تتغير باستمرار، فإننا ننتقل من فكرة إلى أخرى بلا تقطُّع، ومن تصوُّر أو إدراك إلى آخر بلا توقف أو انقطاع. وبالنسبة لجيمس فإنَّ الفكر بالنتيجة كان دفقًا مستمرًا، ومن هنا اختراعه لمصطلح "تيار الوعي". وعلى الرغم من أنَّ فلسفة العقل الفعال (وخاصة في منظور كانط Kant) جعلت الوعي كيانًا متصلاً، لكنها مع ذلك تحدَّثت عن إشكالية الزمن كشكل "غير مطلق" في المعرفة العقلية.
هل يمكن أن يكون الوعي "غير مستمر في الواقع (...) ولا يتمثَّل بشكله المتصل إلا تحت تأثير وهم مماثل لوهم المشاهدة عبر آلات العرض الأولى التي اخترعت في عام 1834 والتي كانت عبر تدويرها لمجموعة من الصور المتتابعة تعطي الانطباع بالحركة المستمرة؟" كما كان يتساءل أيضًا جيمس. قبل عام 1830 كانت مسارح الدمى أو الماكيتات الميكانيكية ثلاثية الأبعاد هي وحدها التي تسمح بتشكيل صور متحركة. ولم يكن أحد ليتخيَّل قبل هذا التاريخ أنَّ مستويات ثابتة من الصور يمكن أن تعطي إحساسَ أو وهمَ الحركة. فكيف أمكن لصور أن تبدو متحركة دون أن تكون متحركة بذاتها؟ لقد أثبتت هذه الآلة التي اخترعت في ذلك الحين أنَّ الصور المنفصلة يمكن أن تندمج في الدماغ لتعطي وهم الحركة المستمرة، ولم يتأخر هذا الاختراع ليتطوَّر بدوره وتولد السينما منه.
وبغض النظر عن تفسير قراءة الدماغ التي نعرفها اليوم لحركة الأفلام السينمائية، لكن يبدو أن الوصول إلى تقنيات جديدة يتيح الفرصة لطرح رؤية جديدة تتعلق بالمفاهيم الأساسية: هل الزمن متصل أم متقطع؟ هل سيأتي يوم نتساءل فيه إن كان الزمن، وبالتالي الوعي، حالة مختلفة عن كلتا حالتي الاتصال والتقطع؟
لو كان جيمس قد كتب بعد اختراع السينما، لكان أدرك التشابه مع الآلة السينمائية لأن دفق الصور المترابطة مع بضعها بعضًا موضوعاتيًا يرسم سردًا بصريًا يشكل جزءًا لا يتجزأ من وجهة نظر ومن قيم مصمم المشهد، والأفلام بهذا المعنى ليست بحال من الأحوال تحويلاً سيئًا لتيار الوعي. إن الطرق والمناهج التقنية أو المفاهيم الأساسية والمفتاحية في السينما (من ربط أو تراصف أو تقريب أو توهيم أو حذف أو تمييع أو غير ذلك) تعيد بإخلاص إنتاج هذه المشاهد من ألاعيب وتحويلات الوعي، بل ربما كانت قد صممت فقط لهذه الغاية أصلاً. وقد وضع هنري برغسون Henri Bergson أسس هذه المماثلة أو التشابه بعد ذلك بنحو عشرين سنة في كتابه التطور المبدع الذي ظهر في عام 1908، حيث خصص فيه فصلاً كاملاً "لآليات الفكر السينمائية والوهم الآلاتية":
إننا نأخذ مشاهد شبه لحظية من الواقع الذي يمر، و(...) يكفي لنا أن نسلسلها على امتداد مستقبل (...) يقع في عمق جهاز (آلية) الوعي لكي نقلِّد ما يوجد من تميُّز في هذا المستقبل نفسه. (...) نحن لا نقوم أبدًا بأي شيء آخر سوى بتفعيل نوع من التسجيل السينمائي الداخلي. (...) إن آلية معرفتنا المعتادة هي من طبيعة سينمائية.
هل كان كل من جيمس وبرغسون يدركان بالحدس حقيقة عميقة عندما قارنا الإدراك البصري – بل ودفق الوعي نفسه – بمثل هذه الآلية؟ وهل كانت آلياتهما الدماغية التي تعزو ترابطهما المنطقي للإدراك الحسي وللوعي متشابهة مع آليات الكاميرا وآلات الإسقاط والعرض السينمائية؟ هل تأخذ العين – الدماغ فعلاً مشاهد إدراكية يؤدي دمجها معًا إلى توليد انطباع الاستمرارية والحركة؟ بعبارة أخرى، هل تتشكَّل الاستمرارية لاحقًا للحدث؟ إن هذه المسألة لم تحل خلال حياة كل من هذين الفيلسوفين، وهي حتى الآن لا تزال تحمل الكثير من النقاط التي تحتاج إلى توضيح وإجابة.
