سميح القاسم المد يــر العـام *****
التوقيع :
عدد الرسائل : 3149
تعاليق : شخصيا أختلف مع من يدعي أن البشر على عقل واحد وقدرة واحدة ..
أعتقد أن هناك تمايز أوجدته الطبيعة ، وكرسه الفعل البشري اليومي , والا ما معنى أن يكون الواحد منا متفوقا لدرجة الخيال في حين أن الآخر يكافح لينجو ..
هناك تمايز لابد من اقراره أحببنا ذلك أم كرهنا ، وبفضل هذا التمايز وصلنا الى ما وصلنا اليه والا لكنا كباقي الحيونات لازلنا نعتمد الصيد والالتقاط ونحفر كهوف ومغارات للاختباء تاريخ التسجيل : 05/10/2009 وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 10
| | الكتاب الجديد لعبد الوهاب المؤدب : الاسلام بين الحضارة والبربرية كيف الخروج من اللعنة الابدية؟ | |
لا أعرف مثقفا عربيا مسلما واحدا يمشي في خط التنوير الفكري ونقد الأصولية الإسلامية بشكل راديكالي لا هوادة فيه أكثر من عبد الوهاب المؤدب. فعلى مدار السنوات الست الماضية أصدر عدة كتب كلها تمشي في نفس الاتجاه وتعمقه أكثر فأكثر بدءا من "مرض الإسلام" وانتهاء بهذا الكتاب الأخير الذي يموضع الإسلام على مفترق طرق: إما أن يختار طريق الحضارة والتقدم، وإما أن ينكفئ سلفيا على نفسه ويغرق في أحضان الفاشية الأصولية البربرية. وعمن يصدر هذا الكلام؟ ليس عن مستشرق بعيد، غريب، أجنبي، متهم بأنه معاد سلفا للإسلام.. وإنما عن مثقف تونسي ينتمي إلى عائلة عريقة من شيوخ جامع الزيتونة الشهير. ولا أعرف مثقفا واحدا تجرأ على ربط كلمة الإسلام بالمرض سواه. أقول ذلك رغم أن مرض الإسلام أصبح واضحا حتى للعميان حاليا. وهو أحيانا يشبّه الأصولية السلفية المتزمتة السائدة حاليا بالورم السرطانيّ الذي أصاب الإسلام والذي ينبغي استئصاله كي نشفى من مرضنا… تشبيه بليغ ولا أقوى. ولكن لا أحد يتجرأ على قول ذلك. ممنوع أن تقال الحقيقة في بلاد العرب والمسلمين. ليس غريبا والحالة هذه أن يكون التخلف يضرب بأطنابه هناك منذ عدة قرون.. في كتابه الأخير يصعّد عبد الوهاب المؤدب من حدة النقد والتعرية الاركيولوجية درجة إضافية إذ يضع النص القرآني نفسه على محك التساؤل والنقد. فبعد كل ما حصل من أعمال عنف وقطع رقاب باسم الإسلام. وبعد أن كان الزرقاوي يتلو آية قرآنية ثم يقطع بحدّ السيف رأس العراقيّ المسكين أو الرهينة الغربية ما عاد القرآن بمنأى عن المساءلة لمعرفة فيما إذا كان يبرر بالفعل ذلك أم لا.القرآن أصبح الآن في مرمى الهدف بالنسبة لكل مفكري العالم. ولذا فإنّ عبد الوهاب المؤدب يعنون الفصل الأول بكل وضوح وبدون أي مراوغة أو مداورة: كسر المحرم القرآني أو التابو القرآني. فالقرآن تحول إلى تابو مرعب لا يمكن مسه بأيّ شكل: أقصد لا يمكن طرح أي سؤال عليه أو دراسته دراسة علمية تاريخية كما تفعل المدرسة الإستشراقية الألمانية مثلا أو كما فعل علماء أوروبا بالنسبة للتوراة والإنجيل. وهنا يحتمي المؤلف بمرجعية نيتشه العظيم الذي كان قد مارس الفلسفة أو التفلسف وبيده مطرقة من حديد لتحطيم الأصنام المعبودة قديمها والحديث. نقول ذلك ونحن نعلم كيف عرّى العقائد المسيحية من جذورها وأساساتها وأعلن الحرب على بولس الرسول متخذا منه عدوا شبه شخصيّ له. ثم أعلن بصرخته المدوية الشهيرة وفي نص مذهل شكلا