سفر طويل هذه المرّة
عناية جابر
2012-06-07
لأن الشجاعة ليست من صفاتي، ولا الصبر، سلّمت نفسي لفكرة السفر وانتهى
الأمر. لا حرب لبنانية ولا سخافة طوائف وحرّة الآن تماماً. لا إرتباطات،
لاعمل، لا كتابة، لا تخطيط لأيّ أمر. سفر ذهبيٌ، ونسيان كبير. بروحي أسافر
الى أمريكا، الحيلة الوحيدة لكي أكفّ عن إصابتي البليغة ولكي يغدو الأمر
أسهل. سوف يكون البارك القريب من البيت ملاذاً والسنجاب المتدلي من الشجرة
غراماً، وسوف يكفيني ذلك ويزيد.
حين تحط بي الطائرة في واشنطن أقول في
سرّي أن طائرة مثل هذه التي حطّت بي للتو سوف لن تعرف أبداً ما الذي
حملتهُ وحطّت به. لن تعرف أبداً أيّ كائن هذا، تعبٌ ومُضنى ومثخن بالجراح.
أقول انها حملتني الى أمريكا نفسها التي عرفها كل أهلي ويمكثون فيها
مازالوا، ويبدو أنه قدر لبناني بإمتياز. ثم أنه المشهد نفسه الذي كنت أتيت
سابقاً ورأيت، ومفلوش يبقى تحت ناظري طويلاً لهذه المرّة، لأجله تحملني
الطائرة بأحشائي الملتهبة، وقلبي خفيفاً وثقيلاً كقطعة رصاص مجنحة.
أستدعي السلام في هذه الأميركا والصمت أستدعيه. صامتة أجول في أميركا
وتُشبهُ بالنسبة لي غرفة نوم قديمة. أمريكا لا تتطلب مني إلإ أكثر
إسقاطاتي تملصاً. لا لغو عن الحياة والموت والشعر أو الأشياء التي تحدث
فيّ، وفي بيروت بسرعة. أُقيم إتصالاً تخاطرياً مع أحدهم ويسكن في ولاية
أخرى غير التي أحلُّ بها. إتصال باللغة الخاصة بنا، لغة الرياضيات العالية
من دون أثر للحم أو الدم. إتصال عجيب شبحي غولي يُنبىء عن كائنين في
جهوزية التخاطر حدّ الجنون.
ليس في السفر سوى الأسئلة المُلّغمة
والشكوك وجثث الأجوبة. أليست المدن صحراء الشكوك وأصداء العدم ما دمت تحمل
القلب نفسهُ في كل سفر والى كل مدينة؟ هل يمكن الحديث هنا عن سفر عدمي
وعدمية داخلية تحزمها في حقائبك أنّى رحلت؟ لماذا تسافر مادام القلب هو
نفسهُ ويُشككّ في كل مشهد وكل رأي ويستخلص من الأيام باطلاً وحقيقة سوداء
يعرف أنها قابعة في جوف نفسه. لماذا تسافر مادام الألم نفسهُ والقلق
نفسهُ، لكنها المسافة قلت تضاعفهما او تسقطهما.
سفر لا يترك فسحة لإيجاب أو إيمان أو حق أو جمال، ذلك أنك مطرود طرداً من الإيجاب والإيمان والحق والجمال.
في
البارك القريب من البيت في أمريكا سوف ألقي ببذور قمح للحمام والعصافير،
أنزّه الكلاب واعطف على القطط الضالة (ما من حيوان ضال هناك مع ذلك) هكذا
أقع على حنان بلا دين ولا طائفة ولا مذهب، وعلى رأفة منهكة قطعت مسافات
لتمارس نفسها.
أمريكا مدينة زهرية لكن من قال أنني أحبّ اللون الزهري؟ بيروت هرم الولع والوله ووثني الوحيد.
مع
ذلك أسافر قلت فالميت يُمسك بتلابيب روح الضؤ البعيد، بعد ذلك ليأت الضجر
الأعمّ، أجل أميركا تعرف كيف تُضجرني حدّ الإلحاد. أسافر أجل، ففي أمريكا
الحركة في الليل والرقص والخمر والموسيقى والعالم الباخوسي، عالم الجسد
والحواس والإختلاط والفوضى. لن اعود ثانية الى بيروت كما لو أفقت يوماً
ووجدتها إختفت. لــقــد ظهرت يوماً كجنة لكننا ما لبثنا أن توارينا عنها
مطرودين. مخنوقة إذن من بيروت واسافر الى أمريكا!! إنني الوحيدة ربما التي
أحمل مغي عالمين يمسان بأكتاف بعضهما الى حدّ يكاد يُغرقني.
ثمة فوق
جبروت التنازع هذا، قرباناً بهذه الضخامة لكي أنسى مدينتي التي أحب. ما أن
تطأ رجلي أرض أمريكا تكون المعادلة حياة بحياة، تكون هذه معادلة الحب. قد
يكون هذا تبسيطاً وقد لا أجد في أميركا أكثر من أن أحمي جسدي من التشظي
بالرصاص.
وقد ربح الذين يصنعون الحروب عندنا في تصديعي بكل هذا الخوف.
إن قدرتهم كبيرة على إزاحتي عن مشهد بحري وعن التأليف الآسر لمشاهد
مدينتي.
ليس السفر مدعاة إغراق في النسيان وحسب، بل يمنح النهارات
بدايات ناعسة، ويعمل على غسل الذكريات ويبدأ العالم معه جديداً أيضاً. ليس
السفر هدية ناعمة، لكنه يفتحُ على وجع أقلّ، على عيش تافه لكنه لا يوجع.
تسللت
إليّ فكرة السفر الى أميركا كاللص وتطردني من مدينتي ،هائمة في المتاجر
والباركات والمتاحف، كاسحة هائجة ساقطة من كوّتي، ملتفة كوليد في مهجع
بارد.
سؤال الحياة فارق أن يكون غرضي وهاجسي. سأحرث بيديّ هاتين
المهجوستين بالكتابة حديقة بيتي الأمريكي ولن أكتب كلمة بعد. سوف أمضي في
الرحلة المعكوسة بين تشذيب العشب وقطف حاجات الجسد، هكذا يسعني حينها أن
اضع قدميّ في اميركا وأركن الى بيت في واشنطن بعيد وغريب.