إن مسألة الترابط الصوري تعكس في العمق مسائل أكثر إشكالية. فما هي المعايير التي تعطي لتواتر ولسرعة عرض الصور المأخوذة معنىً ما؟ وبعبارة أخرى، كيف يتفق المعنى المستمر مع وعي لصيرورة هي في الأصل مأخوذة كتشكيلات منفصلة؟ وإذا كنا ندرك معنى موضوعاتيًا من خلال تتالي الصور – الأفكار، فهل يمثل التواتر أو الاستمرار والسرعة شرطًا لإظهار المعنى؟ ومن هنا، هل يمكن لصورة واحدة أن تنقل شكلاً آخر من المعاني؟ مثال ذلك، هل يمثل التأمل في لوحة ما للحظة واحدة، أو لعدة لحظات، طريقة أخرى في التعامل مع المعنى؟ وكيف يستطيع الوعي أن يتعامل في هذه الحالة مع حالة مشهدين منفصلين في آن واحد؟ هل تكون العلاقة بين المشهدين كامنة شرطًا في إيجاد حركة مستمرة بينهما، أو في إيجاد حركة وعي بينهما؟
قد يقودنا ذلك إلى دراسة حالة التزامن بين صورتين أو مشهدين. لكن هل يمكن أن يكون ثمة أي معنى لتزامن مشهدين، مستمرين، إن لم يكن الوعي واحدًا في الحالتين؟ مثال ذلك، هل يمكن أن يكون لحصول واقعة ما علاقة بحصول واقعة أخرى إن لم يكن الوعي – الفكر، أو الصلة، ناشئًا عن معنى محفوظ خارج إطار التنظيمات الصورية؟
من جهة أخرى، عندما نرى شكلاً معينًا، كيف نحدِّد معنى هذا الشكل. ولماذا يمكن أن يفهمه شخصان بطريقتين مختلفتين؟ وعندما نسلسل صورًا آنية متعاقبة لحركة جسم ضمن سرعة معينة، لماذا يكون تسريع الصورة أحد طرق تحويل المعنى المتضمن في الحركة الكليَّة بالنسبة لمشاهدين مختلفين؟
على المستوى الكوني، تشتمل نظرية النسبية على إدراك نسبي لحركة المنظومات الكونية، دون أن يعني ذلك وجود انفصالية كونية. وعلى المستوى الكوانتي، يتمثَّل التقطع ويترافق بوعي لوجود تحت مادي هو الذي يؤسِّس البنى المادية الكبرى. ويبدو أن الوعي يبني صوره بشكل متوازي بحيث يمكن أن يحصل على لوحات مختلفة. ويكون إيقاع وتزامن قراءة مادة اللوحات أمرًا أساسيًا في تشكيلها وفهمها في النهاية.
عندما ندرس بعض حالات الفصام أو الهيستريا أو الأمراض النفسية الأخرى، بل وحتى بعض حالات الآلام المتعلقة بالشقيقة أو الصداع، نجد حالات من ازدواجيات أخرى ذات تفسير تزامني، أو ربما ذات بعد تزامني. فعندما ينتقل مريض فصامي عبر الزمن، ليصور من "وعيه" المتراكم عبر صور دراسته وثقافته وتربيته لوحات ليستحضرها في خضم حياته الحالية، أو على العكس عندما يتمثَّل صورة المستقبل وفق خلط لأوراق الحاضر وصوره، فإن حالة تزامنية من الأحداث الماضية والحاضرة بل والمستقبلية يمكن أن تتراكم في مخيلته دفعة واحدة، ويصبح تفسيرها قابلاً لمعان بالنسبة للمريض تختلف تمامًا عن أي منطق يمكن للطبيب، أو للمحيطين به، أن يستنتجوه.
ندرك هنا أن التزامن كحدث يستمد معناه من التفسير المتضمن في وعي سابق أو بشكل أدق في تصورات سابقة لحالات تزامنية وصلتنا عبر طرق كثيرة منها وأهمها ربما عدم الرغبة بالاعتراف بحقيقة الانفصال بين الأحداث وبالتالي بين السلاسل المنطقية التي تعطي تفسيراتنا صلابتها وبريقها المنطقي.
