عبد الرحيم أريري مدير نشر "الوطن الآن"
منذ استقلال المغرب لم يكن الصراع بين أطراف الحقل السياسي والقصر يتمحور
حول تقاسم السلطة، بل كان الصراع يتركز حول من سيحتكر السلطة المطلقة. في
البداية كان الصراع بين حزب الاستقلال والقصر، وبعد الانشقاق الذي عرفه
حزب الاستقلال أصبح الصراع بين القصر والعائلة اليسارية. وحتى لما خلقت
الأحزاب الأخرى فإن شرط وجودها كان هو وقف الهيمنة الحزبية و تحولت إلى
«دروع بشرية» لحماية عرش المرحوم الحسن الثاني من أن يتم نسفه من طرف
معارضيه. وطوال الميزانية الزمنية للمغرب المستقل كان الانشغال الرئيسي
للقصر هو البحث عن أنجع السبل لحماية نفسه من المؤامرات والانقلابات
والعمليات المسلحة وليس الاهتمام بتدبير شؤون الدولة وتلبية مطالب المجتمع
في إطار من النجاعة وتجويد المرافق العامة، كان يفسر ذاك التساهل تجاه كل
حالات الفساد والإفساد لأن التناقض الأول بالنسبة للقصر هو سحق اليسار
وليس اقتياد المغاربة إلى حيث رغد العيش.
بالمقابل كان الانشغال الرئيسي كذلك للأحزاب المعارضة هو نسج التحالفات مع
كل الشياطين المعادية للحسن الثاني للإطاحة به تعلق الأمر بالارتماء في
أحضان التمويل الليبي أو الجزائري أو السوري أو الناصري أو العراقي،
فالمهم بالنسبة لهذه الأحزاب ليس هو تكوين الكودار المنتظر أن تتسلم دفة
إدارة الشأن العام بقدر ما يهمها هو تكوين الانقلابيين والمنظرين للإشاعة
والتخوين. وكان من الطبيعي أن تبصم دساتير الحسن الثاني الخمسة (70-72
-92-96) بهذه البصمة الصدامية المتحورة حول من سيحتكر السلطة المطلقة.
لدرجة أنه لما نضج القصر والمعارضة وانتبها إلى أن صراعهما لم ينتج سوى
الفقر والتخلف والأمية والانحطاط الاقتصادي بالبلاد توافقا على التناوب.
وهنا كانت المفاجأة للطرفين: فالدولة انتبهت إلى أنها خلال نصف قرت لم
تراكم الخبرة في إدارة الشأن العام بما يرفع من مستوى البلاد عالميا، بل
راكمت فقط الخبراء في التعذيب والاختطاف والاغتيال واستعمال الطائرات
العسكرية لقصف المدنيين وبناء المعتقلات السرية الرهيبة. كما أن المعارضة
لما تسلمت الحكم اكتشفت أنها بعيدة كل البعد عن أوحال المجتمع ولا تتوفر
على الكوادر اللازمة لتدبير الشأن العام لأنها لم تراكم، بدورها، سوى
الشهداء والمنفيين والمعتقلين والمختطفين وأصحاب العاهات الناتجة عن شدة
التعذيب.
لكن مع تسلم الملك محمد السادس
الحكم، انطلقت الساعة الصفر للدولة التدبيرية وتم ردم «الدولة الصدامية» ،
وبدأ المغرب يستأنس ويتمرن على الإشكاليات الاجتماعية من قبيل: كيف ينبغي
أن نضمن الانصاف المجالي والتوازن الترابي؟ كيف السبيل لتوطين المشاريع
المهيكلة الكبرى؟ ما هو سبب إخفاق منظومتنا التعليمية؟ لماذا لا نتوفر على
بوليس احترافي؟ لماذا لم ينجح المغرب في التوفر على صحافة مواطنة؟ماهي سبل
رفع الناتج الداخلي الخام؟ كيف ستتحقق عملية التوزيع المنصف للثروة
الوطنية؟ ما هي مواصفات التأهيل الحضري وتوفيربنيات استقبال آلاف النازحين
من الأرياف؟
هل مواردنا الطبيعية (غابات +ثروة بحرية +مائية...) ملك لنا أم ملك للأجيال المقبلة؟ ما هي مواصفات الحكامة الجيدة؟ إلخ...
هذا التمرن أنتج اليوم دستور 2011 الذي يشكل وثبة من الصراع حول من سيحتكر
السلطة المطلقة إلى التأسيس لضوابط توزيع السلطة بين الفاعلين السياسيين.
وإذا كان الرأي العام قد مل سماع أسطوانة الأحزاب من أن الحكومة لا سلطة
لها وبأن الوزراء مجرد «كومبارس» في العشرية الأخيرة، فالأمل هو أن تطوى
هذه الصفحة لأن الحزب الحاكم غدا إما أن يبرهن أنه يملك نخبة مكونة ومؤهلة
لإدارة البلاد أو«يخوي البلاد» إلى الأبد. فالدستور واضح، والاختصاص واضح
و « للي قال لعصيدة باردة يدير يدو فيها». فمغرب ما بعد 20 فبراير هو مغرب
الوضوح واحترام نضج المغاربة وعدم استبلادهم. فمن كان يعبد الحسن الثاني
فالحسن الثاني قد مات، ومن كان يتخوف من أن الملك محمد السادس سيعض
بالنواجد على اختصاصاته فها هو دستور 2011 فاض واستفاض في منح السلطة
للأحزاب، في شخص الحكومة والبرلمان، ومن كان يعشق المغرب والمغاربة،
فالمغرب باق وسيبقى كذلك أحب من أحب وكره من كره.