خيمة الشرف في زمن العار... تنبؤات الجواسيس في محطات الكاس والطاس!
محمد منصور
2011-01-04
تنافست برامج النكات الجنسية البذيئة مع برامج التوقعات والتنبؤات الفلكية في إحياء رأس السنة على المحطات اللبنانية.
واستطاع
تلفزيون الجنرال عون (أو تي في) أن يكون الأكثر جرأة وتهتكاً في هذا
السياق بين كافة المحطات اللبنانية، إذ جمع (المجد) من أطرافه، حين سمح
لضيوف برنامج النكات الجنسية البذيئة أن يشربوا المشروبات الروحية على
الشاشة، من دون أي مراعاة لعرف اجتماعي يمكن أن يردع بعض السكارى والحيارى
عن تأجيل الكاس والطاس حتى يخرجوا من الأستوديو، أو أن يحتسوه (تحت
الهواء) حسب التعبير الدارج لعمليات التخفي أو الاحتشام التلفزيوني.
على
أية حال تبقى هذه صورة من صور الشفافية اللبنانية التي لم تستطع المحطات
التلفزيونية العربية الأخرى، حتى ساعة كتابة هذا المقال، أن تجاريها ولا
فخر... لكن ما يهمنا في هذا السياق الشق الآخر المتعلق ببرامج التوقعات
والتنبؤات الفلكية التي تحاول أن تتنبأ بمجريات وأحداث ومفاجآت وكوارث
العام القادم، وقانا الله شرها، خصوصاً إذا كانت على الصورة التي نبأنا
بها فلكيو لبنان الذين أسرفوا في ابتكار سيناريوهات عجائبية أين منها
أفلام الرعب الهيتشكوكية، أو نعيق البوم والغربان في الخرائب الموحشة.
لا
تهمنا التنبؤات الشخصية التي أمطروا بها بعض المتصلين السذج، تبعاً للبرج
الذي ينتمون إليه... فهذه يبقى أصحابها أحرارا في تصديقها أم لا.. خصوصاً
أنها كانت تتحدث عن متاعب صحية ومشاكل مالية وخسارات عقارية تجعل من
الضروري على أبناء برج الحمار أن يمتنعوا عن عمليات بيع وشراء عقارات هذا
العام، أو على أبناء برج اللقلق وأبي سعد أن يتحاشوا القيام بأية تحويلات
مالية حتى لو كانوا يعملون في بنوك ويجرون مثل هذه العمليات عشرات المرات
في اليوم... ما يهمنا تلك التنبؤات السياسية التي لم تقتصر على لبنان، بل
تنبأت لدول الجوار والممانعة والاعتدال.
في تلك التنبؤات لم نكن أمام
عرافين أو فلكيين يقرأون الطالع، بل أمام محللين سياسيين يلوكون تسريبات
حصلوا عنها من هذه الجهة أو تلك... أو أمام كتاب سيناريوهات قرأوا ما تيسر
لها من وثائق موقع ويكيليكس، أو في أحسن الأحوال أمام جواسيس يبثون
شائعات، ويمارسون حروباً نفسية لإضعاف معنويات الخصم.
يبيع الكثير من
المتنبئين الفلكيين بضاعة الوهم، يلعبون على مشاعر القلق والترقب في أزمات
تعصف في المنطقة أساساً، وتصبح أمام عنصر التحول الزمني من عام إلى آخر
مادة دراماتيكية مسلية، على طريقة السيناريوهات التي كان يكتبها بعض
المحللين السياسيين في المجلات السياسية الأسبوعية في سبعينيات وثمانينيات
القرن العشرين، حين كان يعييهم الحصول على موضوع غلاف مثير، في زمن كانت
المجلة السياسية تلعب دور محطة تلفزيونية أو حزب سياسي.
والمشكلة في
النهاية ليست مشكلة المتنبئين الفلكيين الذين يرون في أنفسهم نجوم مجتمع
لا يقلون أهمية عن نواب البرلمانات ونجوم السياسة والفن والرياضة...
وبالتالي يحق لهم أن يعيشوا أمجادهم بطريقة أو بأخرى... المشكلة فيمن
يشتري هذا الوهم، وفيمن يصدقه، وفيمن يأخذه على محمل الجد... لكن من ذا
يستطيع أن يميز بين المزاح والجد... وبين الهزل والقول الفصل في هذا الزمن
العربي العاصف المضطرب تحت سكون الصراعات المذهبية أو الانقسامات القطرية
التي تصنعها الديكتاتوريات الساكنة؟
أم كامل الكرد... أيقونة العام الجديد!
'
الصورة النقيضة لما كانت المحطات اللبنانية تقدمه على شاشة رأس السنة أو
ما حولها، كانت على قناة الجزيرة من خلال وثائقي: (خيمة أم كامل الكرد).
وأم
كامل الكرد باختصار مواطنة فلسطينية مقدسية... طردت من منزلها عام 2009 في
حي الشيخ جراح في القدس المحتلة، جاء من يحملها خارجاً هي وزوجها ويرميهما
في الشارع. بعد يوم واحد من طردهما مات زوجها حزناً وكمداً... لكن أم كامل
لم تيأس ولم تهن، وعلى مقربة من بيتها المصادر أقامت المرأة المقدسية خيمة
احتجاجية مطالبة بحقها، لكن سلطات الاحتلال الإسرائيلي، قامت بهدم الخيمة
عدة مرات، وفي كل مرة كانت أم كامل تعود لبنائها... وعندما تحولت هذه
الخيمة إلى محج للتضامن الإنساني والوطني قامت إسرائيل بإزالتها نهائياً،
من دون أي تبرير قانوني... وفي الفيلم بدا عدد من الناشطين وهم يحملون
أعمدة الخيمة بأذرعهم، حيث انطلق الفيلم إلى مكان الخيمة ليروي حكاية
المقدسيين المزروعين في ترابهم الذين ينسل من تحتهم ذرة ذرة فيما أعين
العرب الشرفاء وغير الشرفاء تتفرج!