ومضمونا عن موت الإله المسيحيّ القديم، اله محاكم التفتيش والإرهاب الفكريّ البابويّ الذي قتل مئات الفلاسفة والعلماء قبل أن يسحق نهائيا على يد فلاسفة التنوير ويحل محله اله آخر جديد أكثر تسامحا ومحبة وغفرانا. ومعلوم أن نيتشه وضع تلك المرحلة التنويرية من حياته تحت حماية فولتير عندما أهداه كتابه "بشريّ، بشريّ أكثر من اللزوم" قائلا: إلى فولتير أحد كبار محرّري الروح البشرية.. بقي أن يخرج مفكر مسلم واحد لكي يعلن هو الآخر أيضا مصرع "الإله" الإسلامي القديم المرعب الذي أنجب بن لادن والزرقاوي وملايين الآخرين. ولا أقصد به هنا الله الرحمن الرحيم الغفور وإنما التشويه الذي لحق به. ففكرة الله ستظل قائمة ولن تموت. في رأيي أن هذا المفكر ظهر أخيرا: انه الكاتب والشاعر والباحث التونسي عبد الوهاب المؤدب. والشيء الذي يعطي كلامه مصداقية اكبر بالإضافة إلى كل ما سبق هو انه يحب الإسلام ومغموس بتراثه من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه. انه لا ينطلق من أي منطلق كاره لدين محمد. على العكس. ولكن الإسلام الذي يحبه هو الإسلام الروحاني، الإسلام الثقافي المبدع الذي أنجب مئات الكتاب والشعراء الكبار، إسلام ابن عربي والتراث الصوفي الإنسانيّ العريق. باختصار فانه الإسلام المنبوذ عموما بل والمكفّر من قبل تيار الأغلبية على الأقل منذ الدخول في عصر الانحطاط. ولكن ألم يكن نيتشه، الذي أعلن موت الأصولية المسيحية محتميا بمرجعية فولتير، هو الآخر أيضا ابن عائلة مسيحية بروتستانتية أبا عن جد منذ مئات السنين؟ ألم يكن والده قسا وراعيا لكنيسة القرية والقرى المجاورة وكذلك جده؟ وحدهم أبناء المشائخ يعرفون معنى الدين وعظمة الدين وسمو الدين وحلاوة الدين إذا ما وقع في القلب وكان روحانيا خالصا وتنزيها أخلاقيا وتفانيا وتعاليا. ولكنهم في ذات الوقت يعرفون جيدا خطورة الدين إذا ما تحول إلى تعصب أعمى وانقلب إلى سلاح طائفي فتاك لا يبقي ولا يذر. وحدهم يعرفون معنى الإكراه والرعب والقمع والردع الذي يمارس باسم الدين وبخاصة في الفترات الانحطاطية والانغلاقية الطويلة. وهذه هي حالة الإسلام اليوم ولكنها لم تعد حالة المسيحية الأوروبية. كل من تربي تربية إسلامية قرآنية في طفولته يعرف معنى الأصولية الدينية والثمن الباهظ المدفوع للتحرر منها. كلنا نحاول أن نتحرر من أشياء مغروسة في أنفسنا منذ الصغر. في البداية نحن جميعا أصوليون.. وسوف يمضي وقت طويل قبل أن نستطيع تنظيف أنفسنا من جراثيم الأصولية اللاهوتية والطائفية المتغلغلة في أعماق أعماقنا. إن الكتب التنويرية الاستكشافية مثل كتاب عبد الوهاب المؤدب تساعدنا على ذلك دون أدنى شك. إنها كتب تحريرية، كتب تشفي من المرض العضال، لأننا جميعا مرضى بشكل من الأشكال..والأجمل من ذلك هو انه يداوينا من التراث بالتراث ذاته مع الانفتاح على الحداثة الأوروبية بطبيعة الحال. فكثيرا ما يستخدم المعتزلة أو الفلاسفة أو كبار المصلحين كالشاطبي ومحمد عبده أو حتى كبار الأدباء والشعراء لنسف الأفكار الأصولية المتعصبة أو نقضها. بهذا المعنى فانه يتبع إستراتيجية: وداوني بالتي كانت هي الداء..