عزمي بشارة
عزمي بشارة هو مدير المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السّياسات، وعضو مجلس الإدارة في المركز. وهو باحث وكاتب معروف نشر العديد من الكتب والمؤلّفات في الفكر السّياسيّ والنّظريّة الاجتماعيّة والفلسفة، إضافة إلى بعض المؤلّفات الأدبيّة. عمل أستاذًا للفلسفة والدّراسات الثقافيّة في جامعة بيرزيت بين الأعوام 1986 و1996. كما ساهم في تأسيس مراكزَ بحثيّة في فلسطين، منها: المؤسّسة الفلسطينيّة لدراسة الدّيمقراطيّة (مواطن)، ومركز مدى الكرمل للدّراسات الاجتماعيّة التطبيقيّة. كان الدّكتور عزمي بشارة المؤسّس الرئيس للتّجمع الوطنيّ الديمقراطيّ، وهو حزب سياسيّ عربيّ يعمل داخل الخطّ الأخضر في فلسطين، ويقوم برنامجه على القيم الديمقراطيّة بغضّ النّظر عن الدّين والعرق والهويّة القوميّة. وقد مثّل الدّكتور عزمي بشارة التّجمّع في البرلمان، وفاز في الانتخابات في أربع دورات متتالية بين عام 1996 وعام 2007. في عام 2007، وصلت ملاحقة الدّكتور عزمي بشارة السّياسيّة في إسرائيل أوجها ما اضطرّه إلى الخروج إلى المنفى بعد ملاحقته إسرائيليًّا بتهمٍ أمنيّة. حاز على جائزة ابن رشد للفكر الحرّ عام 2002، كما حاز على جائزة حقوق الإنسان من مؤسّسة Global Exchange في الولايات المتّحدة عام 2003. أنجز الدّكتور عزمي بشارة شهادة الدّكتوراه في الفلسفة عام 1986 في جامعة هومبولدت في برلين. وحاز على شهادة الماجستير من الجامعة نفسها عام 1984.
لم تبدأ أحداث 25 يناير الاحتجاحيَّة ثورةً، ولكنها بدأت بوصفها تحرُّكًا شعبيًّا غاضبًا ضدَّ ممارسة أجهزة الأمن، وهي نفسها التي يُدَّعى الآن أنَّها انضمَّت إلى ثَورةٍ جديدةٍ هي ثورة 30 يونيو. وقد انطلقت أعمال الاحتجاج في أجواء الثَّورة التُّونسيَّة، ولكن بعد تراكم تجربةٍ في مسارٍ مصريٍّ خاصٍّ. كان البوعزيزي المصريُّ هو خالد سعيد الذي قُتِل تحت التَّعذيب، وبعد قتله ادَّعت الشُّرطة والدَّاخليَّة في بيانٍ شبيهٍ ببيانات هذه الأيَّام، أنَّه تُوفِّيَ إثر ابتلاع "لفافة" مخدِّرات. واختير يوم الشُّرطة لكي يُعلَن يومًا للغضب.
كانت تظاهرة 25 يناير حركةً احتجاجيَّةً ضدَّ ممارسات الشُّرطة والأمن التي تبدأ بالضَّرب والتَّعذيب والاعتقال التَّعسُّفيِّ، وقد تنتهي بالقتل الذي يسبقه الكذب، ويتبعه الكذب أيضًا. والقتل والكذب توأمان في عرف أجهزة الأمن في أنظمة الاستبداد. إنَّها أجهزة الأمن نفسها؛ إذ لا شيء فيها تغيَّر، لا في السِّياسة والممارسة، ولا حتَّى في الإخراج. وقد ثبت ذلك مرَّاتٍ عدَّةً من خلال ممارساتها في المرحلة الانتقاليَّة، وتُوِّج ذلك في المجزرة الرَّهيبة التي رافقت عملية فضِّ اعتصام رابعة العدويَّة في 14 آب/ أغسطس، وما تلا ذلك من ممارسات
[1]. ومن حقِّنا أن نفترض أنَّه بما أنَّها لم تتغيَّر، وبما أنَّ التَّحرُّك الشَّعبيَّ الأوَّل في 25 يناير كان موجَّها ضدَّها، فإنّ بقاءها من دون إصلاحٍ هو إفشالٌ لأحد أهمِّ أهداف الثَّورة، وإنَّها إذا تحرَّكت فإنَّما تتحرَّك ضدَّ هذه الأهداف؛ ويتلخَّص الفرق في أنَّه لم يعد بوسعها، من حيث الصّوغ، أن تفعل ذلك من دون تعبئةٍ "الشَّارع" وتجييشه، وذلك لأنَّ ثورة 25 يناير جاءت بكائنٍ جديدٍ اسمه "شرعيَّة الشَّعب".
