لقد اندلعت الثورة من حيث لا نحتسب. ولذلك، فإنّ محاولة شرح أسبابها،
اليوم، عبر المعطيات الموضوعيّة الاقتصاديّة والاجتماعيّة تبدو غير كافية.
إنّ تفسيرات على هذا النحو ترتهننا لحتميّة وهميّة ضررُها محيق بعصر كلّ
شيء فيه يبدو مبرمجا، كما أنّها تسلب الوجود الإنسانيّ مستقبلَه، عبر جعله،
في نوع من الترف الاستعاديّ البارد، قدرا محتوما.
لا. إنّ الثورة التونسيّة مفاجَأَة لنا بل لمن أطلقوا شرارتها، وخاضوا
غمارها. لقد اندلعت في زمن انسحب فيه مفهوم الثورة من فضاء تفكيرنا، منذ
سقوط جدار برلين على الأقلّ. وإنّ احتدام انتفاضة التونسيّين بتلك القوّة،
قد نبا عن عيون الجميع بدءا من عيون نظام بن عليّ، إذ انطلقت شرارتها من
زاوية ميّتة هي منطقة خارج مجال مراقبته.
كيف يمكن أن نفهم هذه الزاوية الميّتة (angle mort )؟
لكي نفهم ذلك، علينا إيلاء معنى الشرارة في انطلاقتها قيمة مخصوصة تتجاوز
التصوّر الميكانيكيّ للمراكمة والانقطاع. ينبغي أن نتدبّر هذه "الفُجاءة"
التي تعني في اللّغة "ما هجم عليك من أَمر لم تحتسبه". فُجاءةٌ تستبدل،
كلّيا وفي مدّة وجيزة، ما كان يبدو من خضوع بعصيان واضح معمّم. سيكون لهذه
الشرارة، من بعد، اسم الفداء: محمّد البوعزيزي.
وعلى عكس ما قيل، لم يكن البوعزيزي من أصحاب الشهائد العاطلين. ولكنّه كان
بائع غلال متجوّلا، حجز أعوان البلديّة بضاعته المعروضة، وتمّ صفعه، في
الأثناء، من قبل موظّفة التراتيب. لم يشعل البوعزيزي النار في جسده احتجاجا
على حرمانه من مورد رزقه فحسب، ولكنّه فعل ذلك، أيضا، لأنّ شكواه سُدّت
أمامها الأبواب أو أنّ تظلّمه صُمّت عن سماعه الآذان. إنّ تزامن الحرمان
المادّي مع عدم الاستماع إلى تظلّمه هو ما قاد إلى الفعل اليائس.
حينما نستمع إلى رجل الشارع في تونس، ونصغي مليّا إلى الكلمات التي يشرح
بها هبّته في علاقة بما صنعه البوعزيزي، نتوقّف عند دالّ يتردّد لديه
كاللاّزمة: القهر. إنّه لفظ مرعب ينتمي إلى سجلّ القدرة في أعلى درجاتها.
القدرة على إخضاع شخص مّا، وإحالته إلى العجز التامّ. من جذر (ق. هـ. ر)
اُشتُقَّ اللّفظ الذي يشير إلى الغالب الجبّار أو القهّار ( وهو من أسماء
اللّه )، واشتقّ اسم القاهرة (بمعنى الحاضرة الظافرة). ومن الغريب أنّ
مادّة (قهر) في العربية الكلاسيكيّة تعني، فيما تعنيه، "اللّحم إذا أخذته
النار فسال ماؤه".
يمكن أن يقال: مصادفة دلاليّة جميلة أن يمتح التونسيّون، دوما، من لغة
الضيق إذ تتعلّق بالإنسان في أقصى حالات عجزه المطبق، للإشارة إلى فعل
البوعزيزي باعتباره مصدرا لتحديد مَن همْ قياسا إليه، وإلى ثورته أيضا.
وليس من الغلوّ إنْ نحن عددنا نظام بن عليّ منظومة سلطويّة لخلق العجز
الكلّي: تحييد التونسيّين عن السياسة، وتحويل الفاعلين العموميّين إلى
دُمى، تنظيم بوليسيّ صارم ومتطوّر تقنيّا، ونهب للثروات العموميّة من قبل
بطانته النهمة على مرأى من الجميع، قمعٌ للمعارضين جسديّا ومعنويّا، عجرفة
وأكاذيب يوميّة.. وإلى ذلك كلّه، ثناءٌ على هذا النظام تزجيه الديمقراطيّات
الغربيّة التي تزعم، كعادتها، جهلها بما يقترفه حقّا.
إنّ فعل البوعزيزي قد أمدّ التمرّد بإمكانيّة إحداث انقلاب في الأمور،
ببيان كيف أنّ الإنسان يمكنه أن يخلق من عجزه قدرةً، وأن يوجَد في غيابه،
وأن يظهر حقّه ولو خسر كلّ شيء. مَثَل هذه المفارقة كمَثل حالة بن عليّ. لم
يوجَد إلاّ بتغييب الآخرين. بذلك تشهد صوره المعلّقة على جدران البلاد.
البوعزيزي، إذن، هو انتقاضُ رجل ريفيّ فقير ينحدر من جهة معزولة على
نرجسيّة "القهر". إنّه الرمز (باعتبار الرمز هو اللغة في طور الاشتغال)
الذي أطلق مسارا من " التذويت" الجماعيّ يستند، بلا ريب، على شروط
اقتصاديّة واجتماعيّة سابقة. ولكنّ تلك الشروط كان من الممكن أن تبقى في
حالة كمون، ودون أنْ تتحوّل إلى مسار لا رجعة فيه على أيدي رجال ونساء
استبدلوا، بغتةً، بالعجز قدرتهم على الرفض.
إن السيناريو الذي انطلقت منه الشرارة الأولى، أي التضحية بالنفس على ذلك
النحو، ليست له سابقة في صلب الثقافة التونسيّة أو الإسلامية، بل ربما نجد
فيه صدى لما حفظناه صغارا عن ظهر قلب بخصوص ما صنعته زوجة "صدر بعل" وهي
ترتمي في النار صائحة: "النار ولا العار" لتتجنّب "قهر" الرومان لقرطاج.
من بين الذخائر الأيقونيّة للثورة على موقع "الفايس بوك" صورة قائمة على
اللّصق (الكولاج) قُطِع فيها رأس بن عليّ، وهو في زيّ رئيس الجمهوريّة،
وأبدل برأس البوعزيزي. إنّ الأطروحة الفرويديّة عن التشكيل الليبيديّ
للجموع هي أطروحة شديدة الراهنية: في سياق التماهي والتغاير، تحتاج مجموعة
من الأفراد إلى رمز موحّد يؤمثل ذواتهم. على أنّ البوعزيزي، هنا، لم يكن
قائدا، بل كان امرأً فردا متفحّما بغيابه ألهبَ حماسة الكثرة.
لا يمكن للّاوعي، والحال هذه، أن لا يكون سياسيّا.