إن إيقاع تتالي الصور من جهة، وتزامن قراءة الصورة مع كافة المعطيات والمعلومات تحملها على خلفية "العقل الفعال"، يشكلان أساس الوعي الذي يغوص على ما يبدو في نسيج الخلايا العصبية للدماغ، ويحلق في الوقت نفسه في عوالم الذاكرة – الذاكرات والبنية الجمعية للكائن الإنساني.
درس أوليفر ساكس، أستاذ الدراسات العصبية في نيويورك، عدة حالات مرضية تمثَّلت في اضطراب عصبي نادر يحصل عند الدخول في حالات الصرع: فعندما يفقد هؤلاء المرضى الإحساس بالاستمرارية البصرية والحركية يشاهدون سلسلة من "المستويات" الصورية تومض في موضع المشهد الخارجي. وتكون في بعض الأحيان نقية ومميزة، وتتتالى في بعض الأحيان دون تراكب أو تشوش، وتكون هذه الصور أشبه بمشاهدة صورة مأخوذة بالكاميرا إنما التي ظلَّت معرضة لوهج الإضاءة فترة أطول من اللازم. وتميل هذه الصور في غالبيتها إلى الديمومة لفترة معينة بحيث تظلُّ كل واحدة منها مرئية بينما تصبح الصورة التالية لها مرئية أيضًا: وهكذا تتراكم ثلاثة أو أربعة مشاهد (تختفي الأقدم تدريجيًا لتحل محلها صور جديدة)، وتبهت القديمة بينما تتراكم الجديدة محلها فوق بعضها بعضًا. ويمكن أن يذكِّرنا ذلك بالمشهد السينمائي في بعض الأحيان، على الرغم من أن الفيلم سيظهر في هذه الحالة متقطعًا ومشوهًا وناقصًا، ويبدو فيه إيقاع الحركة متباطئًا بحيث يكون اندماج الصور مستحيلاً.
كان ساكس قد سجَّل هذه الوقائع البصرية نحو نهاية الستينات، وكان العديد من مرضاه من المصابين بالشقيقة أو الصداع المزمن. وقد أشار في كتاب له في عام 1970 أنَّ تواتر هذه الصور كان يتراوح بين 6 و12 صورة في الثانية، حيث كانت أشكال أو هلوسات تلوينية يمكن أن تومض أو تبرق أيضًا خلال لحظات الآلام الصداعية. ويمكن أن تتسارع الومضات مع عودة الحركة إلى طبيعتها أو تعود الهلوسة إلى تلطفها بشكل مستمر. ولما لم يستطع ساكس العثور على أي وصف مرض في أدبيات الطب لهذه الظاهرة – إذ كانت هذه الأزمات غالبًا ما تكون قصيرة وسريعة ونادرة وصعبة التنبؤ – فقد وصفها بأنها عبارة عن رؤية سينمائية، خاصة وأنَّ المرضى كانوا غالبًا ما يصفونها بالفيلم.
وعلى الرغم من غرابة هذه الظاهرة لكن تفسيرها الفيزيولوجي ظلَّ مستعصيًا طيلة الستينات. لكن سؤالاً ظلَّ يؤرق ساكس، وهو هل يكون الإدراك البصري مماثلاً فعليًا للتصوير السينمائي، بحيث أنَّ صورًا قصيرة ولحظية وستاتيكية (ساكنة) تنتمي لبيئة بصرية كاملة يتم إدراكها في البداية أو بالأصح تصويرها، ثم تندمج في مرحلة ثانية بشكل طبيعي بحيث تولد الانطباعات بالحركة والاستمرارية التي اعتدنا عليها؟ وهل يمكن القول بالتالي إنَّ هذا "الاندماج" لا يتم ظاهريًا في الإطار غير الملائم عند الدخول في حالات الشقيقة والصداع؟
والحقيقة أنَّ ظاهرات كثيرة تنتج تأثيرات بصرية مماثلة أو قريبة، ومنها بعض أشكال الصرع وحالات من التسمم (وخاصة تلك التي تلي تناول بعض المهلسات مثل المخدرات أو الكحول أو غيرها وخاصة ما يعرف بالـ LSD). لكن هذه الظاهرات ليست وحدها التي يمكن أن تؤدي إلى مثل هذه التأثيرات البصرية، بل ويمكن أن نذكر الأشياء المتحركة التي تترك أثرًا بصريًا خلفها، والتكرار المتزامن لصور أو عرض غير معتاد "لصور متعاقبة".