فمنذ أن تجسَّدت شرعيَّة الشَّعب في مؤسَّساتٍ تمثيليَّةٍ منتخَبةٍ، حوَّلت القوى السِّياسيَّة المعارضة "شرعيَّة الشَّعب" إلى "شرعيَّة الشَّارع". واحتاجت أجهزة الدَّولة التي لم تتغيَّر إلى "شرعيَّة الشَّارع" لكي تتحرَّك ضدَّ سلطاتٍ منتخَبةٍ تمثِّل "شرعيَّة الشَّعب" الدِّستوريَّة. ومن سخرية التَّاريخ أنَّ القمع من دون مثل هذه الشَّرعيَّة يكون أقلَّ خطورةً من القمع الذي يستند إليها. فالأوَّل قمعٌ سلطويٌّ؛ والثَّاني قد يتحوَّل إلى قمعٍ فاشيٍّ يعبِّئ الشَّارع قاصدًا توجيه قطاعات المجتمع كلِّها في خدمة الهدف نفسه، فهو لا يترك النَّاس وشأنهم، بل يحاول أن يغيِّر مفاهيمهم بوسائل الدِّعاية المعروفة؛ وأهمُّها التَّحريض وشيطنة الخصم القائمَان على صناعة الكذب والشَّائعات وتشوية السُّمعة، وغالبًا ما يُستعان باستثارة المشاعر الوطنيَّة ضدَّ الأيدي الأجنبيَّة والمؤامرة لتخوين الآخر.
لقد تجنَّدت عوامل عدَّةٌ في حشد "شرعيَّة الشَّارع"، منها تفرُّد الإخوان بالحكم من دون خبرةٍ، ومنها أيضًا تجنُّد عوامل الثَّورة المضادَّة في الإقليم كلِّه لمساعدة جهاز الدَّولة وفلول نظام مبارك على إفشال التَّجربة الدِّيمقراطيَّة عمومًا، لا تجربة الإخوان وحدها. وعملت قطاعاتٌ واسعةٌ على تجهيز الشَّارع لهذا الدَّور؛ بعضها بدافع التَّضرُّر من حكم الإخوان، وبعضها الآخر بسوء نيَّةٍ، كالمتضرِّرين من ثورة 25 يناير. فلقد اجتمع المتضرِّرون من ثورة 25 يناير والمتضرِّرون من حكم الإخوان لخلق شرعيَّة الشَّارع التي احتاج إليها الأمن المصريُّ بأجهزته - وعلى رأسها الجيش - لكي يقوم بالانقلاب. وعمل الإعلام الخاصُّ والدَّعم الماليُّ الخليجيُّ بكثافةٍ لإنتاج التَّعبئة الإعلاميَّة وترويج أجواء الفشل والتَّشاؤم اللازمة لذلك. وعملت أحزابٌ معارضةٌ للإخوان على إزالة الحظر على التَّعاون مع الفلول ضدّ الإخوان، لأنَّه "لم يعد هنالك منذ اليوم فلولٌ"، أي منذ أن أصبحت جماعة الإخوان المسلمين العدوَّ الرَّئيس.
وظهر الشَّرخ منذ الاستفتاء على التَّعديلات الدُّستوريَّة الأولى في 19 آذار / مارس 2011، وإصرار الإخوان على تحويل الثَّورة فورًا إلى حكمِ أكبرِ حزبٍ سياسيٍّ، من دون مراعاةٍ لمخاوف قطاعاتٍ واسعةٍ من النَّاس من خطابهم الدِّينيِّ الإملائيِّ
[2]، ومن دون محاولةٍ جدِّيَّةٍ لتبديد هذه المخاوف تتجاوز العلاقات العامَّة.