فالعلاج موجود في المرض ذاته أو قل انه من جنس المرض. وإذا ما عالجنا المرض بشيء من جنسه فان المعالجة تكون أكثر فعالية. أما إذا ما عالجناه بشيء من الخارج أي بفولتير أو سواه فان المعالجة لا تبدو مقنعة جدا بالنسبة لعموم المسلمين. هذا لا يعني بالطبع أن المعالجة الخارجية ليست مهمة أو مفيدة.على العكس. ولكن يجيء دورها بعد المعالجة الداخلية. في الصفحة 47 من كتابه يتذكر عبد الوهاب المؤدب طفولته بالقرب من جامع الزيتونة ويقول: بما أني سليل عائلة من الفقهاء التونسيين فاني أعترف بان رجل الدين يظل إنسانا محافظا على نزاهته الإنسانية عندما يبقى محصورا بمهمته الدينية. المقصود عندما يحصر مهمته بتقديم التعاليم الدينية والفتاوى الخاصة بالممارسات الشعائرية والقواعد الخاصة بها مستخدما المرجعية اللاهوتية داخل الحقل الديني المقدس فقط. ولكنه ما أن يخرج عن هذا النطاق، أي ما أن يخرج من الجامع، حتى يتحول إلى نمر متوحش يحاول الهيمنة على المجتمع المدني كله. وهذا هو معنى "ولاية الفقيه" في الواقع: أي ذلك المصطلح الذي أعاد الخميني تنشيطه وبعثه من زوايا التاريخ لكي يحكم به إيران ويعود بها عشرات القرون إلى الوراء. هنا يكمن الخطر الأعظم للدين ورجل الدين. انه شخص توتاليتاري استبدادي يريد ان يتحكم بكل شيء بدءا من قصة الشعر او طول ثياب المرأة وانتهاء بعلم الفيزياء والكيمياء والذرة والفضاء التي يعتقد أنها موجودة كلها في القرآن..وإذن فان عبد الوهاب المؤدب لا يدعو إلى الإلحاد إطلاقا ولا إلى حذف الدين من المجتمع وإنما إلى حصره في مجاله الخاص فقط كيلا يطغى رجال الدين على المجتمع ككل ويكبلوه بالسلاسل اللاهوتية والأغلال الفقهية التي عفى عليها الزمن. وهذا ما حصل في إيران والسودان والباكستان في عهد الشنيع ضياء الحق وبالطبع في أفغانستان الطالبان والجزيرة العربية وأماكن أخرى. لكن لنعد إلى المسألة الأساسية: كسر التابو القرآني. هنا أيضا ينبغي أن نكون حذرين جدا لكيلا نسقط في التبسيط المجاني ونعطي الأصوليين السلفيين كرابيج كي يجلدونا بها وينتصروا علينا بسهولة بل حتى قبل أن تبتدئ المعركة. فالقرآن هو قدس الأقداس والعمود الفقري للنظام اللاهوتي الإسلامي كله. ولا يمكن المساس به بسهولة ونحن لا نهدف إلى المساس به هنا وإنما إلى فهمه لأول مرّة بشكل صحيح. وهنا نجد أن عبد الوهاب المؤدب يستخدم إستراتيجية ذكية ومقنعة لدحض خصومه مباشرة: انه يستخدم التراث الإسلاميّ نفسه أو قل التيار التنويريّ فيه كي يكشف عن تاريخية النصّ القرآنيّ ويكسر هالة الإرهاب الفكريّ التي تحيط به منذ قرون. فالنصوص المقدسة لها رهبة وهذه الرهبة سرعان ما تتحول إلى إرهاب فكري يشل العقل تماما إذا لم ننتبه إلى الأمر جيدا. يقول عبد الوهاب المؤدب ما معناه:في معركتنا الحاسمة هذه لأرخنة القرآن أي للكشف عن بعده التاريخي وموضعته ضمن ظروف عصره وبيئته بغية فرز ما هو ابدي خالد فيه عما هو عرضي غير ملزم لنا نجد حليفا كبيرا داخل الإسلام نفسه: انه فرقة المعتزلة التي قالت بان القرآن مخلوق، حادث، وليس قديما أزليا كما يتوهم الحنابلة وجمهور المسلمين. ولكن أطروحتهم وئدت في مهدها ولم تقم لها قائمة منذ ألف سنة وحتى اليوم. والآن لا يتجرأ أحد على بعثها من مرقدها لأنّ الأطروحة المضادة مسيطرة على العقول سيطرة مطلقة بعد أن كرستها القرون.
