ثمة اتفاق ايديولوجي بين الاصولية والدولة التسلطية رغم ان الظاهرتين تنازعتا المجتمعات العربية وهيئاتها الاهلية والسياسية والاجتماعية والحزبية منذ الثمانينيات من القرن الماضي، ان سلماً ـ انتخابات نقابية وبرلمانية ـ وان عنفاً ـ مواجهات دموية وإعدامات وتصفيات ومجازر جماعية.
خلافاً للملاحظة الظاهـرية المتسـرعة، تلتقي الظــاهرتان من حيث منشأهما، وظروف انبعاثهما وصعودهما، والعــائدة أساساً الى مأزق الانظمة العربية وعجزها عن تلبية تحديات التـنمية والبناء ومواجهة التحـدي الصهــيوني. فقد انتهت هذه الانظــمة الى خواء شامل عمم الفقر والأمية والفساد وشكل الارضية الفعلية لقيام الدولة التسلطية العربية التي سدت منافذ التطور الديموقراطي أمام الشعوب العربية، وإمكانات انفتاحها على الحداثة.
وفي ظل تلك الآفاق المسدودة عينها، تقدمت الاصولية طارحة نفسها حلاً ثورياً ناجزاً لأزمة المجتمع والدولة على السواء، فيما هي في الحقيقة تعبير عن هذه الأزمة وتجذير لها، بإقصائها الحل الفعلي المتمثل في التوجه الحداثي المستقبلي وليس في الارتداد الى الماضوية والتقوقع في ربقتها.
الأصولية والدولة التسلطية هما إذاً، من حيث المنشأ والفضاء الذي ينتميان اليه، الوليد المعوّق لحداثة مجهضة ونهضة عاثرة، والحل الزائف والوهمي لمجتمع وأمة يبحثان عن أفق خلاص ضائع. لكن الاتفاق والتلاقي لا يقفان عند هذا الحد، فثمة تلاق بين الأصولية والدولة التسلطية في الموقف الفلسفي والخطاب والآليات والرؤية الايديولوجية.
تلتقي الظاهرتان في خطاب الأحادية والاطلاقية والفرادة حيث التناقض قائم بين حقيقة مطلقة وباطل مطلق، بين خير مـطلق وشر مطلق. ومن هنا فكل اجتهاد خارج الأطر الفقهية الأصــولية من المنظور الأصولي، هو كفر ومروق يجب إقـصاؤه واجتثاثه، اذ ليس هناك سوى تفسير واحد وتأويل واحد ورؤية واحدة وليس مسموحاً تجاوزها أو الخروج عليها. وكذلك تتخــذ الدولة التسلطية الموقف نفسه إزاء معارضيها، اذ هي تعتبر نفسها المعبّرة عن عزة الأمة وصمودها، والناطقة الوحيدة باسم جماهيرها، والمؤتمنة على تاريخها وحضارتها وقيمها ورموزها. ولهذا فكل معارض من منظورها هو «خائن» خارج على الشرعية القومية والوطنية، يجب استئصاله ورميه خارج الحياة السياسية والوطنية.
وهكذا فالخطابان الأصولي والتسلطي على السواء يشتركان في لغة واحدة، لغة القمع والعنف والإرهاب، دفاعاً عن حق مقدس مفترض أودع في أناس مختارين بالنيابة عن الامة، حـيث تتم المماهاة بين «المرشد» أو «الجماعة» والعقيدة في الخطاب الاصولي، وبين الحاكم أو السلطة وبين الامة والدولة والشعب في الخطاب التسلطي.
والاصولية والدولة التسلطية على السواء تتملكهما عقلية «المؤامرة» والريبة بالآخر والمختلف. فالحداثة وإنجازاتها وحقوق الانسان وحرياته السياسية والمدنية تندرج جميعها في إطار الغزو الفكري الذي يهدد خصوصية الامة وأصالتها في نظر الأصوليين وضرورة اقتباس العرب الآليات الديموقراطية الحداثية القائمة على تداول السلطة ومساءلة الحاكم ومراقبته، وإخضاع الشأن السياسي لمصلحة الامة ومقتضيات تقدمها ورفاهها، مسائل تؤخذ بالشك والحذر وتبيّت وراءها مخططات صهيونية أو استعمارية تتربص شراً بوحدة المجتمعات العربية ومناعتها الذاتية تمهيداً لبسط الهيمنة الاستعمارية على مقدراتها.
وتتلاقى الاصولية والتسلطية في الاستجارة بالأسطوري والمقدس وادعاء الرسولية والريادة والنطق باسم إرادة مقدسة عليا عصية على التبدل والتغيّر. فالمرشد الاصولي أو الحاكم التسلطي، كلاهما «مفوض» من قبل هذه الارادة العليا، هو الاب والراعي والقائد، أما الشعب والجماهير فـ«رعايا» و«أبناء» يجب ان يمتثلوا لإرادته من دون مساءلة كي لا تتعرض الامة أو الجماعة للاختراق والنيل من وجودها التاريخي.
وتتلاقى الاصولية والدولة التسلطية في إعاقة تكوّن مجتمعات مدنية عربية، فالتسلطية جعلت هذه المجتمعات امتداداً لسلطانها ومجالاً لهيمنتها المباشرة وغير المباشرة، محتكرة مصادر القوة والسلطة في المجتمع، باسطة نفوذها على كل مستويات التنظيم الاجتماعي وعلى الجماعات والقوى الاجتماعية. والاصولية ألغت الوطن والمواطن والانسان المدني بنزوعها الى الهيمنة المطلقة على المجتمع باسم مبادئ ومسلمات ايديولوجية موضوعة فوق الوطن والمجتمع والامة، فكانت النتيجة، كما في حال الدولة التسلطية، محاصرة اية إمكانية لقيام المجتمع المدني.
هذا التلاقي الايديولوجي يكشف زيف وبطلان دعاوى التناقض بين الاصولية والدولة التسلطية ومشاريعهما «الخلاصية» للمجتمع والامة، فالاولى تزعم خلاص المجتمع من استبداد الدولة التسلطية فيما تزعم الأخرى خلاصه من ظلامية الاصولية وطغيانها، بينما هما في الحقيقة يمعنان جنباً الى جنب في قمع وإجهاض الامل في نهضة عربية تدرج المجتمعات العربية في ركب التقدم والحداثة وتمهد لقيام مجتمع عربي جديد