لقد شملت ثورة 25 يناير، بدايةً، آلافًا من الشَّباب الواعي والمقدام (وهما صفتان قلَّما تجتمعان في العمل السِّياسيِّ)، واتَّسعت في النِّهاية لتشمل ملايين المشاركين في أغلبيَّة محافظات مصر، ولكنْ ما من أحدٍ اعتقد أنَّ أعداد المتظاهرين والمعتصمين المشاركين فيها بأجسادهم كانت هي الأساس. وفي المقابل لا شكَّ في ضرورة توافر كتلة حرجة من المواطنين لكي تُسمَّى الثَّورة ثورةً شعبيَّةً بتوافر عناصر أخرى مهمَّة تعرِّفها بوصفها ثورةً، وقد كانت هذه الكتلة الحرجة الضَّروريَّة قائمةً، ولكن "عدّ الرُّؤوس" لم يكن أمرًا مصيريًّا؛ فأوّل العناصر المهمَّة في ثورة 25 يناير أنَّها كانت موحِّدةً لفئات الشَّعب المصريِّ كافَّةً (ما عدا الحزب الوطنيَّ وبعض الأحزاب والشَّخصيَّات الانتهازيَّة المعارضة المعروفة بالاسم، وهي التي كانت تعيش على تخوم الحزب الوطنيِّ في الهوامش التي أتاحتها دولة الفساد والاستبداد لها للعمل، لتحظى بمقابلة مسؤولٍ أو آخر، من حين إلى آخر)، وثانيها أنّ أعمال الاحتجاج الواسعة كانت جديرة بثورة، لأنَّها حوَّلت هدفها إلى تغيير نظام الحكم بحِرْفيَّةٍ ووضوحٍ لم تشهدهما الثَّورات عبر التَّاريخ إلَّا في مراحل متقدِّمةٍ من ثورة تونس: "الشَّعب يريد إسقاط النِّظام". وثالثها أنَّ جهاز الدَّولة بأكمله وقف ضدَّها، وعمل ضدَّها، بل إنه قد أعمل فيها القتل. وانحاز الجيش إليها بعد فترة تأهُّبٍ، أعقبتها فترة تردُّدٍ. لقد غادر الجيش ثكناته وحاصر ميدان التحرير موجِّها فوهات دبَّاباته إليها بأمرٍ من الرَّئيس، ولكنَّه أحجم عن إطلاق النَّار لأسبابٍ عديدةٍ؛ أهمُّها استعداده للتَّضحية بالأسرة الحاكمة لإنقاذ النِّظام إذا اقتضى الأمر، وتدخُّل الولايات المتَّحدة ضدّ إطلاق النَّار على المتظاهرين. ولهذا حوَّل فوَّهات المدافع والبنادق عن الميدان. ولكنَّه أتاح للآخرين فسحةً زمنيَّةً طويلةً لقمعها، بما في ذلك ما يُسمَّى "موقعة الجمل". وحينما كانت الشُّرطة والمباحث تقوم بالقمع والقنص، وحتَّى بتعذيب بعض المشاركين في الزَّوايا المظلمة حول الميدان، وحين كانت حثالات النِّظام السَّابق في صيغتهم العنيفة المعروفة بـ "البلطجيَّة" تعتدي على ساحات الثَّورة للتَّنكيل بشبابها وشابَّاتها، كان الجيش ينتظر النَّتائج.
في مقابل هذه المميِّزات الثَّلاث، لا نقاش في أنَّ تحرُّك 30 يونيو كان حركةً احتجاجيَّةً واسعةً، تدعو إلى تقديم موعد الانتخابات، وتنحِّي الرَّئيس بحجَّة جمْع ملايين التَّواقيع، ولكنَّ ذلك لم يجرِ ضدَّ النِّظام القائم، ولا ضدَّ أجهزة الدَّولة، بل بمشاركة أغلبيَّة جهاز الدَّولة في الحشد والتَّنظيم والتَّوقيع ضدَّ رئيس الدَّولة المنتخب. ولا شكَّ في أنَّ بيانات الجيش المصريِّ التي تؤكِّد حماية المتظاهرين كانت في الواقع دعوةً إلى التَّظاهر
[3]. وكلُّ هذا قد حدث في نظام حكمٍ أنجزت الثَّورة إمكانيَّة تغيير رئيسه وبرلمانه بالانتخابات.