أعلّق على كلام المؤدب السابق وأقول:أنا شخصيا رغم كل محاولاتي للتحرر من العقائد القديمة الراسخة لا أزال واقعا تحت وطأتها بسبب التربية القرآنية التي تلقّيتها في طفولتي، ويصعب عليّ أن أدرك البعد التاريخيّ في القرآن. وقد سألت مرة محمد أركون عن الموضوع فأجابني بأنّ ذلك عائد إلى ما يدعوه العلماء بصدمة الحقائق المطلقة: بمعنى انه إذا ما زرعت فكرة ما في ذهنك وأنت صغير بصفتها حقيقة مطلقة لا تناقش ولا تمس فانه يصعب عليك لاحقا أن تتخلص منها إلا بشق النفس.. وقد لا تستطيع أبدا. لنتفق على الأمور منذ البداية: في القرآن جانب أخلاقي تنزيهيّ روحانيّ متعال يمكن اعتباره أبديا خالدا. ولا يمكن المسّ به. ولكن هناك التشريعات والحدود وللذكر مثل حظ الأنثيين والتصورات المجازية عن الخلق والكون والموقف الهجومي ضد الأديان الأخرى وما شابه ذلك..وهذا كله مرتبط بظروف عصره في شبه الجزيرة العربية إبان القرن السابع الميلادي ولم يعد صالحا لعصرنا. هذا ما يريد أن يقوله عبد الوهاب المؤدب. لا يمكن أن نجلد شخصا ثمانين جلدة لأنه شرب كأس بيرة في مراكش أو القاهرة، الخ..ولكن عندما يقول القرآن: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره، فانه يؤسس لمبدأ أخلاقي عظيم لا يمكن تجاوزه. انه يؤسس للعدالة الكونية بكل بساطة. وقس على ذلك كل القيم الأخلاقية المثالية الواردة في القرآن والتوراة والإنجيل وبقية النصوص الدينية الكبرى لأنه يوجد مقابل لذلك في البوذية وبقية أديان الشرق الأقصى أيضا. ماذا قالت المعتزلة؟ قالوا بأن القرآن حديث، محدث، مخلوق بلغة بشرية حتى ولو كان مستلهما من قبل الله. إنها لغة طبيعية لها نحوها وصرفها وألفاظها كأيّ لغة بشرية أخرى في العالم. وبالتالي فإنهم يدافعون عن أطروحة حدوث القرآن: أي القرآن كحدث ظهر في لحظة معينة من لحظات التاريخ. ومحمد يقف تجاه القرآن نفس موقف موسى تجاه التوراة: انه عبارة عن إنسان ملهم من قبل الله ويخاطب قومه باللغة التي يفهمونها لكي ينقل إليهم كلاما في صيغة لغوية طبيعية يمكن تقليدها ومحاكاتها وليست معجزة على الإطلاق. الإعجاز هو عبارة عن مقولة لاهوتية قروسطية لا مقولة علمية أو لغوية محضة. الشيء المعجز فعلا هو الوحي الموجود عند الله في اللوح المحفوظ. وهو وحي لا يمكن للبشر أن يتوصلوا إليه. أما القرآن الذي نعرفه فحادث وتاريخي يمكن للعلماء أن يدرسوا كيفية تشكله طيلة القرون الأربعة الأولى من عمر الإسلام وضمن ظروف صراعية رهيبة بين مختلف الفرق الإسلامية. بل ان ابن مسعود بكى وحزن حزنا عظيما لأنهم أتلفوا مصحفه كيلا ينافس المصحف الرسميّ لعثمان. وزاد من ألمه وتمزقه أنهم حذفوا من القرآن آيات كان قد سمعها من رسول الله وأضافوا إليه آيات لم يسمعها بل وأضافوا إليه ثلاث سور بحسب رأيه هي الأولى والسورتان الأخيرتان. فمات غما وكمدا..