عاش ساكس تجربة من هذا النوع بعد أن شرب من شراب الساكو، وهو مادة مهلسة ومرخية منتشرة جدًا في جزر ميكرونيزيا، ووصف آثار هذا التحضير في كتاب له بعنوان L'île en noir et blanc:
كانت وردة على طاولتنا تشعُّ بتلات شبحية تشكِّل ما يشبه الهالة؛ فعندما كنت أنقلها ألاحظ انزياحًا طفيفًا مرئيًا، نوع من البقعة الضوئية الطفيفة، أو نوع مما يشب مخر السفينة المحمر. وعندما كنت أنظر إلى نخلة تتمايل كنت أرى تتاليًا من الصور مثل فيلم كان يعرض ببطء ويفقد شيئًا فشيئًا أثره.
ويقول بول فريس Paul Fraisse في كتابه نفسانية الزمن Psychologie du temps إنَّ ظاهرات غير مرئية أو غير ملاحظة في الزمن العادي تكون قابلة لتصبح مؤكدة الوقوع أو الظهور تحت تأثير "المرآة المكبرة" لعلم الأمراض، وربما كان من الملائم أن نتساءل هنا إن كان الأمر هو نفسه في هذه الحالة أيضًا التي ذكرها ساكس. وهل أنَّ الانقطاعات التصورية يمكن أن تكون ملاحظة في الشروط العادية؟
ثمة مثال مألوف هنا ربما يجدر بنا ذكره: إذ يكفي أن ننظر إلى الأجسام الدورانية التي تتحرك حركة منتظمة (مثل شفرات المراوح، أو العجلات، ... إلخ)، أو المرور أمام حواجز أو أسيجة ذات فتحات بحيث تبدو الاستمرارية الطبيعية للحركة وقد تقطعت فجأة. فعندما ننظر على سبيل المثال إلى المروحة المعلَّقة في السقف ونحن في وضعية استلقاء تحتها يمكن أن نشعر بأنَّ حركتها تدور في الاتجاه المعاكس لبضعة ثوان قبل أن تعود الحركة إلى اتجاهها الطبيعي المعتاد. وهكذا تراودنا الأحاسيس للحظات بأنَّ هذه الشفرات تطير فوق رأسنا أو تتوقف، ونعتقد أحيانًا أنها تتضاعف أو تتغطى بشرائط سوداء أعرض منها.
إنَّ ظاهرة العجلة المتراجعة، أو عجلة القطار كما تعرف تشير إلى أنَّ إيقاع الصور البصرية المأخوذة وسرعة دوران العجلات غير متزامنين. بل إنَّ هذه الظاهرة مثبتة أيضًا في الحياة الواقعية. فهل أن آلياتنا الإدراكية تومض عندما نراقب دوران مروحة مع وهج الشمس المشرقة عليها أم ستكون هذه الآليات غير متزامنة معها؟ وذلك مرة أخرى بغض النظر عن حركة الكاميرا اللاقطة للصور؟
لقد أثبت دال بورفس Dale Purves من خلال استكشافه ودراسته لهذه الأوهام من نمط عجلة القطار أنَّ هذا النوع من الإدراكات التوهمية أو المغلوطة هو نمط عالمي. فبعد أن استبعد كافة الأسباب الأخرى الممكنة للتقطع (مثل الإضاءة المتناوبة أو المتقطعة أو الحركات العينية، إلخ.)، توصل مع فريقه إلى النتيجة بأنَّ المنظومة البصرية تعالج المعلومات التي تتلقاها "في فترات تسلسلية" بسرعة تتراوح من ثلاث إلى عشرين فترة في الثانية، حيث تكون هذه المتواليات من الصور قد أبصرت بشكل طبيعي كدفق من الإدراكات المستمرة غير المتقطعة: وتوحي هذه النتائج بأنَّ الأوهام السينمائية الطابع ذات أساس فيزيولوجي وذلك للسبب البسيط بأننا نقطع نحن أنفسنا الزمن والواقع مثل الكاميرا، ونجزئ الحدث إلى صور ثم نعود فنجمعه في دفق يبدو لنا مستمرًا.
ووفق بورفس، فإنَّ هذا التقطيع بالتحديد لكل ما نراه في سلسلة من اللحظات المتعاقبة هو الذي يسمح للدماغ بأن يكشف، ثم "يحوسب" إذا جاز التعبير الحركة: فكل ما يقوم به هو تحديد المواضع المختلفة التي تحتلها الأجسام والأشياء من سوية تصويرية إلى سوية تصويرية أخرى، ثم يستخلص منها اتجاه وسرعة انتقالاتها.