لقد غابت أمورٌ جوهريَّةٌ عن النِّقاش المتعلِّق بتسمية الأحداث الواقعة بين 30 حزيران / يونيو و3 تموز / يوليو 2013 التي تجمعها في حدثٍ واحدٍ رغم أنف الكثير من المشاركين في 30 يونيو الذين لا يؤيِّدون ما جرى في 3 يوليو، فبعضهم يعتقد أنَّ 30 يونيو شهد خروج حركة شعبيَّة، في حين وقع انقلابٌ عسكريٌّ في 3 يوليو. لكن يدور نقاشٌ سفسطائيٌّ بشأن هذين الحدثين الاثنين: أهما يشكِّلان ثورةً أم انقلابًا. ونقول سفسطائيٌّ لأنَّ المقصود ليس حلَّ إشكالٍ علميٍّ مصطلحيٍّ مفهوميٍّ بالوصول إلى نتيجةٍ يُصطلَح عليها، ولكن لأنَّ هدف القائل بالثَّورة هو إعلان موقفه الذي يؤيِّدها، وليس تعليل تسميتها؛ في حين أنّ من يكنِّيها انقلابًا هو مناهضٌ لها في الأغلب الأعمِّ. وهذا خلافٌ لا يُحَلُّ بالاتفاق على معنى المفهوم، ولكن بالتَّوافق على الموقف، ولا علاقةَ للتَّسميات بتوافر مقوِّمات هذا الاتفاق أو عدمه. ومن أجل تصوير المقصود، من المفيد أن نلقيَ نظرةً إلى مكانٍ لا يحتاج النَّاس فيه إلى تغطية مواقفهم من المسمَّيات بتغيير التَّسميات، لأنَّهم لا يصنعون المسمَّى، ولا الاختلاف على أسمائه. ففي إسرائيل مثلًا، يستخدم مؤيِّدو ما جرى في مصر من خلعٍ للرَّئيس وملاحقةٍ لتنظيم الإخوان المسلمين مصطلح انقلابٍ في وصفه، ومع ذلك فهم يؤيِّدونه؛ وذلك لأنَّ وصْف انقلابٍ عسكريٍّ لا يعني في نظرهم حكمًا معياريًّا. فهم يسمُّونه انقلابًا لأنَّه انقلابٌ، ويمتدحونه لأنَّه يضع حدًّا للمدِّ الإسلاميِّ، وللمدِّ الدِّيمقراطيِّ نفسِه أيضًا، بحسب رأيهم. وهم يرون أنَّ هذا مفيدٌ لإسرائيل، بغضِّ النَّظر عن نوايا الفاعلين، ويُجمِعون على فائدته هذه، ويسانده ساستُهم، ويضغطون على الغرب لمنع محاصرته.
ومن الجدير بالذِّكر في هذا السياق أنَّ سجال الخصومة السِّياسيَّ العربيَّ الرائج ما زال يخلط بين استفادة إسرائيل من فعلٍ، وبين اتِّهام الفاعل بالعمالة لإسرائيل، مثلما يسارع بعضهم إلى الحديث عن والدة الخصم "الحقيقيَّة" اليهوديَّة، وسَفر الخصم إلى إسرائيل... فمن ألدِّ أعداء ضحايا الاستبداد أنَّ خطابهم التَّشهيريَّ الإقصائيَّ المتخلِّف هو نفسه من نتاج الاستبداد.
ليست الثَّورة والانقلاب مفهومين علميَّين يقدِّمان لنا نماذج تفسيريَّةً لظواهر معقَّدةٍ كما يُفترَض أن تكون المفاهيم في العلوم الاجتماعيَّة، بل هما مصطلحان. ويُقال "مصطلحٌ" لأنَّه يُصطلَح عليه؛ أي يُتَّفق عليه في تسمية الظَّواهر والأشياء. وغاب عن النِّقاش العموميِّ بمجمله كلُّ ما اصطُلِح عليه حتى الآن. فمصطلح "انقلاب" يعني قلْب السُّلطة، ولا يعني قلْب نظام الحكم، بمعنى انقلاب أوساطٍ من النِّظام على أوساطٍ أخرى من النِّظام نفسِه، بوسائل غير دستوريَّةٍ. والعنصر الأهمّ هنا أنَّ أحد أجهزة النِّظام أو مكوِّناته ينقلب على الحاكم. وغالبًا ما يكون الهدف من الانقلاب هو الوصول إلى الحكم، وليس تغيير النِّظام. ومن الطَّبيعيِّ أن يكون الانقلاب عسكريًّا، فالطَّرف القادر على إطاحة السُّلطة من داخل النِّظام هو الجيش، أو جهاز الأمن على الأقلّ. أمَّا الثَّورة فغالبًا ما تكون تحرُّكًا شعبيًّا واسعًا من خارج النِّظام لتغيير نظام الحكم. وقد سُمِّيت بعض الانقلابات ثورةً، كما حصل في انقلاب الضُّبَّاط عام 1952 في مصر، لأنَّه انتقل إلى تغيير النِّظام بتأييدٍ شعبيٍّ. وللاستزادة نقول: إنَّ الضُّبَّاط في تلك الحالة بذلوا جهدًا كبيرًا للحصول على غطاءٍ شعبيٍّ حين ألغَوا الأحزاب، وحلُّوا البرلمان، وأزاحوا رئيس مجلس قيادة الثَّورة، محمد نجيب. ومن سخرية التَّاريخ أنَّ مظاهراتٍ خرجت تهتف بسقوط الأحزاب وسقوط الحرِّيَّات.