أما الأطروحة الحنبلية التي انتصرت وترسخت حتى الآن وأصبحت حقيقة مطلقة لا تناقش ولا تمس فتقول بأنّ القرآن غير مخلوق على الإطلاق وإنما هو أزليّ مثل الله. وبالتالي فهو أعلى مرتبة من التوراة والإنجيل لأنه صادر عن الله بحرفيته وليس فقط مستلهما من قبله. ينتج عن ذلك أن لا علاقة له بالتاريخ لا من قريب ولا من بعيد لأنه الهي حتى بحروفه وألفاظه وقضّه وقضيضه وليس فقط بمعانيه أو استلهاماته. وبالتالي فينبغي أن نطبق كل ما جاء فيه بشكل حرفيّ. فإذا قال اقطعوا يد السارق قطعناها حتى ولو كانت السرقة رغيف خبز! هذا التفسير الحرفي الحنبلي للإسلام هو الذي جمد القرآن في معان وتصورات تعود إلى القرن السابع الميلادي. وخنق بالتالي روح التطور لدى المسلمين. والمسلمون اليوم واقعون في تناقض مأزوم قاتل لا يعرفون كيف يخرجون منه: فهم من جهة لا يستطيعون تطبيق كل الحدود والشرائع الواردة في القرآن لأنها مضادة لحقوق الإنسان ولكل الفلسفة السياسية والنزعة الحضارية الإنسانية برمتها. وهم من جهة ثانية لا يستطيعون الخروج على هذه الحدود والشرائع لأنهم سجناء التفسير الحرفي الظاهري للقرآن ولأنهم يعتقدون بأنها إلهية محضة وبالتالي فعدم تطبيقها يعني عصيان أمر الله تعالى والذهاب إلى جهنم وبئس المصير.. من هنا الوضع المتأزم المحتقن الانفجاري الذي يعيشه كل مسلمي اليوم. إنهم يتخبطون ولا يعرفون ماذا يفعلون. وهذا ما دعوته سابقا بالانسداد التاريخي الذي قد يؤدي إلى انفجار مرعب. بل إن الانفجار حاصل منذ الآن.. وما هو الحل إذن؟ الحل هو تبني أطروحة المعتزلة مع تطويرها لكي يتم الاعتراف بتاريخية القرآن لأول مرة: أي بمشروطيته كنص كتب قبل ألف سنة أو أكثر وفي ظروف تاريخية لم تعد هي ظروفنا على الإطلاق. وبالتالي فنأخذ منه الجوهر وهو كثير والحمد لله ونترك القشور المرتبطة بظروف عصرها في القرن السابع الميلادي أو القرون الأولى التي لحقته. ولكن ما يفعله المسلمون اليوم هو العكس تماما: أي يأخذون القشور ويتشبثون بها حتى الموت وينسون الجوهر المتمثل بالقيم الروحية والأخلاقية العليا التي نص عليها الكتاب المؤسس للإسلام وكررها أكثر من مرة في آيات بينات. هنا يكمن الخلل في الوضع الإسلامي الراهن.
ثم يخلص عبد الوهاب المؤدب إلى النتيجة التالية: وهي أن ما نسمعه أو نقرؤه من آيات قرآنية لا يمكن أن يكون كلام الله الحرفي وإنما كلام النبي الملهم من قبل الله والذي يستخدم لغة عربية تناسب عقلية ومدارك وأفهام أناس عصره لكي يفهموها. فمن الواضح أن عربية القرآن لم تعد هي عربيتنا الحالية في جوانب كثيرة شكلية أو مضمونية. وبالتالي فقد آن الأوان لكي ندمر بالمطرقة الفلسفية النيتشوية تلك الأطروحة الحنبلية التي تهيمن على عقول أكثر من مليار ونصف مليار مسلم اليوم. لقد آن الأوان لتدمير اليقينيات الخاطئة التي تحولت بمرور الزمن إلى أصنام نعبدها.. هذا الموقف إذ يتجرأ عليه عبد الوهاب المؤدب يعرض نفسه لخطر التكفير الفوري وبالتالي إباحة دمه من قبل جمهور المسلمين. ومعلوم ان القادر بالله كان قد أباح دم المعتزلة لنفس السبب عندما أصدر نص الاعتقاد القادري ذي الاستلهام الحنبلي والذي قُرأ في كل جوامع بغداد عام 1017ميلادية. فمن تاب منهم وتراجع عن القول بخلق القرآن عفوا عنه ومن لم يتب سفكوا دمه شرعا حلالا فورا. على هذا النحو تمت تصفية المعتزلة فأحرقت كتبهم ولوحقت شخصياتهم في كل الأمصار الإسلامية. وعلى هذا النحو تمت تصفية العقل والمنطق في ارض