لكننا بالتأكيد لا نتوقف عند هذا الحدِّ من حساب الحركة مثل الآلة. فنحن نرى الحركة تمامًا كما نرى اللون أو العمق والبعد، إضافة إلى كل ما يمكن أن يرافقها من معاملات حسية أخرى، مثل تجربة نوعية وحيدة من نوعها لأنه لا غنى عنها للتمييز وللوعي البصري. إنَّ تولد الكاليا qualia، وهي التجارب النوعية مثلما تتبدى لنا ونعيشها، لا تزال غير مفهومة بالنسبة لنا. فنحن لا زلنا نجهل كيف تتحوَّل الحسابات الدماغية الموضوعية إلى خبرات ذاتية. يطرح الفلاسفة باستمرار في جدل مزمن أنماطًا لهذه التحولات متسائلين في الوقت نفسه إن كانوا سيتوصلون يومًا إلى وصفها. أما بالنسبة للأخصائيين بالعلوم العصبية فهم يكتفون حتى اليوم بالاستنتاج أنَّ هذه الأحداث تنتج فعلاً، ويحاولون اكتشاف الأسس أو "الروابط العصبية" للوعي مبتدئين بأشكال الوعي الأولية جدًا مثل إدراك الحركة.
وفي الحقيقة، فإنَّ طروحات جيمس أو برغسون كانت مجرد تشبيهات لما يمكن أن يكون عليه الوعي. فمنذ ثلاثة عقود لا أكثر بدأت العلوم العصبية تطرح بعض الأفكار الجدية حول الأسس العصبية للوعي. لقد تطورت هذه الدراسات بشكل خاص بدءًا من السبعينات. فبعد أن كانت دراسة الوعي على المستوى العصبي من المحرمات، أصبحت منذ ذلك الحين فصاعدًا علمًا قائمًا بذاته يعمل فيه آلاف الباحثين. وأصبحت كافة سويات الوعي وأنماطه قابلة للدراسة والاستكشاف، بدءًا من الآليات الإدراكية الأساسية (المشتركة بيننا وبين الكثير من الحيوانات) وحتى الوظائف النفسية العليا للذاكرة والتخيل والوعي التأملي الذاتي.
لقد أصبح من الممكن في أيامنا هذه القيام بتصوير آني لسلوك مئات الأعصاب الفاعلة عند الحيوانات غير المخدرة وهي تقوم بوظائف إدراكية أو عقلية بسيطة. وتسمح تقنيات التصوير الطبي المختلفة اليوم بدراسة وفحص نشاطات مساحات دماغية واسعة، ويمكن تطبيق هذه المناهج على الإنسان وهو يقوم بوظائف عقلية معقدة.
وتضاف إلى هذه الدراسات الفيزيولوجية الطريقة الحديثة نسبيًا في النمذجة العصبية على الحاسوب والتي تسمح بمراقبة ومعرفة كيف تقوم مجموعة من الأعصاب الافتراضية الخاضعة لضغوط معينة بالانتظام والسلوك.
والحقيقة أنه بفضل الأبحاث العصبية الحديثة يلج العلم اليوم مجاهل لم تكن معروفة أبدًا ليقف على أعتاب اكتشافات كبرى على مستوى العلم والتاريخ. وكان من أحد أهم الأعمال التي تمَّت في هذا المجال القدرة على التعامل مع عدد كبير جدًا من الأعصاب (مائة مليار تقريبًا) في الدماغ الإنساني. وبهذا الشكل بتنا نعرف اليوم أننا إذا غيرنا قليلاً في قوى الترابط العصبية فإنَّ التجربة يمكن أن تؤدي إلى تشكُّل مجموعات وظيفية عصبية في كافة مناطق الدماغ، وهي مجموعات توافق تفاعلاتها فئات تجريبية محددة.
وهكذا، على عكس التصور القديم للوظائف الدماغية الحاسوبية الشكل أو المحددة تمامًا والتي لا يمكن أن تتغيَّر أو تتعدَّل، فإنَّ التصور الحديث الذي حلَّ محل التصور القديم لآليات عمل الدماغ، وهو أكثر بيولوجية وأكثر عمقًا من القديم، يقول بمفهوم "الانتخاب عبر التجربة"، أي أنَّ التجربة المعاشة هي التي تصيغ الاتصالية والوظيفة الدماغية (وذلك ضمن حدود مورثية وتشريحية وفيزيولوجية بالتأكيد).