ليس الحديث هنا عن مفاهيم، بل عن مصطلحاتٍ. وبعد تجربة انقلاب عسكر تشيلي السيِّئ الصَّيت بقيادة بينوشيه على نظام ألليندي المنتخب، وتجارب أخرى في العالم الثَّالث، حدَّدت بعض قوانين الدُّول الغربيَّة الانقلاب بأنه انقلابٌ عسكريٌّ على حكومةٍ منتخَبةٍ، ومنعت القوانين حكوماتها من تقديم أيِّ مساعدةٍ لفعلٍ سياسيٍّ شبيهٍ به. وبهذا التعريفه أصبح هذا المصطلح يثير تداعياتٍ منفِّرةً بعد موجة التَّحوُّل الدِّيمقراطيِّ. فحتَّى الاتِّحاد الأفريقيُّ أصبح يقيِّد نفسه في مسألة الاعتراف بالحكومات التي تأتي من خلال الانقلابات. وبعض من ظلُّوا يعيشون بعقليَّة خمسينيَّات القرن الماضي لا يدركون مدى سلبيَّة التَّداعيات التي يثيرها انقلابٌ عسكريٌّ على نظامٍ منتخَبٍ، وبخاصَّة في دولٍ مرَّت بتجارب شبيهةٍ.
ومن هذه الحكومات التي تعرِّف الانقلاب العسكريَّ وتحظر تقديم العون له الحكومة الأميركيَّة التي كانت ضالعةً في تنظيم انقلاباتٍ في الماضي، كما هو الشأن في حالة تشيلي. ولذلك يسعى الحكَّام الجدد في مصر لإقناعها بأنَّ ما حدث ثورةٌ وليس انقلابًا، والدَّليل 30 يونيو. فإذا كان ما جرى في مصر انقلابًا عسكريًّا على حكومةٍ منتخَبةٍ، فإنه لا يجوز لحكومة الولايات المتَّحدة - من الناحية القانونيَّة - أن تقدِّم له المساعدة. ونحن لا نستبعد معرفة أجهزة الأمن الأميركيَّة بالتَّحرُّك الانقلابيِّ المرافق للتَّحرُّك الشَّعبيِّ قبل وقوعه. ولو نجح الانقلاب من دون أن يترك أثرًا لما كانت في الأمر مشكلةٌ سياسيَّةٌ، لأنَّ الرَّأي العامَّ ما كان لينشغل به كثيرًا. ولكنَّ سياسة القمع الواسع النِّطاق والمكارثيَّة السِّياسيَّة التي تلتْه، وممارسات أجهزة الأمن المصريَّة الفظَّة التي لم تتغيَّر، ولم تتجنَّب التَّنكيل، حتَّى بالصحفيِّين الأجانب، كفيلةٌ بإثارة التَّداعيات اللازمة والاهتمام اللازم.
