ربما قد يتعجب كل من تابع تعليقات المفكرين والصحفيين الفرنسيين حول
الثورة المصرية وقبلها التونسية من أفكار بعضهم المسبقة المترسبة في وعيهم
ولاوعيهم، إذ يحلل أغلبهم ما يجري في الوطن العربي وكأنّ هذه المنطقة
معزولة عما يجري في العالم وكأنّ العرب لم يسمعوا بالديمقراطية قطّ ولم
تهبّ عليهم رياح العولمة بعد! ما زال البعض يظنّ ساذجا أنّ العربي يكتفي
بقطعة خبز وجرعة ماء وكساء أخرق. وتراهم يردّدون مقولتهم المفضلة الساذجة
"الديمقراطية لا يمكن أن تتمّ هكذا بسرعة""!
وفي ليلة سقوط مبارك بدا لي الفيلسوف الفرنسي آلان فلكنكروت على إحدى
القنوات الفرنسية مكفهّر الوجه، تبدو عليه علامات حيرة مشوبة بخوف واضح.
ولئن كان الرجل مسرورا بالثورة كما يدّعي، فإنّه لا يخفي تخوّفه من
استيلاء إسلاميي النهضة على مقاليد الحكم في تونس وجماعة الإخوان في مصر.
وهو شعور يتقاسمه معه الكثير من المحللين الذين انطلت عليهم حيلة النظامين
التونسي والمصري وبقية الأنظمة المُبشرة بجدة. ألم يقدم الرؤساء والملوك
العرب أنفسهم كحلفاء للغرب، يحاربون ضدّ محاولة الأصوليين إقامة الدولة
الإسلامية على طول الوطن العربي في الوقت الذي يقدّمون فيه التنازل تلو
الآخر لمن يدّعون محاربتهم؟
ولكن حتى إن كان الأمر كذلك، فهل يبقى الخوف من الإسلاميين البرنامج
السياسي الرسميّ الوحيد الصالح للوطن العربي؟ هل ينبغي قبول سلطة غاشمة
كأمر واقع خوفا من السقوط في قبضة حكم الشريعة المفترض؟
لقد أعلن راشد الغنوشي صراحة موقفه من المسألة فور عودته إلى وطنه،
"لا مكان للشريعة في تونس". ولا نريد هنا تحليل ما إذا كان أخونا مكرها أم
بطلا في عدم المطالبة بإقامة دولة الشريعة، بل لا ينبغي التشكيك حتى في
نياته على كل حال. أما في مصر فنظام مبارك هو الذي دفع المصريين إلى
التأسلم بعدما شدّد عليهم الخناق سياسيا وثقافيا واقتصاديا، ولم يترك لهم
سوى المساجد للدعاء وتلقي الخطب الغبية الحاملة للحلول السحرية بعدما أعدم
المشاريع الدنيوية الحقيقية بل فعل كل ما في وسعه ليتصادم المسلمون
بالمسيحيين. كما لم يتوان نظام بن علي في تسهيل التشيّع في تونس ولكن ليس
ضمانا لحرية المعتقد وإنما لضرب حركة النهضة تحديدا بالتمذهب الشيعي
وزعزعة الانسجام الديني في تونس عموما، والكل سمع عن تلك الصفقات
السياسوية التي تمت بين النظام التونسي والملالي وحزب الله وقناة المنار.
لقد كتبت مرارا أنّ الدولة العربية هي التي تؤسلم المجتمع
وليس المجتمع هو الذي يحاول أسلمة الدولة، كما تدّعي الأنظمة بغية تنصيب
نفسها دركيا علمانيا مزيفا يواجه الأصوليين. والسلطات القائمة ذاتها هي
التي سجنت ملايين البشر في استلاب ديني سمح لها بفبركة وهم الدولة
الإسلامية في مدارسها وجامعاتها وصحفها ووزارات دينها. وها هو المجتمع
العربي يطيح بها وبوهمها الذي كانت تتكئ عليه..فلم يُسقط التونسيون
والمصريون السلطة القائمة فحسب بل أسقطوا حتى البديل الذي كان منذورا
لخلافتها وأعني "الدولة الإسلامية". تلك الفزّاعة التي كان مرفوعة سدّا
منيعا أمام قيام دولة مدنية عربية بكلّ ما تعني الكلمة. لقد دخل المجتمع
العربي في شهر يناير 2011في عهد جديد لا يمكن أن أطلق عليه سوى "عصر ما
بعد الدولة الإسلامية". عصر يحيا بالنظر إلى ما هو آت بتعبير هابرماس
وينفتح للجديد القادم.
سقطت فكرة الدولة الدينية سقوطا حرا في غضون أسابيع تحت ضربات
جماهير خرجت تقاتل من أجل المساواة وحرية التعبير والاحتكام إلى صناديق
الاقتراع، والمواطنة، وحرية تكوين الأحزاب والجمعيات والتعددية الدينية
والفلسفية والمساواة بين الرجل و المرأة .. (أي كل ما هو مناقض للدولة
الإسلامية). بكلمة واحدة المطالبة بــ"دولة مدنية" وتقديم الشهداء من
أجلها، دولة المواطنين لا دولة المؤمنين، دولة تسيّر أمور الحياة لا أمور
الآخرة.. إنه تقدّم نوعي، لا يمكن أن يتجرّأ الإسلاميون على إعادة النظر
فيه مهما كانت قوّتهم العددية مستقبلا إذ باتوا اليوم في عصر "ما بعد
الدولة الإسلامية" تشكيلا سياسيا من بين تشكيلات أخرى متنوعة له ما لها من
حقوق وعليه ما عليها من واجبات. ومع ذلك لا يحقّ لأحد أن يمنع الإسلاميين
من تشكيل حكومة إذا ما نالوا الأغلبية ولكن لا أحد يسمح لهم بتغيير طبيعة
الدولة. فمن الآن فصاعدا هناك ما قبل ثورة الياسمين وما بعدها. فهل يمكن
من ذاق طعم "المابعد" وتنفّس هواء "ساحة التحرير" العليل أن يقبل العيش
يوما في قفص دولة الملالي أو جُحر حماس أو دهليز آل سعود…
لقد فجرت "الدولة الإسلامية" نفسها وسط الجزائريين في بداية
التسعينات، فقتلت منهم حوالي 200000، ومع الأسف ظلّت على قيد الحياة وإن
في احتضار متقدّم. ولكن آن لنا الآن أن ننعى دولة الشريعة إذ حفر الشباب
التونسي لها قبرا ودفنها المصريون إلى الأبد. فمن بدأ المأساة ينهيها،
فكما علّمت مصر السادات ومبارك العرب التشبث بوهم الدولة الإسلامية،
تُعبّد القوى الديمقراطية العلمانية لهم الطريق ليتحرّروا من هذا القيد
الذي أدمى حياتهم بل توسع لهم آفاق الممكن الحداثي وتؤسس للعرب مع بقية
قوى النور العربية الأخرى طريقة جديدة للإقامة في العالم.
رحم الله الدولة الإسلامية وألهم ذويها الدخول في العصر.
الأحد يونيو 19, 2011 5:09 am من طرف تابط شرا