الفيلم روى كذلك رحلة التهجير
القسرية التي عانت منها أم كامل ونماذج أخرى من المقدسيين، تعرضت أملاكهم
لعمليات تزوير الوثائق وأوراق الطابو، ومحاولات تهجير قسري، وإغراءات
مالية كبيرة وصلت مع أم كامل إلى خمسة عشر مليون دولار، من أجل أن تغلق
ملف منزلها المغتصب... لكن أم كامل التي رفضت الملايين جلست تتساءل أمام
الكاميرا:
إنسان بلا أرض... عنده كرامة؟! إنسان بلا وطن... عنده كرامة؟!
ولا
جواب على سؤال أم كامل سوى خيمتها... فقد صارت خيمة أم كامل خيمة الشرف في
زمن العار... وكان صوتها الذي يسأل جندي الاحتلال: (انت فيش عندك دين؟)
صوت الكرامة في زمن الذل... وكان نزقها الحي هو المروءة المسكونة بالإباء
في زمن عمليات البيع والشراء.
أم كامل التي كانت طيلة هذا الفيلم في
حركة دائبة لا تهدأ، في طوفان جارف من الألق والغضب والكرامة... هي أجمل
صورة يمكن أن يستقبل بها أي مواطن عربي يائس ومهزوم عامه الجديد... هي
أنبل أيقونة يمكن أن نحملها في ضمائرنا لا لنتجمل بها، أو نتاجر
بمعاناتها، بل لنستمد منها القوة والشجاعة والإيمان.... والإيمان فقط!
السوري الذي أعيا تجار اثينا!
'
بدأ حياته الفنية رساماً للكاريكاتور، لكنه اكتشف في لحظة أن الحياة
العربية صارت كاريكاتورية أكثر من أي كاريكاتور... فقرر البحث عن أفق آخر.
هاجر إلى اليونان في الثمانينات، حمل معه موهبته وحبه للفن التشكيلي وحوله
إلى تعبير عن الهوية والانتماء... فرسم الحياة العربية بوجوهها وأحزانها
وأبنيتها وخيولها... حتى صار اسمه رقماً صعباً في بورصة الفن الأوروبي
والأمريكي... يقول عنه أحد مقتني الأعمال التشكيلية في أثينا:
(لديه
كاريزما ليس في يديه وإنما في روحه... إنه يستخدم ألوان البحر الأبيض...
أنا أطلب منه أن يرسم أكثر، لكنه لا يرسم إلا تحت ضغط الحاجة... ستكون
محظوظاً لو كانت لديك لوحة لجمال جرعتلي).
هذا الرأي لتاجر لوحات قد
يكون أصدق وأبلغ من فذلكات بعض نقاد الفن التشكيلي، الذين لا يفهمون
اللوحات إلا مجموعة طلاسم، فهو يوضح بعبارات قليلة جوانب التميز الفني،
ومكانة هذا الفنان في السوق... خصوصاً أنه في معرض الفن العربي الأخير في
نيويورك بيعت جميع لوحاته بلا استثناء.
ولعل هذا كله يبقى تميزاً فنياً
لموهبة استطاعت أن تجد أفقاً أوسع لها فانطلقت لتحقق النجاح الشخصي الذي
قد يتكرر مع مغتربين آخرين هناك وهناك، لكن الإنجاز الأهم والاستثنائي
لهذا المغترب السوري برأيي كان أثره ودوره في حفظ تراث أثينا المعماري...
كما صوره لنا برنامج (موعد مع المهجر) على قناة (الجزيرة) الذي خصص حلقة
من حلقاته لهذا الفنان السوري.
فقد أخذ جمال جرعتلي على عاتقه ترميم
بيوت أثينا القديمة والمهملة، وحقق نجاحا مبهراً في ذلك لدرجة أن عمدة
أثينا اعتبره (مستشاراً) له، ليس مستشاراً فحسب، بل نصيراً له في مواجهة
تجار العقار الذي يودون الاستيلاء على تلك البيوت بحجة أن ترميمها مستحيل
ومن الضروري هدمها... ولذلك راجت هناك مقولة لن يهدم بيت قديم، يقدر
جرعتلي على ترميمه!
لم يكن هذا النجاح في ترميم المعمار القديم مجرد
عبقرية فنان، بل هو حالة إيمان بالعراقة والجمال في المكان... حالة أنكر
معها جمال جرعتلي أنانيته كفنان قائلاً: (اللوحة يقتنيها شخص... أما البيت
القديم فيمر من أمامه الجميع ويستمتع بجماله الجميع).
قصة جمال
جرعتلي في النهاية قصة دأب السوري المخلص لكل عمل يقوم به، هذا الدأب الذي
يتجلى في الخارج للأسف، حيث لا بيروقراطية ولا عقد مسؤولين ولا فساد يحول
دون أن تأخذ الموهبة حقها، ويعلو العمل المبدع بصاحبه... شكرا لـ (موعد في
المهجر) لأنه قدم لنا صورة عبقري وفنان يكاد يكون مجهولاً في بلده...
وشكراً لجمال جرعتلي لأنه كان في نجاحه في المغترب (وليس بالشعارات
والهتاف) ابناً باراً بوطنه، يحمل سمعته في عقله وإبداعه.