والأهمُّ أنَّ الخطاب السِّياسيَّ المصريَّ يحتاج إلى كلمةِ ثورةٍ، وليس ذلك لإقناع الرَّأي العامِّ فحسب، بل لإقناع المشاركين في 30 يونيو ذاته بأنَّ ما قام به ضبَّاط 3 يوليو هو انضمامٌ إلى الثورة أيضًا، حتَّى لو لم يعلنها المشاركون فيها، وحتى لو اكتفَوا بالخروج للمطالبة بتقديم موعد الانتخابات. فلا بأس، إذن، من إعلانها ثورةً بأثرٍ تراجعيٍّ، فإعلانها ثورةً واحدةً تمتد من 30 حزيران / يونيو حتَّى 3 تموز / يوليو 2013، أفضل من اعتبارها تحرُّكًا شعبيًّا مطلبيًّا مشروعًا، جرى استغلاله غطاءً شعبيًّا لانقلابٍ عسكريٍّ في دولةٍ يمكن فيها تغيير الحاكم الفاشل بانتخاباتٍ ناجحةٍ. وهكذا جعلها الحكَّام الجدد: سياسيّوهم، وإعلاميّوهم، ومثقّفوهم، ثورةً بأثرٍ تراجعيٍّ، رغم أنف جزءٍ كبيرٍ من المشاركين في 30 يونيو الذين خرجوا لتقديم موعد الانتخابات، ولم يخرجوا ليحصلوا على قلْب الجيش للنِّظام. فهؤلاء ليسوا مسؤولين عن تواطؤ جزءٍ آخر من المشاركين كان على علمٍ بالتَّخطيط الأمنيِّ والعسكريِّ، وكان يشاور هذه الأجهزة في عمليَّة جمع التَّواقيع.
[1] صبيحة يوم الأربعاء 14 آب/ أغسطس، قامت قوَّات الأمن المصريَّة بفضِّ اعتصامي أنصار الرَّئيس المعزول محمد مرسي في ميداني رابعة العدويَّة والنَّهضة. وبحسب مصادر رسميَّة حكوميَّة، زاد عدد ضحايا الاشتباكات في الميدانين ومحيطهما فقط، على 740 قتيلًا؛ من بينهم 43 شرطيًّا، في حين تحدَّثت مصادر الإخوان المسلمين في المستشفى الميدانيِّ عن مقتل أكثر من 2200 وجرح الآلاف، وقد أصدر مجلس الوزراء، بتاريخ 17 آب/ أغسطس، قرارًا لوزارة الصحَّة بعدم الإدلاء بأيِّ معلوماتٍ أو بياناتٍ صحفيَّةٍ بشأن أعداد القتلى والجرحى في الأحداث، وأن يكون مجلس الوزراء هو المنوط به ذلك.
"وزيرة الصِّحة: مجلس الوزراء المنوط له إصدار البيانات الخاصَّة بأعداد القتلى والجرحى للأحداث الرَّاهنة"، أصوات مصريَّة، 17/08/2013، على الرَّابط:
وقد نشر المركز المصريُّ للحقوق الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة أسماء 1063 قتيلًا؛ أغلبهم من المدنيِّين، سقطوا في كلِّ أنحاء مصر يوم فضِّ الاعتصام، وبلغ العدد أكثر من 1360 قتيلًا حتَّى تاريخ 19 آب/ أغسطس، وذكر المركز أنَّ العدد مرشَّح للازدياد. كما نشر المركز أسماء أكثر من 1734 مواطنًا اعتقلتهم قوَّات الأمن المصريَّة منذ فضِّ الاعتصام، بتُهم القتل، والشُّروع في القتل، والانضمام إلى عصابةٍ مسلَّحةٍ، والتَّعدي على الأمن وحيازة أسلحةٍ ناريَّةٍ.
للاطِّلاع على أعداد القتلى والجرحى والمعتقلين، راجع الموقع الإلكتروني للمركز المصريِّ للحقوق الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، على الرابط:
قياسًا بساعاتٍ قليلةٍ من القمع الوحشيِّ، يعدّ عدد القتلى والجرحى سابقةً، حتَّى بالمقاييس العربيَّة.
[2] حرص الإخوان المسلمون والسَّلفيُّون على تصوير تصويت الشَّعب المصريِّ على استفتاء التَّعديلات الدُّستوريَّة بالإيجاب أنه انتصارٌ للدين، وقد جَرَت التَّعبئة على مستوى القواعد الشَّعبيَّة بشأن المادَّة الثَّانية من الدُّستور، وهي متعلِّقة بدين الدَّولة، على الرَّغم من أنَّها لم تكن مطروحةً ضمن التَّعديلات.
[3] أصدر الجيش المصريُّ، بتاريخ 23 حزيران / يونيو، بيانًا أمهل به جميع القوى السِّياسيَّة أسبوعًا للتَّوافق من أجل الخروج من الأزمة، كما أصدر، بعد ساعاتٍ من بدْء التَّظاهرات في 30 حزيران / يونيو، إنذارًا لـ"جميع الأطراف"، مدّته 48 ساعةً، للاستجابة لمطالب الحركة الاحتجاجيَّة.
الجمعة نوفمبر 01, 2013 7:53 am من طرف سميح القاسم