إنَّ هذا الانتخاب للمجموعات العصبية (الذي يمكن أن يصل إلى نحو ألف منها) والآثار التفاضلية التي تتركها على الشكلانية الدماغية خلال حياة الكائن يلعبان دورًا مماثلاً إلى حدٍّ ما في الاصطفاء الطبيعي في نظرية تطور الأنواع. وقد تحدَّث الباحث الأمريكي في هذا المجال جيرالد م. إدلمان Gerald M. Edelman حول هذه "الداروينية العصبية"، في حين أنَّ عالم الأعصاب الفرنسي جان بيير شانجو Jean-Pierre Changeux المهتم أكثر بالاتصالات العصبية فيتحدث من جهته عن "داورينية نقاط الاشتباك العصبية". وقد نشر كلا الباحثين مؤخرًا دراسات حول هذه النقطة.
كان ويليام جيمس يؤكد باستمرار أنَّ الوعي ليس شيئًا محددًا بل هو "صيرورة". ووفق إدلمان، فإنَّ كافة الصيرورات الواعية ترتكز على التفاعلات الديناميكية والمتبادلة للمجموعات العصبية المحلية في مساحات القشرة الدماغية المختلفة والثالاموس ومناطق دماغية أخرى. وهو يرى أنَّ التفاعلات اللامعدودة بين المنظومات الذاكراتية للدماغ السابق، ومنظومات التصنيف والمنهجة الإدراكية للدماغ اللاحق هي جوهر وأساس الوعي.
ومن بين هؤلاء الرواد في دراسة الأسس العصبية للوعي لا بد أن نذكر أيضًا فرانسيس كريك Francis Crick (وهو مكتشف "الجديلة المزودوجة") وزميله كريستوف كوخ Christof Koch، وكانا قد وضعا منذ الثمانينات دراسة أوليَّة مخصَّصة للإدراك البصري الأولي وللصيرورات التي يتحيها. وبالنسبة لهما فإنَّ دراسة الوعي البصري هي نقطة انطلاق مثالية: فليس فقط أنَّ آليات الرؤية يمكن أن تكون قد استكشفت حاليًا ضمن الوضع الراهن للتطور التقني في التصوير العصبي، بل وهي تسمح بالإضافة إلى ذلك بنمذجة استثمار وفهم الأشكال العليا للوعي.
وقد عالج كلٌّ من كريك وكوخ في المقال الذي نشراه في مجلة Nature Neroscience في شباط 2003 في آن واحد الروابط العصبية لإدراك الحركة، وللإدراك البصري أو لبناء الاستمرارية البصرية، وبالنتيجة للاستمرارية الظاهرية للوعي بحصر المعنى. يقولان:
إنَّ الوعي [البصري] يلاحظ أو يدرك سلسلة من الآنات السكونية التي رُسمت عليها الحركة، (...)، وتكون هذه الملاحظات أو الإدراكات منفصلة زمنيًا.
عندما قرأ ساكس هذه العبارة بعد بضعة شهور، ذُهِلَ من تشابهها مع مقولات جيمس وبرغسون. ومع ذلك فقد لاحظ أنَّ ما تمَّت معالجته هنا يختلف عما كان قد وصفه له مرضاه كـ "رؤية سينمائية"، وهو إمكانية أن تكون النشاطات العصبية هي الأساس الحقيقي للوعي!
