بنهاية
العرض، وضع الثائر الشاب فوهة مسدسه وأطلق الرصاص. خرج العقيد من مروحة
الحياة ليرقد نهائياً في حفرة مجهولة في الصحراء. طبعاً لم نر الرصاصة
القاتلة لكن من يلتفت الى تلك الرؤية! الناس رأته ميتاً أخيراً وتنشقت
رائحة الموت التي تصعّدت من جسده، وشمّت الردى الذي طفح وانقضى الأمر.
ميّت
الآن، لا يرغي ولا يزبد، لا يهدّد ولا يتقلب ولا يلهث، كذلك لم يعد يحتاج
ان يستعطف. ميتٌ كما كان قبل أن يموت، لكنه لم يكن يعرف، والآن وقد ثاب الى
موته، ارتاحت صفحة وجهه، تمزّق أثرها المشدود.
ما أذهلني اشّد الذهول، هو أنه في صورة موته يبدو ميتاً عادياً. لم يعد قبيحاً كما في حياته، بإختصار بدا كآلاف الأموات.
الآن
إذ يغلق عينيه، يتملك العالم شعور جميل، وبصرف النظر عمّن قتلهُ (وهذه
فعلة أعانته) غاب غيابه النهائي ولم تعد روحه ثملة بسيادة الناس. هل قلت
بصرف النظر عمّن قتله؟ كلا، ليس بصرف النظر، نظرنا طويلاً في حادثة قتله،
واشتهينا لهُ محاكمة سريعة وموتاً أكثر إذلالاً له، وليس لنا.
لم يعد في عينيه ومض الجنون، ولا تقلصت عضلات وجهه. ميتٌ وقد رُدّ إليه رشدهُ.
بدا
في موته، صاحي الروح عاليها، وكانت سيماؤه بريئة، براءة انسان سعيد. الأمر
لا يتعلق بأذاه، وبما اقترفه من ذنوب، بقدر ما يتعلق بكنية الموت نفسها في
أثير محّفز الموت الذي يتساوى فيه جميع البشر.
مات كمن يتحرّر من مثيل
له. التغيير دامغ، المعجزة مبينة. فحيث قبع على صدور الليبيين لأكثر من
أربعين عاماً كحيوان برّي كاسر، يرقد الآن في حضرة الموت ميتاً متحضراً
حقاً وعلى أحسن وجه. كنت أنظر الى جسده مسجى دون ان أصغي الى ما يقوله
المتحلقون حوله، جلوساً وواقفين. كنت أراقب بتشّف عميق أثر محفّز مختلف
عمّا يرونه، محفز أكثر واقعية، محفزهُ هو الشخصي.
كان في تعفّن
تقريباً، حسب مقتضيات الموت، جسد مهترىء وإلتماسات من بطنه الرخو المتهدّل،
متعذّّرة الرجاء، وكانت رائحة بائسة تتناسل من التلفزيون وتصل بالنهاية
الى آخر مشاهد على وجه الأرض.
غداً، عندما ينتبه في موته، لن يصحو في
الإيوان الأرجواني خلف الأسوار الحجرية السبعة، لا نساء ولا نوبات جنون،
كما لن يستيقظ في رياض الطيوب والناس الخادمة لروحه، إنما وحيداً في
الخرابة الصحراوية في نهاية نفق في الرمل وفي الظلام، وسوف يشعر بالوحدة
وبالبرد وبالفزع، حالهُ حال المدمن على السلطة بعد عمر طويل قضاه سيدها.
يكون وقته منذ لحظة موته، نهاية ليل او بدايته، ولن يلسع عينيه بعد، وهج
النجوم.
هواء مُغبّر يحرق رئته، والموت قاس، ولقد نسيه العالم.
الزمن
أسود أبدياً أيها الطاغية الراقد في كثبان مجهولة، وكحيوان رخوي تحلق فوقك
الصقور. تُسدل العزله ستائرها على روحك السوداء، ولسوف يُفتح باب ليبدأ
العرض التالي إيذاناً بالعقاب الكبير. ولسوف تنهض الى عقابك فجراً، أقول
فجراً من باب المجاز، فليس في حضرة العقاب الإلهي عصراً أو ظهراً أو مساء
أو صباحا ولن يكن نور او ظلام، لن يكن في عذاب الطاغية أي شيء مما نعرف،
فقط اعترافات طويلة.. طويلة. ولهذا سأضطر كنوع من الكتابة، الى الكلام عن
تلك اللحظة كسهب، وهذه هي الكتابة الملائمة والوحيدة، فاللغة لا تكفي لوصف
هول وقوف الطاغية بين يدي الرب. إذاً، كان فجر، اريد القول، كان وضع وزمن
في السماء، وكانت الحقيقة النائمة تفيق الآن، كانت الجرائم خربة وعماء في
حنجرة الرجل البائس وتنتظر مشيئة ربها.
من الممتع العودة الى التراب.
فمنصب الرئيس، وخالق الأفلاك في آن منصب مرهق كفاية. كما ان الحياة في الشر
ليست مريحة. تعب الطاغية من وظائف الخلق الإلهي وإستعباد العوام، وكان أن
لاذ أخيراً (طوعاً وقسراً) الى الموت كملجأ آمن:'إنتو ولادي، ارحموني .. '
هكذا تكلّم الطاغية ثم 'بوووم' أسكتته. ماذا لو كانت الحفرة خالية كان
يفكرّ ماذا لو غير مهّواة، وماذا لو فسدت عمليات شدّ الوجه وتجميله، تحت
التراب؟ لماذا يتأخر الخدم عنه؟ لماذا لم يأت المهللون والمصفقون والمنادون
بإسمه وبحياته؟ إنه يحتاج حاشيته من النساء الجميلات، حالاً، فهو مدمن على
الحماية الأنثوية ويموت إن لم يكن محاطاً بالكثيرات منهن. رحلن قبلك أيها
العقيد،
رحلن قبل أن تخلص حاجتك الى الأرحام!
تراخت أعضاؤه ثقيلة على الأرض، وغشاه الخدر المنذر، غير أنه لم يُنه كتابه بعد.
ورغم
الحلكة والعينين المخرّبتين، ورغم ان الكتاب الأخضر سقط من يده في الحفرة
الموحلة بالدم، بيد انه يقاوم طمعاً في كتابة نهايته هو نفسه. بغته أسدل
الغياب ستائره على روحه كمرآة سوداء. أغلق عينيه. فتح باب داخله، ودخل فيه.