الهتاف السعيد
عناية جابر
2011-06-09
أحاول أن أخمّن، كيف يُمضي أيّ رئيس يومه. أفكرّ انه
عاجز عن الخلق، ومحكوم بأن يُضحيّ بنار الإحساس البشري من أجل شهوة نار
السلطة. أفكرّ كيف ينام ساعات ليله، الساعات التي لا يُسمّيها حياته، لأنه
يكون رئيساً في النهار فقط.
كيف يُمضي يومه وكيف يأخذ أمور سلطته بمثل هذه الجدية! ومن دون أسباب تخفيفية.
كيف
أنه لا يقرف من شيء قدر قرفه من فكرة أن يكون بلا سلطة، أن لا يأخذ نفسه
هو بالذات على محمل الجد! وأفكرّ، بكلمات أخرى، عمّا إذا كان من هدف ومعنى
لمثل هؤلاء الرؤساء، وعمّا إذا ليست البلاد والعباد، تستقيم من دونهم، ومن
دون أمراضهم المؤذية.
شجاعة أن نقول له 'إرحل' تتطلب فعلاً إنسانياً
ووجوداً دقيقاً للشعوب أيضاً. 'إرحل' تتطلب فعلاً وقولاً بمعنى المطلب
الأوحد. وهنا يجب التمييز. نقول له 'إرحل' عالية، مُهددة، ونرى الى تقاسيم
وجهه الغبية تتلقاها بعجز وتبرم وعدم تصديق. نتكاتف كتفاً بكتف ونردد
'إرحل' متمسكين بالحقائق الإنسانية الكبيرة.
من الممكن للعدمي أو
المتشائم أن يقول ان نتائج كل هذا الهتاف لاقيمة لها. ترى، ما جدوى
الإختباء في البيوت، إذا كانت الشمس تلعب في الخارج، وإذا كان الهتاف
خبزاً حقيقياً ساخناً، ثم أن تاريخ العالم لا يسمح قط بما هو سلبي. تاريخ
العالم تفاؤلي. وتاريخ العالم ينتصر دائماً وبحماسة، للأمر الحرّ ولا يميل
الى نقيضه.
شجاعة أن نقول 'إرحل'، هي الفعل الإنساني الوحيد. فأيّ شيء
أفضل يمكن أن نفعله، من تحرير حياتنا من البطش؟ الحرية حسّ الوجود العادل.
'إرحل' تعني أننا نستخدم أكثر من صوتنا، قوانا كافة كأيّ جدول جارف. وهو
أمر يقودنا الى فائض المسؤولية، وفائض المهارة في كل ماهو إنساني سليم.
'إرحل' في رغبة الفضح أخيراً لزائر مكث طويلاً ونهبنا بيتنا، وفي جرم
الرئيس اللابث على قلوبنا، وثمة الكثير جداً مما نُضيفه على 'إرحل' في
تجليات الهتاف غير المبعثر، مختبرين ضرورة تغيير أشكال وأسس نظام مستبد،
تكيّف مع استبداده نفسه منذ مئات الأعوام، مستهدفين بهذه الـ'إرحل'
البسيطة، نفض أسس الشكل، مستبدلينهُ بأخلاقية انسانية تتناسب مع حركة
الحقائق في العالم.
الهتاف هو 'الوصفة'، تلك الكلمة التي تُشير الى انه ينبغي العثور على هدف لأي أمر تحرري، في لحظة 'عالية' قبل إنجازه.
الهتاف العنيد، حتى يمكننا أخيراً ترك الوصلة المهترئة القديمة من الطريق، وراءنا.
الهتاف
المُخاطر، الخطر الذي لايمكن تكهنّهُ، ضمن صرخة 'الهتيف' المسالم، الأعزل،
إلأعزل إلإ من صوته. الهتاف المتقن، المتراوح بين الدقة والهوى.
الطغاة لا يملكون أسباباً حقيقية كي يعرفوا ماهية الهتاف، لذلك يُخضعون
شعوبهم الهاتفة في رعب سجنها داخل دائرة لا تنتهي، لنظام جائر ووحشي.
وربما هو السبب أيضاً في تخلّق طغاة كبار في أزمنة صمت الشعوب، في حين
تُخفق حتى الكتابة أمام الهتاف، وأمام أحقية انتاج الثورات.
هل ينبغي
أن نفهم الهتاف كفعل قويّ الى هذه الدرجة؟ أجل، شرط أن نطلقهُ بكل روحنا،
ومن كل قلبنا، وما لخاطرة خوف أو منع، تعني أيّ شيء أمام رغبتنا بالإنعتاق.
الهتاف
هو لحظة الرضا الوحيدة عن النفس بإضفاء نسب النبالة عليها، شرط ألا يكون
هتافاً من قلب أخرس، ليس هتافاً حتى، من الرأس. إنه الهتاف السعيد،
وبمقدوره ان يقتل أعتى الطغاة، أن يُنّفذ فيه حكم عادل مُدركٌ إدراكاً
كلياً، تماماً كما تحمل الريح القوية بيتاً راسخاً وتُذريه في الهواء، في
حركة مغالاة من الطبيعة، هنية وراضية وتقع في القلب تماماً.
كيف مئات الأعوام نسينا أن هناك ذلك الهتاف، الذي جعلناه ينام معنا ويغفو غفوتنا، من دون ذنب، ولا هواء.
بمقدور هتاف واحد رقيق، في هذا الزمن العربي المبرعم، تأجيج النار في كل العالم.
نار مهولة، ولا حدود لعبثها على الإطلاق.
هل
يستــــطيع فعلاً- أسأل في لحظـــــات كربي- هتاف واحد رقيق، على الإحتشاد
حتـــى يغدو نــــاراً؟ واشعر أنني أبالغ بعض الشيء في الإنبهـــار بهذه
الثــورات، الإيمان بها، وتقييمها.
لكن ما يقوّيني حقاً، على الأقل في
ما يتعلق بي، هو ملاحظة تنامي هذه الناس الهاتفة، هتافاتها تغرق الشوارع
وتستطيع ان تكون جاذبة بطريقة مدهشة.
مع ذلك ما من هتاف حقّق كمالهُ،
لكن انبثق تصور جديد للحياة بعد أن أخذها الهتاف الى مجراها الطبيعي. غدت
الأرض صلبة ثانية تحت أقدام العامّة. ثمة في دواخلهم هواء أصليّ بسبب من
ذلك الهتاف، وتمرّد على ما يسمى تطلع مذعور الى السلامة الشخصية، والى
الرضى عن الحال مهما ترّدى هذا، وغدا واقعاً، مألوفاً ومعتاداً.
انقضت
أوقات الضعف. ذلك العجز عن فعل ما يرغب المرء ويشتهي، وما يجعلهُ انساناً
جديراً بإنسانيته بحق. حسناً، إذا كنت أستطيع أن أكتب، يعني حتماً أنني
أستطيع أن أهتف وألوّح بالكلمات عالياً، الهتاف الذي ما جرؤت عليه من قبل،
مع أن البوم كان ينعق والليل ينحب. لقد مسّنا جميعاً أخيراً، مثل هذا
الهوى المبرّح، وما الحرية المقبلة إلإ رحمة كبيرة، وإيلاء الوفاء للذين
سقطوا وهم يعلموننا الهتاف.