لكن على عكس مثيلاتها من المشاهد أو اللحظات أو الآنات السينمائية، فإنَّ آنات كريك وكوخ ليست متطابقة أو من نمط واحد: فمدة الآنات المتعاقبة لا يمكن أن تكون ثابتة كما يقولان، بحيث يمكن ألا تتتالى أو تتطابق زمنيًا آنات اللون والشكل مثلاً. وعلى الرغم من أنه من الممكن جدًا أن يكون محرك هذه الآلية "في التقاط الآنة" من قبل المستقبلات العصبية البصرية محركًا آليًا ولا يتطلب عمليات عصبية معقدة جدًا، لكن كل ملاحظة أو إدراك بصري يجب أن يشتمل على عدد كبير من الصفات البصرية المرتبطة بالضرورة بمستوى ما قبل الوعي. فكيف بالنتيجة "تتجمع" عدة آنات مختلفة لتشكل استمرارية ظاهرية، وكيف تصبح واعية؟
على الرغم من أنَّ تمثيل حركة خاصة يمكن أن تنسب إلى تحريض عصبي ينتقل بسرعة معطاة في مناطق القشرة البصرية المتخصصة في إدراك الحركة، لكن ذلك ليس سوى بداية عملية أكثر تعقيدًا بكثير. فللوصول إلى الوعي لا بد لهذا التحريض العصبي أن يتجاوز عتبة معينة من الكثافة ويظل فوق هذا المستوى. فبالنسبة لكريك وكوخ يكون الوعي عبارة عن "ظاهرةٍ تتعلَّق بعتبة معينة". ولا تتوصل مجموعة الأعصاب المعنيَّة إلى هذه العتبة إلا بتأمين مساهمة أجزاء أخرى من الدماغ (تقع في الفصين الجبهيين غالبًا) وبالارتباط بملايين الأعصاب الأخرى التي تشكِّل معها نوعًا من "التكتل" أو "التواصل": وهي تكون قادرة على التشكُّل وعلى التحلُّل في أجزاء من الثانية، وتؤدي خلال هذه اللحظات القصيرة إلى تشكُّل اتصالات متبادلة بين القشرة البصرية والعديد من المساحات الدماغية الأخرى، حيث تتواصل كافة هذه المناطق بدورها و"تتحاور" أو تتبادل المعلومات معًا دون أن تنفك عن التفاعل. وهذا يعني أنَّ وعي إدراك حسي بصري واحد يمكن أن يتطلب تفعيل مليارات الخلايا العصبية بحيث تنشط معًا وعلى التوازي لا بل وتقوم بتعديل بعضها بعضهًا.
ويرى ساكس أنَّ نشاط أحد هذه التكتلات أو التواصلات، أو تكتل التكتل أو تواصل التواصل، لا يجب فقط أن يتخطى عتبة معينة من الكثافة لكي يصبح وعيًا، بل وأن يستمر لوقت معين يصل إلى نحو مائة ميلي ثانية تقريبًا: وتلكم هي مدة "اللحظة الإدراكية".
وفق كريك وكوخ، فإن الاستمرارية الظاهرية للوعي البصري ترجع إلى واقع أنَّ نشاط التكتُّل المتضمن يمثِّل نوعًا من التخلفية، مثل تخلُّف الآثار المغنطيسية بعد زوال أثر المغنطيس، أي أنه يدوم لفترة أطول من المنبه أو الحافز. ويرى ساكس أنَّ هذه الفرضية تشبه إلى حدٍّ كبير مفهوم "استمرارية الرؤية" الذي طرحه نظريو القرن التاسع عشر. فقد كتب هرمان هلمهولتز Hermann Helmholtz على سبيل المثال في كتابه Optique physiologique (1860) أنَّ "تكرار الانطباع يجب أن يكون سريعًا جدًا حتى لا يتقلص الأثر التعاقبي عند كل انطباع بشكل كبير عندما يأتي الانطباع الثاني". لكنه كان يفترض مثل أقرانه في تلك الفترة أنَّ "هذا الأثر التعاقبي" كان يظهر في الشبكية، في حين أنَّ كريك وكوخ يضعانه في تكتل وترابط الأعصاب في القشرة الدماغية. وبعبارة أخرى، فإنَّ انطباع الاستمرارية ينتج عن تشابك وتداخل مستمر للحظات الإدراكية الحسية المتعاقبة. وهكذا يمكن لأشكال الرؤية السينمائية التي وصفها ساكس – أكانت الصور منفصلة تمامًا عن بعضها أم كانت في حالة بهتان ويغطي الجديد منها القديم جزئيًا – أن تعزى لتخلخلات في تهيجية التكتلات ناجمة عن تخلفية تكون كثيفة جدًا أو ضعيفة جدًا.
في الظروف العادية لا تبدي الرؤية أيَّ شكل من أشكال الاستمرارية التي تكشف عن الصيرورة الكامنة أو التحتية التي ترتكز عليها. وحده تقطيعها أو تحليلها المرتبط تجريبيًا باضطرابات عصبية يمكن أن يظهر هذه العناصر البنائية لها: إنها عبارة عن رؤية متقطعة (حيث تكون الصور وامضة ومستمرة الأثر وتصبح باهتة مع الوقت وملازمة لبعض حالات التسمم أو الصداع الشديد)، الأمر الذي يقودنا إلى التفكير أنَّ الوعي مؤلف فعلاً من لحظات منفصلة.