الإسلام. ولا نزال ندفع ثمن ذلك حتى هذه اللحظة. لا استطيع للأسف الشديد أن استعرض في مقالة واحدة كل محاور هذا الكتاب الهام. يكفيني فقط أن أشير إلى تفنيده لكل أطروحات السلفيين المتزمتين عن الجهاد الذي يدعو إلى إلغائه فورا حتى في صيغته الدفاعية. فكلمة الجهاد أصبحت ترعب الحساسية المعاصرة في العالم كله بعد كل التفجيرات والجرائم التي ارتكبت باسمه هنا أو هناك. كلمة جهاد ينبغي أن تلغى من لغتنا العربية اللهم إلا كمجاهدة للنفس من اجل إبعادها عن الشر وتصحيح انحرافاتها. وكذلك يفند المؤلف موقف السلفيين من الأديان الأخرى وبخاصة من اليهود والمسيحيين. وهو موقف ناتج عن فهم خاطئ ومتحيز للقرآن أو على الأقل لبعض آياته. وهنا ينبه عبد الوهاب المؤدب إلى أسلوب أحمق يتبعه السلفيون الأصوليون عندما ينسخون كل الآيات المنفتحة المتسامحة في القرآن بحجة أنها سابقة زمنيا على الآيات الحربية المتشددة أو آيات القتال التي جاءت بعدها. وهكذا يحذفون مائة آية ناعمة مسالمة منفتحة على الآخرين وعقائدهم. إنهم يشطبون عليها بجرة قلم. ولا يركزون إلا على الآيات المتشددة التي تعكس صراعات النبي في المدينة مع أهل الكتاب وسواهم! ويرى عبد الوهاب المؤدب أن الموقف المعاكس الذي اتخذه المفكر السوداني محمود محمد طه وقتلوه من اجله هو الأفضل. ومعلوم انه أعطى الأولوية للآيات المكية المثالية المتعالية النبوية الرسولية على الآيات المدنية السياسية الحربية الصراعية..ولكن الموقف الصحيح يبقى هو أرخنة القرآن كله وموضعته ضمن ظروف عصره لكي نعرف ما هو العرضي العابر فيه وما هو الأبدي الخالد كما ذكرنا سابقا. وعلى قاعدة ذلك يتم الفرز..فنطرح العرضي المرتبط بظروف العصور القديمة ونبقي على ما تبقى.
بعد القضاء على المعتزلة تم القضاء على الفلاسفة. وهكذا اكتملت الحلقة فصولا وخنق العقل نهائيا في ارض الإسلام. وعلى أرضية هذا الخنق ترعرعت السلفية الأصولية التكفيرية منذ ابن تيمية وحتى اليوم. هذه هي اركيولوجيا الفكر الإسلاميّ إذا ما استخدمنا مصطلح ميشيل فوكو أو جنيالوجيا الأصولية المتعصبة إذا ما استخدمنا مصطلح نيتشه. وبالتالي فازدهار الأصولية حاليا لا يمكن فهمه إلا إذا موضعناه ضمن إطار المدة الطويلة للتاريخ كما يقول المؤرخ الكبير فيرنان بروديل.. يقول عبد الوهاب المؤدب في الصفحة 46 ما معناه: مأساة الإسلام ابتدأت مع هزيمة الفيلسوف أمام رجل الدين الفقيه. وفي المذهب السني يسهل تحديد تاريخ هذه الهزيمة: إنها مرافقة لموت ابن رشد عام 1198 أي في أواخر القرن الثاني عشر الميلادي. فقد أحرقت كتبه ولم يخلف وراءه ورثة مسلمين وإنما فقط ورثة يهود ومسيحيين يكتبون بالعبرية او باللاتينية. وبدءا من ذلك التاريخ عجزتاللغة العربية ان تكون لغة علم وفلسفة وأصبحت لغة فقه ودروشة.. لكنّ الشيء الذي فات عبد الوهاب المؤدب أن يقوله هو أن هذه الهزيمة كانت قد ابتدأت في الواقع في المشرق قبل ذلك بحوالي المائة سنة عندما هاجم الغزالي كلا من الفارابي وابن سينا وعموم الفلسفة بعنف في كتابه الشهير تهافت الفلاسفة. ولكن هل فاته ذلك حقا؟ لا أعتقد. كل ما في الأمر هو أنه كتونسيّ ركز على هزيمة الفلسفة في الغرب الإسلاميّ دون أن ينسى هزيمتها في الشرق. وهكذا أطبق الظلام على العالم الإسلاميّ بمشرقه ومغربه منذ موت ابن رشد وطيلة عصور الانحطاط التي ما زالت متطاولة أو متواصلة حتى هذه اللحظة..فمتى سيستيقظ العرب المسلمون من نومة أهل الكهف؟ ومن سيرجّ الشرق؟ | |
|