وأيًّا كانت الآلية التي يتمُّ بها الوعي، فإنَّ اندماج الصور أو الآنات البصرية المنفصلة أمر ضروري ولا غنى عنه لاستمرارية وسلاسة وحركة الوعي. ولا شك أنَّ هذا النوع من الوعي الديناميكي كان قد ظهر للمرة الأولى عند الزواحف، منذ نحو مائتين وخمسين مليون سنة. ومن المرجح أنَّ مثل تيارات الوعي هذه غير موجودة عند كائنات مثل الضفادع التي لا تبدي أيَّة إشارة انتباه يقظ ولا أيَّة حساسية للتوالي البصري للأحداث. فالعالم البصري عند الضفادع أو الوعي البصري عندها لا يشبه وعينا. فهذه الكائنات تستطيع آليًا التعرف على الحشرات التي تدخل في حقل الرؤية عندها وتطلق لسانها آليًا باتجاهها. فرؤيتها ليست "سوى آلية التقاط للذباب، لا أكثر". فإن كانت ديناميكية وسلاسة الوعي مؤاتيتين لاستمرارية ونشاط التجربة البصرية أو النظر على مستوى أدنى، فإنهما يسمحان أيضًا للإدراك والذاكرة، أو للحاضر والماضي، بالتأثير والتدخل على مستوى أعلى. وهذا الوعي، "الأوليُّ" كما يلاحظ إدلمان، هو وعي فعال بقدر ما هو تأقلمي بدرجة عالية جدًا فيما يتعلق بالكفاح من أجل الحياة والبقاء.
لقد تمَّ الانتقال من هذا الوعي الأولي البسيط جدًا إلى الوعي البشري بفضل اللغة، أي إلى وعي الذات وإلى فهم الماضي والمستقبل: إنَّ الاستمرارية الموضوعاتية والشخصية للوعي الفردي تتعلق بهذه المعاملات الثلاثة. ومع ذلك فمن الخطأ أن نتصور أنه من المسموح لنا أن نكون مشاهدين حياديين وغير فاعلين أو مؤثرين ومتأثرين. فكل إدراك وكل مشهد هو ثمرة تصورنا، أكنا نريد ذلك أم لا، أكنا نعرف ذلك أم لا. فنحن من يقوم بإخراج الفيلم الذي نقوم بإنتاجه ونكون فيه الموضوع والممثلين: فكل صورة من هذه الصور، وكل لحظة من هذه اللحظات، تشكِّلنا وتنتمي لنا في الوقت نفسه. فبها كما يقول بروست Proust، إنما تُخطُّ أشكالنا وبنانا، حتى وإن لم يكن لنا وجود أو واقع سوى ما تعطينا إياه هذه الصور.
ولكن، في هذه الحالة، كيف تتواصل وتتشاكل هذه الصور واللحظات؟ وإن كان كل شيء وقتيًا وعابرًا ولحظيًا، فكيف نتوصل إلى الاستمرارية؟ وفق جيمس، فإنَّ أفكارنا لا تشرد بلا هدف كما القطيع البري، بل هي تنتمي كلها إلى أحد ما – أي إلينا – وتحمل علامة هذه الملكية حيث تكون أقل فكرة وأبسط صورة من أفكارنا وصورنا تابعة منذ ولادتها للأفكار التي سبقتها "لتموت هكذا مملوكة وهي تنقل كل ما أنجزته وأصبح يشكل خصوصيتها إلى مالكها الأخير".
تلك إذن ليست فقط لحظات إدراكية حسية، ولحظات فيزيولوجية بسيطة، بل لحظات شخصية بشكل أساسي يبدو أن كياننا نفسه هو الذي يشكلها: وفي نهاية الأمر، فإنَّ ذلك كله يعيدنا إلى الصورة البروستية التي أشبه ما تكون بالتصويرية (بل والقريبة جدًا من صورة هيوم) للكائن الإنساني الذي يشتمل وجوده على "مجموعة من اللحظات"، حيث تجري هذه اللحظات إحداها في الأخرى على مثال نهر بورج.
إنَّ الذات، وهي تعي نفسها على مرأى من ذاتها، وتقف في لحظة تشكل الصورة وإدراكها على مدى لازمني من الماضي والمستقبل، تاركة في حقيبة الذاكرة الجمعية خبرة الآن، تتحضر إلى تحوُّلٍ جديد في الوعي على مستوى الإنسان وإلى تطوُّرٍ مؤكد على مستوى العمل الدماغي. ويبدو أنَّ الوعي، في اكتشافه لنفسه على مدى أفق الاتصال بين الزمني واللازمني، بين المتصل والمتقطع، بين الشكل والمعنى، بين الإدراك والصورة، بين المادة والمجرد، يمضي باتجاه قدرة أكثر فاعلية وإبداعًا نحو خلق معان جديدة وكائن جديد.
*** *** ***